صيف العراقيين الحارق يذكّرهم بثوراتٍ تزامنت مع أصياف لا تبارح حرارتها اللاهبة ذاكراتهم المختزنة ركاماً من البكائيات والأحزان المتواترة أيضا. ثلاث هبّات في تموز وحده. لكن في الصيف الاستثنائي هذا تنضج حتى الاحتراق تذكاراتهم لفقدان شعرائهم: في حزيران (يونيو) نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة، وفي تموز (يوليو) محمد مهدي الجواهري. لكن آب (أغسطس) ذو غياب مؤثر مستعاد لاثنين من مؤسسي التجديد الشعري: عبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري.
ما يضاعف تذكرات الصيف العراقي ألماً، حقيقةُ أن المفقودين الشعراء كلهم قضوا في المنافي بعيداً عن العراق. بل لم يعد حتى رفاتهم إلى أرض الوطن التي تضم أكبر مقبرة في التاريخ والجغرافية.
إن منافي الشعراء أحياءً وأمواتاً تضعنا في عتبات موضوعنا. استذكار عبد الوهاب البياتي الذي حلّت الذكرى الرابعة والعشرون لرحيله في الثالث من آب (أغسطس). فقد كان أول من أشاع مصطلح (المنفى) في الشعر العربي منذ الخمسينيات بدوافع سياسية، فسمّى ديوانا مبكرا له «أشعار في المنفى»، متاثراً بالتركي ناظم حكمت القائل: وضعوا الشاعر في الجنة فصاح ملتاعا: آه يا وطني. والمعنون أحد أعماله «يا لَحياة المنفى من مهنة شاقة!». كما رأى الشاعر في صورة منفي جوال:
«صوت الشاعر فوق نحيب الكورس يعلو،
منفردًا، منحازاً ضد الموت وضد تعاسات البشر الفانين،
بنار سعادته السوداء يجوب العالم، منفيّاً يتطهر،
لا اسم له، وله كل الأسماء».
كانت المنافي التي اعتادها البياتي منذ الخمسينيات مهرباً من ملكيةٍ ناوءَها، واعتنق الرفض اليساري الشعبي لها. فطوّف في الشام وموسكو ومصر وسواها من البلدان، غير بعيد عن موضوع حرية الوطن الأول المفقودة. لكنه جعل من المنفى مكاناً شعرياً أيضاً، يقترب من الديستوبيا أحياناً. فهو شريد داخله ووحيد كما يكرر في دواوينه الأولى. وفي أخريات حياته حيث سارع بالعودة لمناف، كانت اختياريةً هذه المرة، ومهرباً كذلك من الظلم والدكتاتورية. ولكنها ظلت في ذاكرته وشعره مرتبطة بعناء المنافي، رغم تلطيفها بالتسميات اللاحقة كالمَهاجر والمغترَبات.
لم تدَع غزارة انتاج البياتي الشعري فسحةً لقراءة نصيّة مناسِبة. فكثير من منتقدي سيرته السياسية اتبعوا ما أشيع عنه دون تمحيص. إذ لم يضعه الشيوعيون العراقيون محل السياب حين ارتد عنهم، لأنهم ليسوا بحاجة لشاعر، ومعهم مثقفوهم وأدباؤهم. كما أن البياتي ينتهج فكراً يسارياً قبل اصطفافه نصيراً للفكر اليساري التقليدي. وقد عزا ذلك حين كتب «تجربتي الشعرية» إلى ما كان يرى وهو صبي، من مظالم ومآسٍ تحيق بالمشردين والفقراء والنازحين للمدينة، وهو يراهم حول مزار الصوفي عبدالقادر الجيلاني بوسط بغداد، حيث ولد البياتي ونشأ: «لم يبق حول «مدينة الأطفال» إلا ما نشاء/ إلا السماء/ جوفاء، فارغة، تحجر في مآقيها الدخان/ إلا بقايا السور والشحاذ يستجدي وأقدام الزمان/ إلا العجائز في الدروب الموحشات/ يسألن عنا الغاديات الرائحات/ ولربما مرت بهن الذكريات/ (السور)، و(الشحاذ) و(الطفل) الذي بالأمس مات».
وإذا كانت المدينة قد وهبته تلك الرؤية الطبقية الواضحة، فإنها في الوقت نفسه ألهمته رؤية مدينية حضارية، ميَّزته عن السياب القادم من قرية قصيّة لبغداد، بما فيها من مظاهر حضارية ومدنية.
