جاءت منار في اللحظة المناسبة تماما؛ فقد وصلت وأنا أكتوي بأوجاع الوطن، كما هو الحال كل يوم وكل لحظة.. فقد أصبح الفلسطيني يعيش في ما يشبه الأقفاص؛ فالصهاينة هنا يخنقوننا ويضيقون علينا ويحاصروننا، وهناك في الشق الثاني من الوطن يضعون الحواجز في كل مكان، حتى لقد قال لي صديقي المقيم في نابلس ساخرا: ربما سنصحو يوما على حاجز جديد بيننا وبين حمام المنزل، أو ربما بين الأم ورضيعها، أو بين رئاتنا والهواء.. أصبحت الحواجز عذابا يضاف إلى عذابات أهلنا الكثيرة؛ فالصهيوني لم يترك لنا شيئا نلوذ به أو نحس نحوه بالأمان.. استولى على أرضنا الزراعية، وما لم يستطع الاستيلاء عليه اقتلع منه أشجار الزيتون المعمرة التي نعتاش من زيتها، وحرق قمحنا، وهدم بيوتنا واعتقل أبناءنا ونساءنا وقتل شبابنا… لقد جعل العدو حياتنا نقمة ووجعا صعبا، ولم يترك لنا فسحة من راحة نحس بها بأننا أحياء نتنفس شيئا من الحرية..
وبينا أنا سارح فيما آلت إليه أوضاعنا في فلسطين، عثرت على منار صدفة بين ملايين البشر المتراكمين على الفيس بوك ذلك الوحش الذي يفترس عقولنا ويشرب دم أوقاتنا، ويلعب بأعصابنا ويلهو بنا تارة، وتارة يخنقنا بأسئلته العبثية، وينتقي أجمل ما فينا فيقتله.. لكنه أيضا يوفر لنا أحيانا شيئا من الجمال، كأن أجد منار على وعد مع الهزيع الأخير من الليل، لتخفف عني ما أصابني من قلق وجودي وقهر ومقت..
ظننتها فلسطينية مهجرة ففي ملفاتها عشرات الألبومات التي صنفت فيها مئات الخرائط والصور للقرى و المدن الفلسطينية وصور الشهداء والعظماء الذين مروا بالتاريخ الفلسطيني الحديث، ابتداءً من عز الدين القسام وأمين الحسيني، وانتهاء بأبي الثورة الفلسطينية ياسر عرفات وحكيمها جورج حبش.. لم يدم ظني طويلا، حين سألتها: من أي مدينة أو قرية فلسطينية أنت؟ فتملكتني الدهشة حين أخبرتني بأنها تونسية.. لم تسعني الفرحة حين أدركت بشكل لا يقبل الشك بأننا لسنا وحدنا في معركتنا الطويلة مع العدو الصهيوني.. زادت ثقتي حينها بأن الشعوب العربية على درجة من الوعي بقضية فلسطين وأنا أسترجع ألبوماتها التي تصلح أن تكون دليلا جغرافيا وسياسيا ووطنيا وإنسانيا لمن يبحث عن الحقيقة.. أدركت حينها أننا يمكن أن نسخّر مواقع التواصل الاجتماعي لصالح قضيتنا بشكل رائع ومدروس، وأدركت كم هي الثقافة مهمة في مسيرة الحرب والحب في آن معا..
