حين نذكر كلمة لها كثير من المعاني أمام جمهور واسع فإن كلّ فئة من ذلك الجمهور تستحضر المعنى القريب إليها. فعلى سبيل المثال فإنّا إذا ذكرنا عبارة «تدوير» فَهِم منها أصحاب الهندسة معنى اتخاذ الشيء شكل الدائرة؛ وفهِم منها النقاد والعروضيّون والمنشغلون بالشعر أن صدر بيت الشعر متصل بعجزه؛ وربما فهم منها أهل الصناعة اليوم أو المحافظون على البيئة ما تعنيه إعادة التدوير من استخدام المواد المستعملة استخداما مكررا بتحويلها إلى مادة خام تصنع منها الأدوات الجديدة مثل، إعادة تدوير النفايات في عمليات التصنيع الجديدة. المهمّ أن لكلّ عبارة واردَها الذي يأتيه معنى أوّل سريعا قبل أن يفكر في المعاني الأخرى. ومن الممكن أن يختلف توارد المعاني عليك حسب الوضعيات التي تعيشها؛ ففي سياق ترى فيه كيف يدوّر صانع المرطبات الكعك، فإنّ معنى التدوير القريب منك هو معناه الذي تراه؛ لكن حين تكون في الفصل مدرّسا، وتطلب من التلاميذ إحاطة الأجوبة الخاطئة، أو الصحيحة بدائرة، فإنّ معنى التدوير الأنسب هو الذي يسارع إلى ذهنك وتترك البقية. وفي سياق الحديث عن شخص ما بأنّ طوله كعرضه، يمكن أن تتذكر رسالة الجاحظ في التربيع والتدوير.
لقد جلت أيّها القارئ معي ومنذ أن شرعت تقرأ هذا المقال في المعاني المختلفة للتدوير، لكن من الممكن أن تنزل بمعنى من معانيها وتجول فيه مثلما سأفعل مع معنى الجاحظ للتدوير في رسالته المذكورة.
يقول الجاحظ في مطلع الرسالة: «كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر، ويدَّعي أنّه مفرط الطول، وكان مربَّعا وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدوّرا وكان جعد الأطراف قصير الأصابع، وهو في ذلك يدّعي البساطة والرشاقة، وأنه عتيق ُالوجه، أخمص البطن معتدل القامة تام العظم، وكان طويل الظهر، قصير عظم الفَخذ وهو مع قصر عظم ساقه يدّعي أنه طويل الباد رفيع ُالعماد، عاديّ القامة عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم والسعة في العلم؛ وكان كبير السن متقادم الميلاد وهو يدّعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد».
يتخصص معنى التدوير بعد أن تقرأ هذا النصّ ليرتبط بشخص تاريخيّ، أو من المفترض أن يكون كذلك؛ هو أحمد بن عبد الوهاب وينحصر في الجملة التالية:» وكان مربَّعا وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدوّرا», لا يمكن لك أن تفهم التدوير إلا بعد أن تفهم التربيع الذي يقابله؛ والتربيع أن يكون الطول والقصر متساويين في الأبعاد، لكنّ التدوير شيء مرتبط باتساع الحجم في جهة الجُفرة، أي الوسط والخاصرة، أي ما بين عظم الحوض وأسفل الأضلاع. والتربيع أن تتساوى الأحجام طولا وعرضا؛ لكنّ التدوير أن ينفرط الحجم من جهة البطن ليتخذ شكل البدن استدارة في ذلك الجزء.
غير أن هذا المعنى لا يمكن أن يستقيم لك وأنت تقرأ نصّ الجاحظ إلاّ بثلاث مهارات: مهارة التصوّر ومهارة التجريد ومهارة الرسم. التصوّر مهارة تتمثل في كونها عملية عرفانية مهمّة ورئيسة في النشاط العرفاني للبشر، وتتمثل في بناء المعرفة والوعي بمعلومات مخصوصة. وفي هذا السياق فإنّ التصوّر يكمن في بناء شكل أحمد عبد الوهاب بطريقة تناظريّة على هيئة مربع، وهو ما يتصوره عن نفسه وعلى هيئة دائرة، وهي تصوّره الحقيقي أو المرجعي كما يراه الجاحظ. نحن في الحقيقة إزاء نوع من التوازي بين زوجين من التصورات: الزوج الأول يحدث في واقع أحمد بن عبد الوهاب أو في مرجعه وهو أنّه مدوّر، بالإضافة إلى ما يحدث في ذهنه من أنّه مربّع.
والزوج الثاني ما يحدث في أذهاننا نحن بعد أن نقرأ قول الجاحظ فيه: تصوّرنا نحن له وتصوّره هو لنفسه، تصوّرنا نحن له أخذناه من المرجع الواقعي الذي رسمه الجاحظ هو التدوير؛ وتصوّره هو عن نفسه وهو التربيع.
