هذا السؤال الذي أطرحه، هو سؤال المعاصرة، بل سؤال الحداثة نفسها، سؤالنا جميعا، على أن نتحدّث بصوتنا ونرى بأعيننا؛ حتّى ونحن نتمثّل بالمنجز النقدي والفلسفي الغربي ونستأنس به؛ حتّى وإن كان هذا الغرب يناصبنا العداء، وينظر إلينا بعين الحذر والريبة؛ كلما تعلّق الأمر بقضيّتنا الأعدل «فلسطين» فهناك دائما الوجه الآخر الفكري المضيء. وهل نحن سوى كائنات تطمح إلى أن تشارك في الكوني، عسى أن تكون من قوادحه؛ فإن تعذّر فمن ومضاته في «رهان المنافسة العالمية» وبعبارة أدق «الكونية» من حيث هي قيمة إنسانية تتناسب وغنى الوجود الإنساني، وهي لا تعني في أيّ حال «العولمة» من حيث هي استيطان مقنّع في أرض الآخر؛ كما يطيب لي أن أردّد. ونحن لا نجادل في أنّ الشعر عامّة فنّ كونيّ يجري في أفق من الوجود مفتوح أبدا، وفي نواحيه وأطرافه، أي ما دون سمكه.
وهذا «المفتوح المُشرع أبدا» هو الكلّيّ الذي لا يحدّ في مفهوم. فإذا ما قيل أو حُدّ فعلى سبيل الافتراض. على أنّ ترسم الخطّ الزمني في رصد النظريّة الشعريّة العربيّة الحديثة أو عمودها، أو أفقها؛ ليس بالوضوح الذي نتصوّره؛ وكأنّنا ننتقل في الشعر مثلا صعودا من قصيدة البيت (العمودي وهي تسمية خطأ) إلى قصيدة التفعيلة فقصيدة النثر. وهو تصوّر خطّيّ لا يستقيم، إذ الأمر ليس بهذه البساطة، بل إنّ قصيدة النثر سبقت تاريخيّا قصيدة التفعيلة أو الشعر الحرّ. والسجال الذي لم ينقطع حول «قصيدة النثر» أو «الشعر المنثور» إنّما بدأ منذ أوائل القرن الماضي، أي قبل ظهور «قصيدة التفعيلة» بأكثر من أربعة عقود؛ مع أمين الريحاني عام 1905، مترسما والت ويتمان في «أوراق العشب». وهو لا ينكر هذا التأثير، ويرى أن ويتمان خلّص الشعر من قيود العروض والأوزان. وطُرحت المسألة مع العراقي رفائيل بطّي، ثم مع التونسي زين العابدين السنوسي عام 1928 فقد كتب مقالا وسمه بـ»الشعر المنثور» نبّه فيه إلى أن هذا النمط «يشارك الشعر في خياله وحذلقته (الحذق والمهارة) الرائعة الرقراقة، وإن كان لا يتقيّد بوزن ولا يتسلسل على نظام مخصوص». وهو يؤاخذ بعض كتّاب المشرق الذين يمزجون مزجا غريبا بين «الشعر المنثور» والسجع العربي المعروف و«الأبيات الحرّة» وهي غير النثر الشعري.