لم أكن أتخيل أن أجد عربيا بهذا الوفاء للقضية الفلسطينية.. أصبحت منار بعد بضعة أيام صديقتي التي لطالما حلمت بأن أجد إنسانة مثلها بوفائها ونقائها ورهافة حسها الوطني، ناهيك عن صلابتها وعنفوانها.. كانت منار من طينة المجانين الذين يوقظونك في الرابعة صباحا فيرن هاتفك بلا توقف لتقرأ لك قصيدة جديدة لشاعر تونسي أو عربي، يعشق فلسطين أو لتشاركك الفرح بخبر سعيد عن عملية فدائية في تل أبيب.. أيقظتني مرة لتقول لي: أتعرف أن جورج حبش قال: “تحرير فلسطين يبدأ من العواصم العربية”؟ فقلت لها وأنا أتثاءب: طبعا أعرف، وطلبت منها أن نؤجل الحديث ليوم غد لأنني أعاني من حالة نعاس شديد، فقالت: لحظة فقط أرجوك: أريد أن أسمعك مقطعا من قصيدة لأولاد أحمد، ثم اذهب ونم. وافقت على اقتراحها، فقرأت علي:
“نحب البلاد / كما لا يحب البلاد أحد”، والحقيقة أنني لم أكن يقظا بما يكفي، وفي الصباح حاولت أن أتذكر شيئا مما قالته لي، فلم أذكر إلا جملة “نحب البلاد” وكلمة “أحد”، فرحت أردد “أحدٌ أحد”.. “أحدٌ أحد”، وأنا غير مستذكر لمعنى أو مناسبة (أحد أحد).. لكنني بعد أن شربت قهوتي وحيدا؛ تذكرت الصحابي الجليل بلال بن رباح وهو يردد “أحد أحد”، وهو تحت سياط الجلاد.. فرددت ثانية بصوت حزين: “أحد أحد.. أحد أحد”.. ورحت أدندن بها كأغنية وأنا غائب في ملكوت الله..
لم أكن من محبي الشعر، فتعرفت من خلالها إلى شعراء تونس الكبار من أمثال أبو القاسم الشابي والمنصف الوهايبي ومحمد الصغير أولاد أحمد وعدد آخر من الشعراء الشباب المبدعين، ولم يقتصر تعريفها لي على الشعراء؛ فقد أدخلتني في دائرة الضوء وعرفتني برسامين وموسيقيين ومطربين تونسيين، وحدثتني طويلا عن المطرب التونسي لطفي بشناق وأغانيه الوطنية، ولم تتردد في أن ترسل لي روابط أغانيه الشجية، وأنا لم أتردد في سؤالها عن بعض المفردات التونسية التي لم أفهمها.. كنت أجد صعوبة في فهم اللهجة التونسية، لكنها كانت تتحدث اللهجة الفلسطينية بطلاقة وبدون أية أخطاء، حتى لكأنها نشأت في الريف الفلسطيني..
بت أحب الشعر لأن منار علمتني كيف أحب الوطن من خلال الفن.. فحين كانت تلقي القصائد على قلبي؛ أحس بالنشوة والتوهج الثوري.. كانت تفتح شاشة الهاتف في السادسة صباحا فأراها تتسكع في قلب شارع الحبيب بورقيبة كعصفور حر يلفها الشال الفلسطيني.. كانت تشحنني بأمل في الحرية قريب.. وفي اللحظة التي تشغل فيها هاتفها تخطف قلبي، فقد عرفت حينها كيف تكون الأنثى وطنا وأمة في آن معا.. صار انتظارها كل يوم وكل لحظة جمرا وحلما جميلا..
بدأت أحس بأنني أحب منار بشغف كبير.. صرت لا أستغني عن وجودها في حياتي.. إذا تأخر اتصالها أصاب بالقلق.. لقد تملكتني شخصيتها وجنونها المحبب ونقاؤها النادر، وجمال روحها وتفاؤلُها وحبها للحياة، وهذا ما كنت أفتقده، فقد بدأت أتأثر بروح منار وقلبها النقي الباعث على حب الحياة، وصرت أحس بالفرح وأحب الحياة أكثر كلما التقينا عبر الأثير..
ترددت مرات عدة في مصارحتها بحبي لها.. وساورتني شكوك في أنها يمكن أن تبادلني ذات المشاعر.. لقد أحببتها وفتنت بجمالها ورشاقة روحها، ورقي حديثها، وصدق موقفها، وحبها لفلسطين.. ومن ذا الذي يستطيع أن يقف صامتا أمام هذا الهرم الأنثوي الشاهق بكل ما فيه من إحساس ورقّة.. صرت أتخيلها وهي تأكل وهي تشرب، وهي تغني، وهي ترقص، وهي تتحدث، وهي تلهو مع أخواتها، وهي في طريقها إلى جامعة منوبة بالمترو، وشقاوتها مع محيطها.. ملأت عليّ حياتي وغيرت طريقة تفكيري، وجعلتني أحس بأنني على قيد حياة مليئة بالفرح، رغم الجراح والأتراح التي نعاني منها جراء الاعتداءات الصهيونية المتكررة التي كانت تطحن كل شيء..
