حالة جديدة من العلم والتقدم التقني هي الذكاء الاصطناعي. أقرأ كثيرا عن أهميته في الحياة العلمية مثل، التعليم عن بعد، أو الترجمة، أو البيع، أو الشراء، أو التأمين للمشروعات واكتشاف ما قد يهددها مبكرا، وغير ذلك كثير جدا بحيث يبدو لنا أنه سيأتي الوقت الذي حين نذهب فيه إلى أي مكان، فلن نجد إلا الروبوتات تتحرك فيه، من أول الصناعة إلى العلاج في المستشفيات، فستجد كل الأطباء وهيئات التمريض روبوتات تتحرك بين المرضى، وستجد مصانع كاملة للسيارات وغيرها خالية من العمال، وتقوم الروبوتات بأعمالهم، وقد بدأ ذلك في بلاد مثل إلى اليابان.
يمكن لك أن تتخيل الكثير حتى خروج الروبوتات على من هيأها إلى أي شيء فتكون هي صانعة القرار. لقد قرأت أن الكاتب الأمريكي دان براون تنبأ بذلك في روايته «الأصل» وإن لم اقرأ روايته. وهي الرواية التي صدرت عام 2017، وتصدرت قائمة أكثر الكتب مبيعاً ككل أعماله الخيالية، كذلك صدرت في مصر منذ عامين رواية «شفرات القيامة» لتامر شيخون، حيث المستقبل الذي تتم فيه السيطرة الرقمية على العالم والبشر ومخاطر ذلك. هو أيضا رأى في ذلك مخاطر على البشرية في المستقبل، فسيتمرد علينا الذكاء الاصطناعي ويفعل ما يريد، وينهي العالم في لحظة حين تصل هذه الإمكانيات التكنولوجية للعقلية المريضة، فتصبح بيدها أداة قوية جدا للشر.. سأترك ذلك كله وأتحدث في الأدب والفن.
لقد أخبرني الروائي أشرف العشماوي أنه رأى في معرض كتاب في السعودية مجموعات قصصية من إنتاج الذكاء الاصطناعي، لكنها افتقدت إلى الروح في لغتها. وحدثني بعض الشباب بدخولهم على مواقع للذكاء الاصطناعي، وقدموا لها معلومات ليتم تحويلها إلى قصص قصيرة، وإن لم تأت على الدرجة الفنية التي توقعوها، فحاولوا أكثر من مرة تعديل القصة. ضحك أحدهم وقال لي سأفعل من ذلك مجموعة قصصية وأكتب أنها ترجمة لقصص كاتب عالمي، وأرى ما سيكتبه النقاد. ذكرني بحادثة قديمة فعلها الصحافي الساخر أحمد رجب عام 1963 حين كتب مسرحية نسبها إلى الكاتب الألماني فريدريش دورينمات وتلقاها بعض النقاد بالتبجيل. بعدها أعلن أحمد رجب أنها من تأليفه وليست لدورينمات. مسرحية سماها «الهواء الأسود» قيل إنه كتبها في ساعة أو ساعتين بكلام غير مفهوم، ثم بالفعل نشرها في مجلة «الكواكب» باعتبارها من مسرح اللامعقول الذي لم يكن يعجبه الحماس المصري له. أذكر أيضا أن أنيس منصور قال إنه يشك في أن المسرحية لدورينمات، وأنيس منصور من أوائل من تحدثوا عن دورينمات في مقالاته.
أدهشني أن الكاتب الشاب يفكر في خطأ النقاد، سألته هل تعرف ما حدث قديما من الصحافي أحمد رجب، فأجاب لا. دهشتي من رغبته في إيقاع النقاد في الخطأ، لم أجد لها تفسيرا، غير أن أحدا لم يهتم بما يكتب بما يرضيه، ربما. والحقيقة نادرا ما يرضى الكتّاب عن النقاد. إنهم عادة ما يسعون إليهم في أول حياتهم الأدبية، ثم بعد ذلك يرونهم أهل خطأ، وقد عاصرت كتّابا فعلوا ذلك، أو على الأقل كانت تلك أحاديثهم عن النقاد بعد أن اشتهروا. لا يشغلني الأمر لكنني تابعت أمر الذكاء الاصطناعي فعرفت أنه حتى الآن لم يستطع أحد أن يستنطقه بالشعر، لصعوبة الصور الشعرية.
ضحكت وقلت فلنكتب جميعا الشعر وينتهي زمن الرواية، ثم فكرت أن ذلك سيكون صعبا أيضا مع الفن التشكيلي، لكنني تذكرت حادثة قديمة أيضا لصحافي هو صلاح محفوظ بعد عام 2000 بقليل في ما أذكر، فعل بالفن التشكيلي ما فعله أحمد رجب بالمسرح، إذ نشر لوحة باسمه، لكن قال بعد أن تلقاها النقاد بالمديح أنه ترك قردا يلهو بالألوان على اللوحة، واعتبر هذه الشخبطات نوعا من الفن التجريدي، وهكذا استقبلها بعض النقاد حتى أعلن ذلك. حين سألوه لماذا فعل ذلك قال إنه ضاق بالتأثر بالفن التجريدي وهو مدرسة غربية، بينما لدينا في تراثنا الفني العربي والإسلامي ما هو أعظم. طبعا هذه وتلك لأحمد رجب شطحات صحافية لا تقلل من قيمة المذاهب الأدبية والفنية التي هاجماها ووجودها الكبير المؤثر في تاريخ الأدب والفن.
