مولــده ونشــأته
ولد محمود حسن اسماعيل في العاشر من يوليو عام 1910 بشارع الراهب بقرية النخيلة التابعة لمركز أبوتيج بمحافظة أسيوط . وبجوار بيتهم هناك كنيسة كان يسمع أجراسهــا، ويـرى عندها بعض رجال الديــن المسيحي ؛ أما بيته ففيه القـــرآن يتلـى والصلوات تقام، ويلخص محمود حسن إسماعيل حياته وهو يتحدث عن نشأته فيقول :
عشت في قريتنا السنوات الأولى، ولم أكن في معظم الوقت مع أهلي بل كنت أعيش في الغيط بكــوخ على مشارف نهر النيل جنوب أبوتيج أشارك في العمل، أعزق الأرض، وأبذر الحب، أتابع البذرة منذ غرستها حتى الحصاد وتعلمت في الكــوخ ودرست فيه وتقدمت الى امتحان شهادة البكالوريا من الخارج، وحصلت عليها ثم رحلت إلى القاهرة لأدخل دار العلوم
كنت أقرأ في الكــوخ الصحف وخاصةالبلاغ الأسبوعي وكانت هذه الصحف تأتي إلى الباشا صاحب الضيعة المجاورة لحقلنا، وكان واحد يعمل عند الباشا اسمه فريد يذهب كل يوم إلى مكتب البريدلإحضار بريد الباشا وفيه الجرائد والمجلات، وكان فريد يمر بي فأتصفح بعض مايحمل، وآخذ منه جريدة البلاغ لأسبوعي في يوم أو يومين قبل أن يصل الباشا
لم تكن لدي في الكــوخ غير الكتب المدرسية، ولم أقرأ شعرا غير المحفوظات المقررة، ومن هذه المحفوظات بدأ رفضي لكل قول مكرر وتعبير زائف
وتقول ابنته سلوان محمود :
– كان عطوفا حنونا.. فى لحظات حلوة جاد علينا الزمان فيها بالاقتراب من هذا الكيان العبقرى وهذه العيون الواسعة المتأملة الدامعة، ودخان سيجارة لاتفارق أصابعه، وابتسامة عذبة فى لحظات هدوئه القليلة؛ فتحس أننا مثله لا نرتبط بمعنى الجاذبية الأرضية وإنما يحملنا بساط سحرى يتهادى معه، وكانت الذكريات الحلوة التى يحلو أن يسترجعها معنا.
ــ سمعت منه عن الناى الذى أطربه، والأرغول الذى أحزنه، وجسد له حزن قريته فى صباه، يشق أبناؤها الأرض يذرون الحب ويأخذون الفتات.
ــ سمعت منه عن النيل والتأمل العظيم فى رحابه والإحساس بالصفاء أمام عظمته
ــ سمعت عن الحقل والسنبلة، عن الشجرة والزهرة، عن الفراشة والغراب، عن القمح والقطن وهز الريح لعطاء الأرض.
ــ سمعت منه أنَّة الأرض تشقها فأس الفلاح المنهكة، والحصاد كلــه للقصــر المنيف صاحب كل شيء، والمعاناة لا ثمن لهــا إلا ما يقيم الأود ويبقي شعلة الحياة لبذل الجهد من جديد..
ــ كان يرى أن الأرض ليست تلك التى نقف عليها وإنما الأرض فى كل ما هو عربى؛ فالعروبة عنده هى الرمز والكيان الكبير، هى محور الحرية بمعناها الأعلى.
كيف تشكل وجدان الشاعر؟
– من أعماق الحزن المصرى الضارب فى أعماق الريف المصرى منذ آلاف السنين، والذى بدا للشاعر مجسدا فى قريته الصغيرة القابعة فى أعماق الصعيد والذى تمثل فى الإقطاع الذى سيطر على مقدرات الحياة هناك.
– تأثر بأحزان الفلاحين البسطاء وشعر بمعاناتهم بوصفه واحدا منهم فرأى فى دورة السواقى بكاءا على خيرها الذاهب لغير أهله وسمرة الفلاح التى حرقت الشمس بشرته وهو يعمل يغرس ويحصد لغيره ولا يناله سوى الفتات الذى يعينه على الحياة كى يعمل من جديد وصبره على الظلم الذى أخنى كاهله ونحل أوتاره وأحال حياته الى ظلم وفقر مدقع
– كذلك تكوينه النفسى الذى جعله يحب العزلة ومن ثم فإنه كان قليل الأصدقاء كثير التحليق فى الخيال يناجى كل مظاهر الطبيعة من حوله يستعيض بها عن الاصدقاء
– كذلك التناقض في حياته الاجتماعية إبان تكوينه بين سادة للناس وعبيد للأرض
– تأثره بأساتذته في دار العلوم وهي في أوج مجدها وصحبة الزملاء ورفاق الدراسة
– كذلك الحياة السياسية والأدبية التي أثرت في حياة الشاعرالنفسية والفنية فقد عاصرما بين الحربين العالميتين، ونشأت في تلك الفترة حركات أدبية، احتدم الصراع فيها بين القديم والحديث، وأدت الصحافة دورها كاملا في هذه المعارك فعرفت الناس بأدباء خالدين، وشعراء عظام، ومن هذه الحركات ( جماعة أبوللو) التي انضم إليها النوابغ من الشعراء الشباب،
– كما أنه عاش متوسط الحال أرهقه غاية الإرهاق بناء بيت كانت النواحي المادية وبطء الإجراءات ومعاكسات أصحاب النفوس الوضيعة سببا في إحساسه بالضياع.