كانت الهجمة العدوانية التي تشنها طائرات العدو ومدافعه الآن تثير القلق والغضب، إلا أن ضحكات الأطفال الذين حطمت الطائرات ألعابهم تحت بيوتهم المدمرة، ظلت تذكرني بمنار التي عُجنت بماء الضحك والابتسام.. مر أسبوع الآن وأنا لم أسمع صوت منار.. فالمعركة مع العدو لا تترك لي لحظة لأكلّمها أو أسأل عنها.. أعرف أنها الآن قلقة، وتنتظر خبرا مني، لكن خطوط الإنترنت ثم قطعها كي لا يقوم الجواسيس بتمرير بعض الرسائل للعدو، أما الهواتف فلم تقطع لإمكانية مراقبتها بسهولة.. لكنني لا أستطيع الاتصال بها هاتفيا لكلفة الاتصال، ولعدم وجود محال تجارية مفتوحة لشحن هاتفي، والأهم من ذلك الانهماك في مقاومة العدو.
لم تكن منار تعرف أنني مقاتل في المقاومة الفلسطينية، ولم أكن لأخبرها. وفي أثناء قيامنا بإسعاف بعض رفاقنا الذين أصيبوا جراء القصف الجبان المتواصل، سمعت رنة في هاتفي، لم آبه لها، وتكررت الرنة.. كانت منار ترسل لي رسائل على هاتفي لتطمئن علي. وارتعد قلبي حين وقعت الرسالة الأخيرة بجملة “حبيبتك منار”.. ابتسمت وشعرت بشعور غريب لم أعرفه من قبل.. يا الله.. منار حبيبتي أخيرا.. لطالما تمنيت أن أقول لها أحبك، لكنني كنت جبانا، وكانت كما هي العادة قوية صريحة واضحة كموجة رهيفة..
تجاوزت ما جاء في الرسائل، وكان قلبي حينها يذوي وأنا الذي رأى بأم عينه مناقيش الزعتر المضمخة بالدماء ملتصقة بفم امرأة فارقت الحياة للتو، وقد تكون جارتها فاجأتها برطل دقيق بعد أيام من الجوع..
في الأيام الأخيرة من القصف.. كنت أهذي وكان كل شيء حولي يتضاءل إلى أن وصلت حدود الفزع.. لقد فقدنا كثيرا من الأرواح.. كانت تلاحقني كوابيس تجعلني أحس أنني أحتضر، رغم رسالة منار التي زلزلت كياني..
في الأيام التالية لم تكف منار عن إرسال رسائلها التي ترجوني فيها أن أطمئنها، حتى خلت أنها تنتحب بصمت، أو تنفجر بكاءً وهي تبحث عني، وأخيرا كلمتني بالهاتف، فرددت عليها، وأنا في المشفى أساعد زملائي في نقل الجرحى من المدنيين.. صرخت بي: أين أنت؟ كيف حالك؟ لماذا لا ترد على رسائلي؟ أكاد أموت.. لم أعد قادرة على أن أنتظر أكثر لأطمئن عليك وعلى أهلك.. طمأنتها وقلت لها أنا بخير، لكنني لا أستطيع الاتصال بك فأنا منهمك في تأمين السلامة لعائلتي والوضع مخيف، اصبري حتى تنكشف الغمة ويتوقف القصف، ويعود الإنترنت إلى الخدمة، والتيار الكهربائي الذي ينقطع طوال الوقت.. تركتني وهي تبكي، ولم تسعفني دموعي، فقد كان وجعنا كبيرا.. مئات الضحايا وآلاف الإصابات حتى الآن..
انتهت المعركة وانقطع معها الاتصال بمنار، فلم يعد لدي هاتف ولم يبق لدي رجل أمشي بها فقد بترتها يد رحيمة في المشفى بعد أن أصابني ومجموعتي المقاتلة صاروخ غادر، فقتل أربعة منا وأصاب البقية بإصابات مختلفة.. لكنني كنت مخدرا بالحب؛ صرت أحب كل ما حولي من شبهات تشي بالحياة، كانت روحها المحلقة في سمائي كفراشة رشيقة تدفعني للحياة.. كنت كل مرة أعود من ساحة المعركة منتصرا، أراوغ الموت؛ بت أحس بأن حبها منحني صكا لولادة جديدة..
