إن ما يميز شعر محمد علي الرباوي هو اشتغاله ضمن نسق ( سردي ) مسترسل، يحتاج الباحث فيه إلى تتبع مسيرته، والتنبه إلى كل فجواته الضائعة التي تشير إلى كثير من الدلالات ذات الأبعاد الإيحائية والترميزية. مثل هذه الخلاصة تثير جدلا ثنائيا:
- على مستوى الأداة التي تتحكم في قراءة نصوصه.
2. على مستوى المتن المدروس، وإشكالية اختيار النص المحور الذي بإمكانه أن يحمل ذات الشاعر وهمومه.
من هنا اشتغلنا ضمن سياق نصي معين، مقتفين آثار الشاعر في متون أخرى. واختيارنا للنص / المحور كان من ورائه استخلاص بعض مقومات شعر محمد علي الرباوي. وكان بالإمكان استحضار آخر مجموعة شعرية له ( قمر أسرير)، لكن بحثنا انصب على التي قبلها بقليل ( من مكابدات السندباد المغربي)، باعتبار السندباد المغربي إنما هو المعادل الموضوعي للشاعر ذاته، فقد اختاره دليلا على رحلة شاعرية امتدت من ( الولد المر ) مرورا بـ( أول الغيث) ووصولا إلى المجوعة ( من مكابدات السندباد المغرب). وهي عبارة عن قصيدة طويلة تتميز بتعدد المقاطع وتنوعها. كما تتميز بخطابها الدائري الذي ينتهي من حيث بدأ:
يقول في أول مقطع:
لله ما أعطى
لله ما أخذ ( ص 7)
لينتهي في آخر مقطع بقوله:
لله ما أعطى
ولله ما أخذ ( ص56)
وللواو هنا دور أساس، إذ به يختم الشاعر رحلته، كأنه يتنهد بعد طول سفر فيخلد للراحة. وهو حينا آخر يطلب المدد في قصيدة( مدد من مشكاة الغيب) من ديوان ( أول الغيث ) حيث يقول: ( مهو آخر مقطع في الديوان، أي خاتمته، كما في الديوان الحالي):
لك الحمد إذ تعطي
لك الحمد إذ تمنع
لك الحمد يا مولاي
لك الحمد كل الحمد ( أول الغيث، ص 43 )
إن تكريس هذا الأسلوب في المتن الشعري لمحمد علي الرباوي إقرار لحالة نفسية عنده، أساسها المعاناة الذاتية، ومنتهاها الحلول في ذات الآخر. فكان هذا الآخر في مجموعته (من مكابدات السندباد المغربي) ثائيا. يبدأ من الأب:
على كتفيه حملت صغيرا ( ص8)
أمس ..حملت أبي
على كتفي؛ ( ص9)
حملت على كتفي ولدي زكرياء ( ص9)
فتحول دلالة (الحمل) في المقاطع الثلاثة ينم عن سلطة لا متناهية للشاعر على نصوصه، ذلك أن (الحمل) انتقل من حمل الأب له صغيرا، فحمله هو على نعشه إلى قبره. فكان لله ما أخذ. ثم بعد ذلك تحول إلى حمله لولده زكرياء، وبذلك اكتملت الدائرة لتبدأ من جديد في دورة حياتية جديدة.
إن الوقوف عند هذه الدلالات يقى أمرا عاديا، ما دام ( الحمل) يتخذ من لفظه صفة مجسدة معروفة. لكن حين نصل إلى المقطع الموالي:
ولدي..
احملني..
كن أنت أبي.. (ص 10)
نجد أنفسنا محاطين بنوع من الغموض الدلالي. وباستطاعتنا أن نؤوله اعتمادا على السياق النص ذاته، وما يهمنا هنا أن ننظر إلى المستويات الدلالية المستترة للكشف عن المكنون. من أجل ذلك نستنطق المقطع الموالي:
آه ولدي
ستخاطبني: بابا
وأنا، في هذا العمر الداكن
في هذا العمر الغمة
من سأخاطبه: بابا؟
” بابا.. بابا.. بابا..”
ما أقسى هذه اللفظة
إذا سمعتها منك اللحظة!
ما أقساها يا ولدي!
ما أقسى اسمي
إذ يحمل اسم أبي!
ما أقساه!
يا ولداه! (ص19)
إن عملية (القلب) التي لجأ إليها محمد علي الرباوي تتيح لنا الفرصة كي نقلب دفاتر أيامه ونستنبط المكنون من خلال معاناته الأخيرة. سواء من حيث ذاته أم من حيث ارتباطه بالواقع الحزين. فهو يتألم من واقعه ومن أحزانه:
تتدفق في قلبي أمواج الهم
يتأجج في جوفي حزني المبتل (ص20)
فإذا كانت القصدية قد تبدت غيومها، فالقول الشعري عند الشاعر لا يزال في نموه، واكتماله رهين بخلق الصلة التي تبنينا في أول المقال الدفاع عنها. وقد سنحت لنا الفرصة في اكتشاف صلة:
الأب الابن ( الشاعر) الابن العودة للأب / الابن
وهذه العلاقة مانت تصدر عن الشاعر في أشعاره الأولى ثنائية فقط:
الشاعر الابن المفقود (الولد المر و أول الغيث))
لكن الحقيقة التي نصل إليها في الحين تنم عن تدفق شعري من نوع آخر، ذلك أن الشاعر هو ذاته الولد المر وهو الذي كان يتحين الفرصة لأخذ قسط من العطف والحنان من كل من هو حوله. فكان الأب لكنه مات، وصار الابن( زكرياء) الأمل.
تفضي بنا هذا الخطاطة التأويلية إلى انتشال الشاعر من بين أغوار شعره، والتنفيس عنه من خلال استنباط أسس حلمه الضائع. فشاعرنا هنا بمنزلة المحول ( بكسر الواو) والمحول (بفتح الواو)، وشعره هو المتحول دلاليا من مستوى ثابت أساسه اللغة العادية اليومية المعجمية، إلى لغة شعرية تكشف عن طرائق متعددة للقول.
هذا الموقف مهم حين نستحضر أيضا بعضا من القرائن التي تكشف عن صحة قولنا. وهذا الأمر يجعلنا نعود أدراجا إلى مجموعته الشعرية ( الولد المر) حيث يقول في قصيدة (العيد):
فابصر كف الرياح اللواقح
تجمعني حبة، حبة، حبة، من رمادي
تقول انطلق
أيها الرجل المر: إني انطلقت، انطلقت، انطلقنا،
فمن معنا منكمو ينطلق؟. ( الولد المر، ص 24)
إن تعبير ( الرجل المر) عوض ( الولد المر) والحديث عن ذاته بالخطب السردي المباشر، يجعلنا نصطفي الشاعر ضمن خانة أولئك الذين تشظوا من أجل البحث عن ذواتهم الشعرية داخل أشعارهم، ونقول إن محمد علي الرباوي الذي كان يقتفي أثر ذاته في ولده، أصبح يتجادب أطراف الحديث وذاته الجديدة ( ابنه زكرياء / الأمل). وهكذا تكون دلالة الأثر الشعري بارزة لا غبار عليها ، في حين تحظى البنى الأسلوبية في شعره ذات منحى تعبيري مجازي قريب من الوقائع التي يعيشها الشاعر. منها ما هو زماني ومنها ما هو مكاني( خاصة مكان ولادته).
ونظرا لمبدإ التكامل في إنتاج الشعر، نستطيع أن نتوج عملنا بفتح قوس على تكرار بعض الأساليب في شعر محمد علي الرباوي، ذلك أن انتقالنا من مجموعة شعرية إلى أخرى لا يعطينا الانطباع بشكل التنافر الدلالي بقدر ما يحيل إلى الانسجام في التعبير، والمعاني التي تشكل نصوصه غير انسيابية بالدرجة المحدودة، ولكنها متواصلة دلالة وإيحاء بغيرها. من هذا المنطلق استثنينا دراسة الشاعر محمد علي الرباوي من جانب تكثيفي لشعره غير مكتفيين بقصيدة في حد ذاتها.