الخصائص الفنية المميزة لشعره
فى شعره مذاق خاص ما اسرع ما يصافحنا ونحن نتأمل كلماته وأنغامه، مذاق يختلط فيه عبير صعيد مصر بروائح الريف المصرى ، بطقوس العبادات المتراكمة على ضفتى الوادى على مدار التاريخ السحيق ، فرعونية واسلامية وقبطية ، ويختلط فيه تكوين الشاعر المتكىء على ثقافة شرقية اسلامية ، ترفدها تطلعات الشاعر المعاصرة فى الوطن العربى وعلى الصعيد الانسانى كله
ــ هذا المذاق المتميز هو الذى يجعلنا نكتشف أن لشعره قاموسا فريد الدلالات عميق الهمس بالصور والرموز
ــ ولمحمود حسن اسماعيل مذاق آخر فى شعره يغلفها روح الانسان المصرى البسيط فى صدامه مع متطلبات الحياة الصعبة وارتطامه الدائم بالظروف القهرية التى عاصرها الشاعر ابان فترة السادة والعبيد فى مطلع القرن الماضى
ــ ان التجربة الشعرية عند محمود حسن اسماعيل تستمد قيمتها وغناها من الرؤية الكلية للانسان والحياة والطبيعة بصفة عامة من خلال منظور شمولى لا يتجزأ ، فهو يطالع فى الوجه الواحد عشرات الوجوه ، وفى المعنى الواحد عشرات التنويعات من المعانى ، وفى الصوت الواحد جنازة كاملة من الاصوات أو سيمفونية متداخلة من الحوارات
النزعة الصوفية فى شعر محمود حسن اسماعيل
وما سبق لا يدعنا نتعجب من كون محمود حسن إسماعيل صوفي المزاج نشأة ووراثة وتأثيرا، وليس عجيبا أيضا أن يكون صوفي الكلمة والنغمة، يصدر عن ألم دفين وزهد، وجد فيه وفرض عليه وأملته على نفسه السامية دواع من ماضيه النقي وحاضره المزدحم بالمتناقضات، وآماله التي اصطدمت بصخور الزيف والباطل وخلل الموازين، ومن أمثلة هذه النزعة الصوفية ما يظهر فى ديوانيه أغانى الكوخ وقاب قوسين والأخير هو قمة النضج والتدفق، وهذه بعض الأدلة:
ففي قصيدة الكوخ يقول:
ضمت حواشيه على عابــد
محرابه من فاقة دائر
رهبان عابدون حازوا الهدى
ليلا فما في ديرهم كافر
من لم يقم منهم صلاة الدجى
في النوم أداها له الساهر
يغفلون والكلب على مهدهم
سهران لا يغفو له ناظر
هذا هو الكوخ بداخله عابد فقير وهناك عباد يصلون ويصلي عنهم الساهر إذا غفلوا والكلب سهران لا يغفو وكأنه قطمير (كلب أصحاب الكهف ) باسط ذراعيه – صورة من رحيق سورة الكهف في مزاج الشاعر.