لقد انشق المزاج الشعري والنقدي العراقي والعربي في مطلع الخمسينيات إلى سيابي وبياتيّ. السياب باندفاع جملته الشعرية وحرية مخيلته، وما رفد خطابه الشعري من مرجعيات غربية وثقافة تراثية، تتعمق في الرمز والأسطورة. والبياتي بجُمله القصيرة، وإلحاحه على الإيقاع القصير، وقاموسه الشعبي، وموضوعاته السياسية المباشرة.
وقد تنبه الناقد والأكاديمي العراقي مدني صالح لذلك، فكتب عن البياتي كتابه «هذا هو البياتي»، 1968، فخلص إلى ما معناه أن البياتي يختلف عن السياب بكونه مثلَ تاجر المدينة، يتفنن في تجميل عرضِ ما يحتوي متجرُه، فيما يمتلك السياب بضاعة جيدة، لكنه يعرضها كما يفعل التاجر القروي دون تنميق. وكان كذلك في حياته. فقد احتل مكانة ريادية في حركة الشعر الحر، كما عرفت اصطلاحاً، فيما نعلم أن ديوانه الأول لم يظهر إلا عام 1950، ومقارنة بإغفال التاريخ الشعري لاسمَيْ بلند الحيدري الذي أصدر «خفقة الطين» عام 1946، وشاذل طاقة الذي أصدر عام 1950 ديوانه «المساء الأخير».
لكن تلك التواريخ لن تقلل من دور البياتي الريادي بالمعنى النقدي العربي المتداول. فقد تواصلت مسيرته بسرعة يعرفها العداؤون المحترفون، حين ينطلقون في وقت مناسب ليتصدروا المتبارين. وقد عوَّض بذلك تخلّفه الزمني عن السياب ونازك وبلند. فقد تسارعت إصداراته، واحتل مكانه في ثنائية (السياب /البياتي) بديلا للثنائية الأولى (السياب/نازك).
كانت تجربة البياتي عمودية شأن زملائه. لكنها ذات أهمية ترشحه في «ملائكة وشياطين» ليتكرس شاعراً عمودياً عربياً يصطف مع المهجريين بجدارة. فكانت قصائده تذكّر القارئ بشعر الياس أبي شبكة خاصة. وكانت انتقالته للشعر الحر خجولة، تندس بين عديد القصائد العمودية التي تتدافع تفعيلاتها وجملها الشعرية وإيقاعها الصاخب، وقوافيها ذات الرنين العالي. فلا عجب أن نقرأ له قصيدة تائية مثلا، مع ندرة ما يُكتب على تلك القافية. وأحسب أن الواقعية التي لازمت الفكر الأدبي اليساري قد أنقذت البياتي ونقلته إلى الاسترسال الحر والإيغال في التبسيط، وهجْر الفخامة والتقليد الشعري، والابتذال العاطفي الرومانسي.
لقد مدّ البياتي جسوراً يسيرة العبور بين حياته وشعره وقضايا عصره. وتوسَّع أفق قصيدته متسقاً مع ذلك الانفتاح الفكري الذي تفترضه النزعة الأممية. ومن طرف آخر تتعلق قصيدته بالواقع والحياة والوطن، كمسميات متسعة لم تتبلور فكرياً، بقدر رسوخ دلالاتها السياسية والطابع التداولي فيها، بكونها شعارات جاذبة، تمنح الشاعر موضوعاتياً تلك الغزارة التي لم تنجُ مما يتوقعه النقاد من تساهل في المبنى وانخفاض سقف الخيال الذي يصطدم لدى البياتي بأرض، ارتضى الوقوف عليها والنظر في ما يدبر لها – في رؤيته – من شرور.
لم يكن البياتي يأنف الكتابة في العابر واليومي من الأحداث السياسة، فيما كان السياب يعليها بمخيلة تستوعب جوهرها الفكري – قصائده عن الحرب الكونية: رؤيا فوكاي مثلا – وقصائده عن الجزائر وبورسعيد، ومطولاته الاجتماعية عالية الترميز (حفار القبور- والمومس العمياء).