بعيدا عن الحديث عن هذه المعارك، أو الفخاخ، أعود لأقول إني لم أقتنع بأن الروبوت يمكن أن يرسم غير رسوم بيانية عن معلومات، أما تفاعل الألوان واستلهام معانيها فأمر صعب، فالذكاء الاصطناعي لن يميز بين درجات اللون الأحمر مثلا، أو غيره من الألوان. ينجح الذكاء الاصطناعي الآن في تحويل الصور إلى ألوان وأشكال أخرى، أما الإبداع التشكيلي فهو مثل الشعر يحتاج روحا أوسع من أي معلومات. من يغذي الروبوت أو برامج الذكاء الاصطناعي بالمعلومات والتعليمات لا ينقل إليه روحه على الأقل حتى الآن، وإذا شمل الأمر الفن والأدب فسنكون وصلنا إلى درجة من تسليع الروح وجمودها مهما بدا في ذلك من إغراءات. ثم وجدت نفسي أذهب بعيدا وأضحك متسائلا هل يمكن أن يأتي إليوم الذي يذهب فيه كاتب – مؤكد سيكون من أجيال تالية – إلى جلسات الأدباء في مقهى البستان أو الجريون أو النادي اليوناني فلا يجد إلا الروبوتات التي صارت تكتب القصة والرواية، بينما من يغذيها بالمعلومات جالسون في بيوتهم لا يراهم أحد. هل ستشرب الروبوتات الشاي أو القهوة، أو تأكل أم ستغلق المقاهي أبوابها وتنتهي ظاهرة مقاهي المثقفين. هل ستكون الروبوتات على منصة نقاش إنتاجها، وحولها نقاد حقيقيون؟ أم سيرسل النقاد الروبوتات التي تحمل أفكارهم وقراءتهم للعمل موضع النقاش، ومن يا ترى سيكون جالسا في القاعة. وهل حين تتسع الظاهرة ستنتهي ورش الكتابة الأدبية ويجد من تفتنه القصص والروايات، وهو غير موهوب أصلا، في الذكاء الاصطناعي فرصة مجانية. ويمكن أن تتسع مساحة السرقات الأدبية كما قال لي الكاتب طالب الرفاعي ولا نعرف من وراءها؟ لكن الشر أخذني إلى شيء أعمق وهو أن يكون وراء ذلك كاتبات، فرغم عظمة الكثير جدا من الإنتاج الروائي العربي من الكاتبات في كل البلاد العربية، إلا أن هناك دائما حدودا في استخدام المشاهد أو الألفاظ الجنسية، فهل ستكون هذه فرصة لحرية أكثر للكاتبات، ينتقمن من أسوار مجتمعاتنا التي لا تنتهي؟ أم أن الدولة التي تضع المحاذير ستغذي الذكاء الاصطناعي بما تسميه القيم، أو تفرض على الكتّاب أن يفعلوا ذلك وتوزع عليهم منشورا بذلك قبل دخول أفق هذا الذكاء، وتفرض اتحادات الكتاب على أعضائها قسما أن يفعلوا ذلك قبل الحصول على العضوية. ويمكن جدا أن تغذي الدولة مركز الذكاء الاصطناعي الرئيسي بأسماء الحكام، حتى إذا تشابه اسم شخصية في الرواية صدفة مع اسم حاكم لا يذكرها الذكاء الاصطناعي ولا يكمل القصة. أجل نحن نرى الآن فيسبوك مثلا أو تويتر يلغي التغريدة أو يوقف الصفحة لأسباب من هذا النوع، فهو مُبرمَج على ذلك دون النظر لمعنى الكلام. لكنني ظللت أضحك، رغم ذلك وأنا أتخيل أن المقاهي ستمتلئ بالروبوتات لا تتكلم إلا إذا نجح الإنسان في إعطائها القدرة على الكلام. كما ضحكت أكثر وأنا أتخيل مرشحين لمجلس الشعب أو للرئاسة من الروبوتات. وما دام الذكاء الاصطناعي يمكن أن يجعل الروبوت يتمرد حتى على من يعطيه المعلومات الأساسية، ويختار بنفسه ما يفعله أو يكتب فيه، كما تتنبأ الروايات الخيالية، فهل سيوافق روبوت على ترك الحكم في موعده؟ لا أظن. سيعلن في أول خطاب أنه من أجل الديمقراطية يفعل ذلك، فانسوا أن الحاكم يمكن تغييره أو أعضاء مجلس الشعب، ويعلن مثل الفنان محمد صبحي في مسرحية «تخاريف» التي كتبها لينين الرملي وأخرجها جلال الشرقاوي منذ حوالي ثلاثين سنة، أنه من أجل الديمقراطية يفعل ذلك، ويعلن حالة الطوارئ في البلاد.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”