وفي قصيدة (النفس والخطيئة ( يطلب الشاعر من الله تأجيل موعد اللقاء، لأن الخطايا تواكبت عليه والتوبة ماتت في مهدها بين يديه فهو يريد عمرا ثانيا، ولعلها من وحي قوله تعالى في الآية 100 من سورة المؤمنون: “رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت”، يقول الشاعر:
كل الخطايا في يدي
يا رب أجل موعدي
فتوبتي موءودة
في مهدها لم تولد
مازلت أدعو الله
للروح منذ مولدي
ولكن الشيطان لا يترك التائبين النادمين على ما بدر منهم فهو يسدد سهامه لكل تائب ويغري بالمعصية كل ناسك، ويقابل الشاعر ذلك بمزيد من الاستنجاد طالبا بعض النور في ظلمات الحياة واثقا أن باب السماء لم يوصد:
رباه بعض النور
قد طم الدجى في خلدي
سبحت بالإيمان في تيه عميق أبدي
قلبي إلى نورك نشوان بحب سرمدي
منطلق إلى سماء بابها.. لم يوصد
فإذا وصلنا مع الشاعر إلى (شاطئ التوبة)، عنوانه لقصيدة أخرى يبكي ويذرف الدموع حزينا مستهولا معاصيه، إنها تعوي كالذئاب وتفح كالأفاعي وتنوح كالثكالى:
يا رب هذا.. إثمي وهذا تقايا
وذاك دربي وهذي على الطريق عصايا
ما كنت أعمى ولكن أعمى أغني شجايا
رباه عفوك إني .. للنور مددت يدايا
وإذا تساءلنا ماذا يريد وماذا يكره؟ أجابنا:
أريد لقاء الله لا لمتابة
ففي كل سر منه تسكن توبتي
أريد لقاء الله دعوة حائر
تلاشت خطاه عند باب الحقيقةِ
أريد لقاء الله تضرع راحتي
ويضرع سرا مؤمن في سريرتى
هكذا يتغلغل خلق الصوفي في نفس الشاعر وفي شعره، وما يؤكد ذلك أن المعجم اللغوي للشاعر يكاد يكون معجما صوفيا وهو ليس بالمعجم الضيق ولا المحدود فما أوسع آفاق المتصوفين وما أكثر رموزهم
ونختم هذه المشاهد من صوفية الشاعر بهذا المشهد من ديوان ( أين المفر)؟
حيث يصور فيه الشاعر النخيل وقد توقف عن الحركة لشدة القيظ بأنه صوفي ألحد وهي صورة مبتكرة ترجع إلى رصيد التصوف في نفس الشاعر:
وألحَدَ صُوفِيُ النخيل فما أرى
به هزة كانت إلى النسك تنتمي
لقد كان رعاش الأيادي تبتلا
إلى الله لم يندس ولم يتأثم
فما باله أصغى وأصغت ظلاله
كمنتظر حكم القضاء المحتم
ذكرنا بعض ما يبين أن الشاعر استخدم كثيرا من ألفاظ العبادات في المعنى، وقد استخدم الشاعر في قصائد أخرى ألفاظا منها الركوع والسجود والصلاة، كذلك الضراعة والترانيم والطواف، وكلها شواهد وآليات تؤكد صوفية محمود حسن إسماعيل.
المناصب والأعمال التى تقلدها الشاعر
عمل محررا بالمجمع اللغوي 1937
عمل بمراقبة الثقافة العامة 1938عمل مراقبا عاما، ثم مديرا عاما للبرامج الثقافية بالإذاعة المصرية 1944
عمل مستشارا ثقافيا لهيئة الاذاعة المصرية منذ عام 1969
عمل عضوا بمجمع بحوث اللغة العربية بالكويت بعد تقاعده وحتى رحيله
– له عدد من الدراسات الأدبية والمقالات والقصائد التي نشرت في العديد من الدوريات العربية مثل: السياسة الأسبوعية – أبوللو- النهضة الفكرية- الرسالة – الهلال – المصور- الإذاعة – الأقلام العراقية – البيان الكويتية- الرسالة الجديدة – الأدباء العرب – الوعي الإسلامي الكويتية – المسلمون- الأديب اللبنانية – مجلة المجلة – كذلك الإشراف على تحرير مجلة الشعر
حصل على جوائز منها
وسام الجمهورية من الطبقة الثانية عام 1963.
وسام الجمهورية من الطبقة الثانية عام 1965.
جائزة الدولة التشجيعية عام 1964.
وسام تقدير من الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة
دواوينه:
الديوان الأول: أغاني الكوخ 1935
الديوان الثاني: هكذا أغني 1937
الديوان الثالث: المـــلك 1946
الديوان الرابع: أين المفر 1947
الديوان الخامس: نار وأصفاد 1959
الديوان السادس: قاب قوسين 1964
الديوان السابع: لابــــــــد 1966
الديوان الثامن: التائهون 1967
الديوان التاسع: صلاة ورفض 1970.
الديوان العاشر: هدير البرزخ 1972.
الديوان الحادي عشر: صوت من الله 1980.
الديوان الثاني عشر: نهر الحقيقة 1972
الديوان الثالث عشر: موسيقى من السر 1978.
الديوان الرابع عشر: رياح المغيب 1993.
الرحيـــل
في الخامس والعشرين من شهر أبريل من عام 1977 غادر الشاعر محمود حسن إسماعيل دنيانا، ونقل جثمانه من الكويت إلى القاهرة، وفي السابع والعشرين من نفس الشهر، شيع عشاق الشعر والأدب جنازته، فشيعوا حين شيعوه، عالما من الأدب الرفيع، وترك لنا محمود حسن اسماعيل فنا زاخرا بكل معاني الحياة وبكل نبضة من نبضات القرية بدقائقها وتفاصيلها وكل ومضة من أمل الإنسان المصري والعربي والعالمي، فإن طموحات الإنسان- أي إنسان- جزءمن طموحات الإنسانية يتغنى بها الشاعر السامي عبر العصور وبأصدق الألحان
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”