ينبغي أن نشير إلى أنّنا وحتى يماثل تصوّرنا نحن للتربيع، علينا أن نشترك مع الجاحظ في الفهم الهندسي له: هيئة مربع؛ والأمر نفسه يقال بالنسبة إلى تمثل الجاحظ للتدوير، وتمثل أحمد عبد الوهاب له وتمثلنا نحن له ثالثا؛ إذ ينبغي أن توحّد التصوّرات الثلاثة من الناحية الهندسية حتى نفهم المقصود. وعندئذ ليس مهمّا أن يكون المربع كبيرا أو صغيرا، المهمّ عندنا توحيد الأشكال مثلما هي موحّدة في الهندسة. لكنّ ما دون ذلك لن يكون موحّدا فتصوّر أحمد عبد الوهاب لتربيعه ليس كتصوّر الجاحظ له؛ في ذهن الأوّل تربيع كبير وفي ذهن الثاني تربيع صغير، ولنا نحن أن نتعاطف مع أحمد عبد الوهاب، أو مع الجاحظ وهو ما يطلبه منا وصف الجاحظ: أن تبنى هيئة المربع: شكله لكن أيضا حجمه.
مهارة التجريد وهي المهارة الثانية، التي يتطلبها منا التفاعل مع النصّ، تعني أن نخرج هيئة أحمد عبد الوهاب من الشكل البشري النمطي، وهو شكل غير هندسي إلى شكل هندسي مقنّن: المربع والدائرة. التربيع والتدوير هو نوع من إعادة تدوير تمثلاتنا للكيانات البشرية لتصبح تمثيلات جديدة. التدوير هنا هو معنى يشبه إعادة تدوير النفايات والبقايا، لكي نصنع منها منتجا جديدا قد لا يكون له شكله ولا هويته الأولى. لكنّ إعادة التدوير هذه تحافظ على المادة اللغوية (رجل، أحمد عبد الوهاب، إنسان..) وتعيد صبّه في قالب جديد لإعادة إنتاجه إنتاجا يدوّر فيه الشكلُ المعنَى: فالرجل المربَّع أو المدوّر لم يعد رجلا كما كان من قبل كامل هيئة الرجولة وتامّ الشكل، بل داخلته عناصر من هندسة الأشكال وتجريدها.
وأنت ترى الرجل، عليك أن تجرد هيئته في شكل: المربع أو الدائرة. هذه هي مهارة التجريد التي لا بدّ أن تصحبها مهارة الرسم؛ فحتى إن كنت لا تعرف الرسم، فإنّ الهندسة وبواسطة الخطوط المتوازية والأبعاد المحسوبة، يمكن أن تعلمك ذلك الرسم: من منّا لا يعرف رسم المربع أو رسم الدائرة؟ كلّ من لا يعرف رسم هامة رجل أو بورتريه أحمد عبد الوهاب هو يعرف بالضرورة رسم الدائرة والمربع: هذا نوع آخر من تدوير معنى الرسم، ومن الخروج من إطار اللامعرفة إلى المعرفة.
إنّ تدوير المعنى من خلال مَا سبق يعني أن تُعيد صوْغ الأشكال والمعاني، وفق ما تقتضيه سياقاتها. فأحمد عبد الوهاب الذي لم تكن لك به معرفة سابقة ولا لاحقة، ولم يكن لك صار معروفا إذ تحوّل معناه من رجل يهجوه الجاحظ برداءة شكله، إلى رجل يقبل أن يربّع ويدوّر. لقد صار قطعة من الصلصال تستطيع بها أن ترسمه في شكل مربّع أو دائرة. الصلصال أحسن الأمثلة التي بها نفسّر تدوير المعاني: نصنع بالطين شكلا لنعبر به عن معنى ثمّ نعيد عجن الشكل بتحطيم هيئته الأولى ونرجع من جديد لنبني شكلا آخر جديدا به نعبر عن ذلك المعنى القديم بأشكال جديدة. تدوير المعنى يعني أن نعيد استئنافه كما كان أوّل مرّة لكن بعناصر وسمات جديدة فيها من القديم وفيها من الحديث عناصر. كل شيء يعيد إليك معنى كان بين يديك ويجعلك تستكشف معنى جديدا لم يكن أوّل مرّة.
من مسائل الفلاسفة التي لها صلة بهذا المعنى شيء اسمه الدوران، أو الاستدلال الدائري وهو أن تعتقد أن الفكرة (أ) صحيحة لأنّ الفكرة (ب) صحيحة؛ وتستأنف القول لإثبات صحة (ب) فتقول إن (ب) صحيحة لأنّ (أ) صحيحة. مثال ذلك أن تقول إن أحمد بن عبد الوهاب مربّع لأنّه مدوّر ثمّ تقول إنّه مدوّر لأنّه مربّع.. وهكذا يأكل المعنى غيره ويغذو الذهن بالمعاني فقط من أجل أن يدور المعنى. وأنت تقرأ هذه الجملة الأخيرة سوف تسأل ما معنى يغذو هل هي من الغذاء، وقد تسأل إن كنت تعرف المعاني ما تراها تدلّ على غير الغذاء من المعاني: عندها تدخل دوّارا جديدا من المعاني.
أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية