يبدو عنوان كتاب الشاعر والناقد علي جعفر العلاق: «إلى أين أيتها القصيدة» وكأنه سطر شعري من قصيدة عن الشعر وعذاباته. قلت في نفسي بعد أن أتممت قراءته: كأن العلاق حلّ شراب الشعر المركز والمسكر في كتاب نثري، لا يقل أهمية عن كل ما قدمه شعراً ونثراً على مرّ تاريخه، بل إنه أضاف حواشي قد لا يعرفها المتلقي عن حياة الشاعر وآرائه ورؤاه، وآماله وآلامه، وقال من خلال هذا الكتاب ما لا تقوله القصيدة، وما لا يتسع له النقد. والعنوان يكتظ بالدلالات، على الرغم من قصره وبساطته، وإذا كانت السيرة عادة ما تطل على الماضي، والكتاب بين دفتيه تجد ذلك التاريخ الحافل بمسرات الشعر وعذاباته، إلا أن العنوان يشير إلى المستقبل، وإلى البعيد المقبل الذي تشير إليه القصيدة وتطمح إلى بلوغه، وتتضافر الصورة المختارة للشاعر علي جعفر العلاق على غلاف الكتاب مع هذا المعنى، بنظرات تشير إلى أبعد ما يطمح إليه الشاعر ويرنو إلى تحقيقه.
فالكتاب عن تاريخ الشاعر وقصيدته، والعنوان عن مستقبلهما وما يحلمان به. وعادة ما يكون الشاعر مستشرفاً للمستقبل ومتنبئاً به بتلك الحساسية الشعرية وامتلاك زمام اللغة على مر تاريخه وتاريخ قصيدته. لذلك فالمتلقي لهذا الكتاب الفريد والاستثنائي، يقرأ تاريخاً حافلاً للشاعر وقصيدته، في مسيرة لا تتوقف عند حدود ذلك الماضي، بل إنها تتجاوز حاضر القصيدة والشاعر إلى مستقبل الشعر برمته. إنه عنوان يعبر عن القلق لدى الشاعر الحقيقي بالضفاف التي تريد قصيدته بلوغها. فإلى أين أيتها القصيدة؟ إلى أين؟
ولعل الملاحظة الأخرى على هذا العنوان الجميل والثري بالمعنى والدلالات هو الإشارة المكانية التي تتمثل في كلمة: أين. والحقيقة أن الشاعر العلاق مسكون بالمكان، يبدأ الكتاب بالعراق، وينتهي بالعراق، مع أنه يجوب العالم خلال الكتاب، وكأن قصيدة العلاق التي يكتب تاريخها، إنما تبدأ من العراق وتنتهي إليه، في مسيرة حافلة بالمحطات التي أضافت الكثير إلى نهر الشاعر وقصيدته، لكن منبعها من العراق ومصبها فيه. مخلص للعراق ولواسط التي هي مسقط رأسه، كما هو مخلص للشعر وأسئلته، وكما هو مخلص لمبادئه التي ورثها عن والده رحمه الله، التي تأصلت في وجدانه، كما تأصلت في قصيدته. ولذلك تفهم هذا الشجن الذي تحمله قصيدة العلاق، فهو ذلك الشجن العراقي الأصيل منذ جلجامش وأوروك السومرية وجنوب العراق، الذي قدم منه الشاعر، إلى أغنيات الغجر وأساطير دجلة، والعلاق لا يفسر هذا الشجن، لكنه يسرد قصته في التفاصيل التي ساقها عن طفولته، وعن علاقة ذلك الطفل بالعالم من حوله وكل ما أسهم في تشكيله وتشكيل قصيدته.
والعلاق في هذه السيرة لا يكتب عن الشخص وحده ولا عن قصيدته وحدها، إنه يكتب عن تاريخ تعالق الشاعر وقصيدته بالأشخاص والشعراء والأصدقاء والأعداء، ولا يكتب عن العراق وحده، وإنما عن العالم الذي طوف فيه وطوفت قصيدته معه فيه، ولذلك فالمتلقي يجد نبذة تاريخية عن مرحلة مهمة من مراحل الشعر العربي الحديث التي كان العراق محطة أساسية فيها، وتقترب من عوالم شعراء شكلوا الذائقة الشعرية العربية الحديثة. ففي هذه السيرة الكثير من الإجابات عن كثير من الأسئلة التاريخية والفنية والجمالية العربية. وإذا كان الشاعر ذاتيا في شعره، وموضوعيا في نقده، فإنه في سيرته ذاتي وموضوعي في آن، ولذلك فإن لهذا الكتاب أهمية كبرى لا يدركها إلا من قرأ شعر العلاق وكتبه النقدية، فهو كتاب مغاير يشير إلى الضوء وإلى مصادره المتنوعة وإلى أسراره الخفية التي لا يعلمها إلا الشاعر، ولا يقولها بهذا الوضوح إلا حين يكتب سيرته ليربط الشعر بالنقد وبالتاريخ الحقيقي للشاعر. كما أن المتلقي لهذا الكتاب يستطيع أن يستخرج الخطوط النقدية العريضة للعلاق، وتعريفه للشعر، ومفهومه لعلاقة القصيدة بالتراث وبالمعاصرة، فهو كتاب ثري بالملاحظات النقدية عن الشعر والشعراء، وهذه الملاحظات مبثوثة من قبل في قصيدته وفي كتبه النقدية، إلا أنه في هذا الكتاب يضعها بوضوح أمام القارئ الذي يستمتع ويستفيد، ويطل على الشعر العربي القديم والحديث وعلاقته بما حوله ومن حوله.
ومن اللافت للنظر أيضا في هذا الكتاب امتزاج الشعر بالنثر، فأنت إذ تقرأ تعرف سيرة الكثير من القصائد التي يوردها كاملة، أو يورد مقاطع منها، فهو شاعر في نثره، بل إن هذا الكتاب يمتع بلغته الشعرية الخاصة والخالصة، فالعلاق يكتب الشعر، ويكتب النقد كذلك بلغة شعرية عذبة، وفي هذا الكتاب ينتهي الكثير من الفقرات بنثر شعري، فلا يستطيع الشاعر الذي يكتب سيرته الإفلات من الأساليب الجمالية التي قدمها في قصيدته على مرّ تجربته الشعرية الطويلة، وإذا كان النثر بطبيعته يحكي ويسرد ويثرثر، فإنه لدى العلاق يشبه قصيدته في التركيز والتكثيف والتقطير للحديقة في نقاط من العطر يبثها في كل فصل من فصول هذا الكتاب، ولذلك فإنه يعطي المراحل حقها، لكنه لا يثرثر ولا يفضفض ولا يشعر القارئ بالملل، لأنه يقرأ قصة الشاعر وسردية الشعر وصاحبه عبر المكان وعبر الزمان وعبر الإنسان.
وأخيرا، فإن العلاق شاعر مغاير وصف نفسه في الكتاب بأنه كان ينمو في بقعة محاذية لجيل الستينيات، فقد عرف هذا الجيل وعرّفه وقدم أبطاله الحقيقيين والمزيفين، لكنه اختار نفسه وحدد منطقته الشعرية التي لا يتنازل عنها تحت أي ضغط كان، من سلطة أو من مصلحة أو منفعة، وهو في هذا الكتاب يقف في بقعة محاذية لتجربته الطويلة، ويطل على العالم من شرفته الخاصة والمتفردة، ليطل على تاريخه الشخصي والجمعي، فينقد السلطة والخونة والمثقفين المزيفين، وهو في الوقت نفسه، وفيّ لنفسه ولقصيدته ولأسرته ولأصدقائه الأوفياء ولوطنه العراق ولوطنه العربي الكبير، لا يتخلى عن الشعر ولا يتنازل عما رسمه لنفسه ورسمته له قصيدته من طرق ومسارات، شاعر كبير وناقد كبير وعلامة لا تشبه غيرها في تاريخ الشعر العربي الحديث. وهو في هذه السيرة ناثر وشاعر وناقد يطوع اللغة لتتسع لسيرة الشاعر وسيرة قصيدته المتفردة.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”