ولعلّ حسّا نقديّا مُدرّبا، أن ينبّهنا إلى أن الزمنيّة الخطيّة لا تناسب الزمنيّة الشعريّة، وأنّ هذه الزمنيّة لا تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنّما هي على ما نرجّح، حاضر أبديّ. وقصيدة «الهايكو» مثلا، أو ما يسمّيه البعض «قصيدة الومضة» تنضوي أيضا إلى هذا الأفق أو هذا المنظور. والهايكو قصيدة وجيزة، وهذا النعت في تقديري أكثر دقّة من قولنا «قصيدة قصيرة» أو «قصرى». وقد ظهر هذا الجنس في اليابان أواخر القرن السابع عشر، وكان في شكله الأقدم أو الكلاسيكي، يتوزّع إيقاعيّا على ثلاثة أسطر: قصير سريع فطويل بطيء فقصير سريع. لكن هذا التوزيع تغيّر عند المعاصرين، ولم يعد للهايكو ضابط وزني أو إيقاعي، وصار أشد إيجازا أو اقتضابا؛ في حين أنّ له طقوسه وقواعده المنظّمة في الشعر الياباني. من ذلك أنّه يقتضي كلمة بعينها تحيل إلى فصل من فصول السنة، ووَقْفا في منتصف البيت يؤدّيه ما يشبه «المطّة» أو الخطّ الصغير، علامة على وقفة أو صمت أثناء الإنشاد، أو توتّر بين السطر وباقي القصيدة؛ وهي التي تنهض بفكرتين أو صورتين متجاورتين لا تصل إحداهما بالأخرى أيّ أداة رابطة. والهايكو هو في اختصار شديد، طريقة في التقاط اللحظة (هنا/ الآن) أو العابر أو الفريد الزائل؛ من «إزهار» فجائي أو مباغت، حتى لا تذهب بذهاب الكلام ولا تنطوي بانطوائه؛ وهو الذي ينضوي أبدا إلى الماضي، ويكون حيث لا يكون.
على أنّ ما يعنيني في السياق الذي أنا فيه، أنّ للهايكو أصولاً وقواعد؛ ويكاد يكون صورة من «البيت المفرد» القائم في شعرنا القديم على جمالية تأليف الغريب، أو «البيت المقلّد»(من القلادة) باصطلاح ابن سلاّم في طبقات الشعراء؛ أي المستغني بنفسه.
ذلك أنّ البيت المقلّد القائم على اللمحة التصويريّة، هو البيت الذي يُدرك سماعا كما تنمّ على ذلك سائر أقوالهم في التصدير والتوشيح والتسهيم، وردّ العجز على الصدر. أقول إذن إنّه ضمن الوعي بأنّ الشعريّ قائم على التداخل، يكون منشدّا إلى نفسه مثلما هو منشدّ إلى سابقه، بل لاحقه؛ إذ هو ينشأ «قرائيّا» حيث القراءة ترافق الكتابة، أي أنّ الشاعر يكتب وهو يقرأ. يكتب السيّاب «أنشودة المطر» وهو يقرأ أديث ستويل، ويكتب أدونيس «مفرد بصيغة الجمع» وهو يقرأ الرمزيّين والسرياليّين الفرنسيّين من بودلير إلى بروتون. لكنّ هذا الأثر يقرأ ما يقرأ أساسا، حسبما تمليه عليه طبيعة جنسه، وحسبما يستعيره من عناصر من الأجناس في سياق التراسل أو التجاوب أو التناصّ. ولعل هذا ما يحسن أن نتقصّاه في أكثر شعرنا الحديث، وفي قصائد النثر على نحو ما يقوله س. موريه عن «السرياليّين العرب، إذ «تغلب على شعرهم الرؤى والصور اللامعقولة، التي توحي باضطراب عالم الشاعر الداخلي وتشوّشه؛ وتشبه هذه الصور ما يلوح من أوهام ورؤى للخيال المتحرّر بالنّوم، من سلطان الوعي ورقابته» وهذا مما يقتضي بعض إفاضة في توضيح النظرة الفنّيّة التي يستمدّ منها شعراء النثر مواقفهم. والصورة اللامعقولة أو «السرياليّة» لا قرينة لها سوى المعنى الانفعالي، أو الرمز غير المتجانس. ومع ذلك فنحن دائما أحوج ما نكون إلى التمييز بين المفهوم والمصطلح، ما تعلّق الأمر بهذه النظريّة الشعريّة الحديثة؛ والأوّل هو الحدّ الكلّيّ للظّاهرة المدروسة، وعمل الفكر عامّة، أو عمل الفكر الفلسفيّ حصرا أو النقدي. وأمّا المصطلح فمن عمل التّواضع الجمعيّ.
