تنتمي جميلة الماجري إلى أبناء جيلنا الذي يمثل في تقديري المرحلة الثانية في حركة الشعر التونسي الحديث، والشعر العربي عامة؛ أي جيل أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات. وقد ألمت بتجربتها الشعرية شأنه شأن هؤلاء مؤثرات كثيرة: رومانطيقية فى مرحلة الشباب، وتحديدا «غنائية» مدارها عالم الذات والوجدان وشجون الوطن، لكن أثر هذه المرحلة لم ينقطع تماما في قصائدها اللاحقة؛ حتى عندما تطورت تجربتها، واكتسب معرفة أغنى بالشعر وعوالمه، وهي المتضلعة باللسانين العربي والفرنسي، وعرض له من بدَواتِ الأدب وحَدثانه ما عَرض لمجايليها منا، الذين أخذوا من الآداب الأجنبية بنصيب كبير، وتأدبوا بآدابها؛ فهي لم تهجر الأدب العربي القديم، ولا مؤثرات شاعر كلاسيكي مجدد مثل أحمد شوقي وإلياس أبي شبكة وجبران، وشعراء المهجر مثل إيليا أبو ماضي والشابي، وشعراء المدرسة العراقية، مثل بدر شاكر السياب، والشامية مثل نزار قباني
ونحن نقف في أكثر قصائدها، على شعرية تُطل في اتجاهين اثنين، سواء في قصيدة التفعيلة أو قصيدة البيت: اتجاهٍ مُنشد إلى «المعنى» وإلى مواثيق الكتابة وتقاليد القراءة؛ حيث النص يجسم موضوعا أو يستنطق فكرة، واتجاهٍ يجعل أساس الكتابة الصورة الاستعارية قريبة المأخذ، وإن وشاها استرسال خيالي لا منطق له إلا منطق النص، من حيث هو نشوء وتكوين أو حركة حرة؛ قد تترجم في جانب منها انتشار الذاتية الشعرية، كما هو الشأن في أكثر نماذج الشعر عند مجايليها. وأقدر أن من أظهر سمات الشعرية في تجربتها التقليد وخرقه في آن، وما يفضى إليه ذلك من مراوحة بين الوظيفة المرجعية المنوطة بمحتوى الخطاب والفكر، الذي يحيل عليه، والوظيفة الجمالية حيث اللغة غاية في ذاتها، ولعل ذلك كان سببا من أسباب حفاوة الشاعرة بالتعبير الكنائي، أو الرمزي دون إبهام أو تعمية، وهو التعبير الذي لا يقاوم القراءة، ولا يحول دون استعادة المعنى، لما تقوم عليه الكناية من المجاورة، ومن الوظائف التي تعلق بها سواء أكانت إفهامية أم إخبارية مرجعية، في غنائية تحتفي بالأشياء وتفاصيل اليومي المعيش وشوارد الحياة كما في «مساء»:
قهوةٌ للمساء الكئيبِ
وبعض الكُتُبْ
وصدًى
من عتيق الأغاني
وَوَشوَشَةٌ
مِن نثيثِ المطر
طيْفُ ذكرى هوى
ربما لم يزل فيه للقلبِ
بعض الأرَبْ
فَيْضُ دمعٍ عنيدٍ هَمَى
كلما
قلتُ جف انسَكَبْ
ما الذي يبعثُ الحزنَ
في الروح هذا المَسا
كلما
قلتُ خَف انبَرَى لي إليه
سببْ
فللصورة في هذه القصيدة «المائية» حيث يجرى السمع والبصر في جدلية واحدة، من سيولة الإيقاع أو ماء الشعر، ما يجعلها قادرة على أن تجاري الرؤية في سيولتها؛ فلا الإشارة تنفصل عن الصوت، ولا الصوت ينفصل عن الشيء المرئي (القهوة/ الأغاني العتيقة/ نثيث المطر/ الدمع). والصورة بهذا المعنى تعدو كونها ظلا للأشياء، حتى وهي تقوم دليلا على واقع شاخص ماثل للعيان، وعلامة على طريق المعنى. وهذا ما يجعل الشاعرة تجري الصورة على قرينة صارفة عن إرادة المعنى الأصلي، ذلك أن القرينة أشبه بعلامة تُنصَبُ حتى يُهتدَى بها إلى المعنى المضمر ويستدل، على الرغم من أن غياب القرينة ليس قرينة غياب أي غياب المعنى المجازي في شتى الاستعمالات الراجعة إلى ما نسميه «شعرية اللغة»؛ وما نخال أثر هذه الشعرية في لغة مثل العربية، إلا حاسما في إنشائية الخطاب عند جميلة وعند المتضلعين بالعربية. ومن ثمة لم يكن بالمستغرب أن يناط بالصورة تمثيل المعنى تمثيلا حسيا، ما دامت وظيفتها من وظيفة المنطوق الذي يتمثل مقصدا تواصليا، أو هو يرجع بالقارئ إلى الحضور التواصلي، ومثال ذلك هذا النص الحي النابض:
ما لم يكن
بيْني وبيْنكَ
ما تبقى من حديثٍ
لمْ نقُلْهُ
ما تَأجلَ من مواعيدَ
انتظرنا أن تجيء
ولم تجئ
أو قهوةٌ
كنا سنشربُها معا
أعدَدْتُ مجلسَها
وحالَ الطقسُ دون لقائنا
وروايةٌ
كنا سنكتبها معا
ثم اختلفنا حوْل بعض فصولها
كُتُبٌ
عَزَمْنا أن نطالعها معا
وتفرقتْ أذواقُنا ..