لم أكن أخبرها شيئا عن الحروب التي نخوضها لنعيش، كنت أصطنع دور من سئم من الحديث عن الموت.. والآن أعرف أنها ستجزع لغيابي، وهي التي اعتادت على أن تحدثني بشراهة عن لحظات جميلة بلا أخبار مفجعة.. معها عرفت كيف يمكن أن يعيش الإنسان في وطن مطمئن، أنا الذي يعيش على صفيح ساخن.. لا أحس بطلوع القمر ولا غياب الشمس، ولا يروقني تغريد العصافير، ولا ذلك الموج الساحر الذي يوجد شبيهه على امتداد المتوسط بين غزة وقرطاج..
اكتفيت تلك الليلة التي تلقيت فيها اتصالها، وكانت ليلة عصيبة اشتدت فيها الاشتباكات بأن أقول لها بأن الحرب أمر لا يروقني.. كنت أحس حينها بأنني أواجه مصيرا مجهولا، وأن ثمة شيئا سيحدث لي، أنا الذي كنت مستعدا لمواجهة مصيري؛ أخبرتها بأنني سأوصي لها بمفتاح العودة الذي وهبته لي جدتي لنورثه لابن يشبهنا، كنت أمنّي نفسي أن يجمعنا بيت وأطفال ومفتاح بيت جدي..
في ذات صباح كانت منار تستعد للخروج في مظاهرة لمناصرة القضية الفلسطينية، وكانت تشعر بأنني في خطر، لم تكن تعرف أن كل ما كنت أقوله لها ما هو إلا حبكة أخفي وراءها حقيقة أنني مقاتل في قلب النار، فقد كنت أمثل دور الكاتب المستقيل من قضيته؛ بينما كانت تحس بأنني أعيش حربا طاحنة..
في تلك اللحظات كانت حناجر الطلبة التونسيين تصدح بشعارات متضامنة مع غزة.. أما في غزة فقد كانت دماؤنا تسيل غزيرة.. وكان دمي أحد الشرايين المتصلة ببركان الدم الهادر..
مرت شهور ومنار ترسل لباسل الرسائل التي لا تصل، ولم تسمع عنه خبرا، لكنه ظل موجودا في قلبها، يعيش في حنايا روحها.. وكانت على أمل كبير بأن تجده قريبا على قيد الحياة. وهي تخبئ في قلبها ابتسامة وأملا كبيرا..
كانت تجرب كل يوم الاتصال به، وأخيرا رن الهاتف ورد عليها، ولم تسعفهما الدموع والضحكات والشهيق ليستمعا إلى بعضهما.. صراخ منار وهي في شارع بورقيبة لفت انتباه الناس جميعا.. كانت تصيح “حبيبي” بجنون.. وأخيرا هدأت لتسمع باسل، ولتعرف سبب هذا الانقطاع.. بكى باسل بطريقة هستيرية، وقال بصوت متهدج: كنت أمني نفسي يا منار بأن نلتقي في غزة أو تونس وأن نتزوج وننجب أطفالا، لكن… وعاد للبكاء.. أنا الآن لا أستطيع التفكير في الزواج… وعاد للبكاء..
- لكن لماذا؟ ما الذي استجد؟ ما بك يا باسل؟ أرجوك اهدأ.. أخبرني…
- أنا الآن برجل واحدة يا منار.. لقد فقدت رجلي في المعركة؟
- كنت أعرف أنك مقاتل ورجل حقيقي.. كان قلبي يحدثني بذلك..
- اسمعني يا باسل.. لو كنت بلا رجلين.. بلا يدين.. بلا أي شيء.. أحبك وسنتزوج وسننجب أطفالا وشعرا ووطنا نعيش فيه معا..
أنجبا عمر ويافا قمرين في سماء قرطاج وغزة.. تعانقا وبكيا فرحا وعمر يتخرج من الكلية العسكرية بتفوق؛ ليكمل مشوار أبيه ضابطا في قوات الصاعقة الفلسطينية، وليكون عكازه الحاني في قابل الأيام..