بل إنّ مصطلح «عمود الشعر العربي الحديث» هو في عمومه؛ حاصلُ سلطان متأتّ من خارج موضوع المصطلح: متى بدأت هذه الحداثة أو المعاصرة؟ وأين؟ والذين يصطلحون على هذا الحدّ يصدرون في اصطلاحهم عن مؤسّسات من خارج دائرة الشعر أو الأدب عامّة؛ وبعضها يلامس، أو يُداخل الدّائرة بشكل أو بآخر، ونعني بذلك مؤسّسة النّقد، وبعضها «يتخارج» عنها، لكنّه لا ينفكّ يتدخّل في تحديدها، ونعني بذلك كثيرا من المؤسّسات الاجتماعيّة سواء اتّخذت طابعا سياسيّا أو ثقافيّا أو حتّى «تسويقيّا» كما هو الأمر في «الأدب الرقمي» أو «فيسبوكي». ولنقرّ دون شطط من أيّ «عقدة» حضاريّة، بأنّ المفاهيم الوافدة، بما فيها الإنشائيّة أو الأدبيّة أو الشعريّة، غير مؤسّسة في النقد العربي القديم، بل الحديث؛ إذ لا يعدو الأمر أكثر من «نقل» عن المصادر والمراجع الغربيّة.
ولعلّ هذا ما يفسّر كون الأخذ بمفهوم لم يتأسّس بعد، لا يخلو من بعض مجازفة ، ومن قدر غير يسير من المغامرة؛ بل هو يمكن أن يفضي إلى خلل في الرؤية بسبب الخلط بين التيّارات والاتجاهات، دون سند من اختبار النصوص والاستئناس بها. وهو ما لا يمكن تلافيه، إلاّ بشواهد دقيقة؛ تنمّ عن حسّ صاحبها النقدي، ودون أن يتّخذها مسلّمات، أو يغفل عن تحليلها، ويحذر أن يجعل منها حجابا عن أوجه الاختلاف بين النصوص، وهي التي تدور على أكثر من شكل من أشكال التداخل، على ضرورة تنسيب الحكم؛ سواء بين ثقافتين في مستوى أوّل: ثقافة الأذن [ثقافة السلطة] ومثالها الخطاب الشعري التقليدي المأخوذ بـ»شعريّة المنوال» وثقافة العين [ثقافة العقل] ومثالها الخطاب الشعري الجديد؛ ثمّ في مستوى المؤثّرات الأجنبيّة، وهي تختلف من بلد عربيّ إلى آخر؛ فالمصري صلاح عبد الصبور مثلا يصعب أن تُكتنهَ تجربته بمعزل عن مؤثّرات الآداب الأنكلوسكسونيّة (ت.س. أليوت مثلا) شأنه شأن العراقي بدر شاكر السيّاب، والسوري أدونيس، قد تصعب قراءته، إذا نحن أغفلنا ثقافته الأدبيّة الفرنسيّة والفلسفيّة. وقس على ذلك تجارب الشعراء الفلسطينيّين مثل محمود درويش وأحمد دحبور وليانة بدر وزكريّا محمّد وغسّان زقطان ونمر سعدي، وآخرين مثل، سعدي يوسف وسامي مهدي وفاضل العزاوي ومحمّد بنّيس ومحمّد الغزّي وأولاد أحمد وفتحي النصري وغيرهم.
وثمّة مصطلحان لا بدّ من أن يؤخذا بالاعتبار ما تعلّق الأمر بهذا «التداخل» هما «النادر» و»النسج». والنّادر قديما هو الثمين النفيس الذي يحفظ ولا يقاس عليه؛ وحديثا هو الجديد، أو «الاستثنائي» بعبارتنا. أمّا «النسجّ» فيجسّد لحمة الجماعة القوليّة ومتخيّلها الثقافيّ القائم على ثنائية النظر والكلمة، بمقتضى قياس مقيّد في اللغة، حيث كلمة «نسج» أو «غزل» على وشيحة بالقول أو بالكلام. ومع ذلك يبقى السؤال معلّقا: هل من «عمود» للشعر العربي الحديث؟ أي هل من نظريّة جامعة مانعة؟
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”