بيْني وبينكَ في الهوى
ما كان يُمكنُ أن يكونَ
ولَمْ يَكُن
ومثل هذا الأداء لا يمكن إلا أن يتسم بحضور المتكلم/ المتكلمة، والمخاطب والمعنى في آن؛ حتى إن لم تتوفر في الأداء الكتابي جميع عناصر الاتصال من سياق ومرسل ومتلق، إذ ليس ثمة إلا الرسالة من حيث الصيغة اللفظية، أو الشكل اللفظي. والكتابة نفسها ضرب من تغريب المألوف أو ما يعتقد أنه الطبيعي في حال المنطوق. وهي لا تقوم على غياب المتكلم والمخاطب فحسب، حتى وهي تقلب السمع بصرا باعتبارها نظاما من العلامات البصرية التي تتحدد دقة الكلمات بواسطتها، لكنه نظام خاص يجعل الكلمة «شيئا» أكثر منه «حدثا» ويفصل العارف عن المعروف والمتكلم (المنشئ) عن السامع (القارئ). وفيه يصنع المعنى أو هو يتعين من حيث هو «معنى بالقوة» خاصة في مثل هذه النصوص حيث تترافد الوظيفتان: الجمالية والمرجعية، في سياق تتحرر فيه الكلمة من أسر تاريخ استعمالاتها.
وكذلك الشأن في قصائد مثل:
طفلين كنا .. في خريف العمر هل أدركت معنى أن نعود إلى طفولتنا ونكسر ما تراكم من جبال الثلج في القلبين؟
نجري هاربين من السنين وراءنا خمسين.. أو.. ستين.. أو..
لا عمر للشعراء إن جنحوا إلى أرض المجاز..
وأفلتوا من سطوة المعنى.. ومملكة اللغاتْ!
لا عمر للقلب المحب مكابرا.. نزقا.. ومفتونا بألوان الحياةْ
فهي تراهن أيضا على الأشكال الحديثة، لكن بحذر، فهي ـ وهذا حقها ـ تريد أن تقول ما يُفهم، وأن يُفهم ما تقوله، أي دون أن تأخذ بـ»المنحى الانقلابي» عند بعض المعاصرين، كما هو الشأن عند «السرياليين» العرب؛ فهي لا تطمئن لـ»قصيدة النثر» بل تتحاشى الانخراط فيها؛ وهذا ليس وقفا عليها، فثمة شعراء كبار مثل أحمد عبد المعطي حجازي ومحمود درويش وغيرهما، يرفضون الانخراط في هذه الشعرية «الوافدة» أو هم يتحفظون عليها.
جميلة منشدة بحكم تكوينها الأدبي المتين إلى الإيقاع الوزني، سواء تعلق الأمر عندها بقصيدة البيت أو قصيدة الشطرين (ما يُصطلحُ عليه خطأ بالعمودي) أو «قصيدة التفعيلة؛ وللقافية في تجربتها، شأن في تحقيق التناسب والتناغم المطلوبين في الشعر «الموزون». وهذا مما يستوقفنا في كل قصائدها القديمة والجديدة، كما في هذا النص حيث القصيدة تتملى ذاتها في ما نسميه «الخطاب الواصف» أو «الشعر على الشعر» وقد يكون المنفذ إلى النص من داخله وفي ضوء منطقه؛ إذ يضفي هذا الخطاب عليه هيئة موضوعية، ويجعل الشعر يضيء الشعر أو هو يحاول أن يحوز تلك الحالات التي يحوطها الصمت عادة أثناء الكتابة، لأن الكتابة لا تقول ذاتها ولا تعيها وهي تنشأ.
تؤرقني القصيدة..
ما ادعيت مناما عن شواردها العنيده
ويكذب من يقول أبيتُ خُلوا وتأتيني على طوع مريده
أقضي في رضاها الليل شهدا وتتركني مسهدة وحيده
ألاحق سرب غزلان طريدا ولي في الشرب أغنية شريده
أطاردها ويحلو لي الطراد لأظفر بالمناوئة البعيده
أكابد في تصيدها الليالي لأطلقها مجلاة.. قصيده
فثمة حرص على القافية من حيث هي لازمة إيقاعية أو فاصلة إيقاعية بين السطر والسطر الذي يليه. والقافية لا تعدو في الظاهر أكثر من أداة في تثبيت الصوت أو إيقافه، إذ لا يخفي أن الصوت ـ أي صوت- ينتج عبر علاقة بالزمن مخصوصة، فهو يكون حيث لا يكون، أي هو لا يوجد إلا عندما يكون في سبيله إلى الزوال. وفي قصائدها كلها تستغرق القافية، من حيث هي «وقفة» الصمت الذي يفصل بين الأسطر مثلما تستغرق أذن المتقبل، وتجعل الصوت يستأنف عبر رويها المتعاود، لحظة ميلاده. ومن الصعوبة بمكان حشرها في مدرسة شعرية بعينها، لكن ذلك لا يعني أيضا أن تجربتها الشعرية خارج كل تسييج؛ وهي الحريصة على أن يكون نصها في سياقه التاريخي؛ لا فقط بمعنى أنه يؤرخ لزمانه أو يشهد له وعليه، وإنما بمعنى أنه يصدر عنه في لغته وبلاغته. صحيح أن لغتها تدين لذاكرة الشعر العربي مثل مجايليها منا، وهذا يحمد لها ولهم. على أن هذا المنحى يطرح على الشاعر المعاصر مهمة شاقة جدا، وهي أن يتقصى عن زمنية «شعرية» يتجاوز بها زمان القصيدة العربية التاريخي، ويغادر بفضلها أيضا زمانه هو، ليلج ما نسميه «الزمنية الشعرية» أي الزمنية التي نرى ضمنها إلى القصيدة العربية القديمة من داخلها، ولعلها دون ذلك هو سطح أبكم. ونقدر أن هذا ما تنشده جميلة في قصائدها الجديدة.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”