سوف تظل الصياغة لدى البياتي معتمدة الوضوح والتبسيط، احتكاماً إلى الالتزام كفكرة، وخدمة الشعر للمجتمع كشعار. وكان هذا يعمق خطابه الشعري، ويزيد افتراقه عن مزاج قصيدة السياب وذائقتها المتعالية بقيم فنية، لم يكن البياتي في مرحلته العمودية والواقعية قد تنبه لها. بل كان بدلاً عن ذلك يوجه سهام نقده المر المتضمن مفردات الهجاء الصريحة للنقد وللفلسفة وللفن الحديث، وللحداثة كمشروع حسِبَ أنه غربي الصناعة والهدف.
مع أن قراءة إحسان عباس للبياتي في كتابه المبكّر «عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث – دراسة تحليلية»، 1955، أظهرت الجانب الذي عدّه المؤلف استمداداً من تقاليد الشعر الأوروبي، بشكل ميزه عن سواه. فقال إن شعر البياتي يقدم لنا «صورة لم نألفها من قبل، وحين نقرأها نستذكر مظاهر كثيرة كانت تجري في الشعر الأجنبي». وأحسب أن رأي إحسان عباس جاء وصفاً لجملة البياتي الشعرية واسترساله، وما رأى أنها رموز، لم يتعامل معها البياتي في الواقع إلا بمبناها العام، ولم يصنع منها رموزاً شخصية إلا بعد نضجِ شعره وتطورِ خطابه واشتباكِه مع الأدبيات الصوفية.
وحان وقت انتهى فيه ارتباط البياتي بالواقعيةً. فهو ذو تحولات حادة أيضاً. وها هو يقارب الخطاب الصوفي في جوانبه الأدبية، وما توحي تلك الأدبيات من إشارات عرفانية، متمثلاً سيرة أعلام التصوف ودراما حياتهم ومصائرهم ورفضهم للسائد. حتى ليمكن القول إنه متصوف بالتبني العام، لا صوفي مستوعب جوهر التصوف في خطابه. أي أنه يستحضر الكِسَر الإخبارية والعلامات والمدونات الصوفية، ليضعها في مدونة شعرية، تبتعد بها عن أجواء منبتها التصوفي، وتُلبسها طابعاً ثورياً أحياناً أو يُسقط عليها محنته، وما يسكنه من هواجس ومعاناة وأسئلة. وهو يكرر بذلك مأزق الحداثة الشعرية العربية مع الخطاب الصوفي، حيث قرأه شعراؤها قراءة انتقائية تبحث عن الغريب والمثير، دون فحص الخطاب ذاته. وظلت الصلة بالتصوف وأعلامه وشعرائه صلةً سيرية، هكذا يجري التركيز على تلك المحطات في شعر أدونيس وعبد الصبور والبياتي وغيرهم.
كان البياتي يتأمل الحياة بأحداثها ووقائعها، أي بما أنها واقع وجودي، فالتزم في بداياته الشعرية الأولى بالمعنى التقليدي للواقعية التي تنشغل بانعكاس الواقع ومفرداته بالمرآة التي تقرِّبه شعريا بالصور المنتزعة منه أيضاً، والمحيلة إليه كمرجع مؤثر، بذرائع اجتماعية وسياسية معروفة، وبفهمٍ محدود للأدب كله بأنه تمثيل مباشر لمظاهر الواقع ونماذجه.
لكن رؤية البياتي تطورت بفعل تقدم وعيه وتحرره من الأفكار والنظريات الجاهزة، فتحول من تلك (الرؤية) الواقعية إلى (الرؤيا) التي تحمل في ثناياها العمق في تأمل جوهر الحياة، ودلالة الموت والغياب، وما يمكن أن يوقفهما رمزياً كحدثين حتميين؛ فوجد ضالته في النصوص الصوفية التي تحكي عن حياة المتصوفة ومواجدهم ورغبتهم في الفناء في المحبوب والاحتراق من أجل ذلك، كما تفعل فراشات النار في سعيها لاكتشاف كنه النار وجوهرها، فتدفع حياتها ثمنا لحب المعرفة.
ذلك ما تؤكده دواوينه المتلاحقة في فضاء التعرف والتفكر والتأمل القريب من خطاب التصوف في مظاهره العامة، ممثلاً في «سفر الفقر والثورة» و«الذي يأتي ولا يأتي» وتطوير ذلك المنظور في «قصائد حب على بوابات العالم السبع» و«قمر شيراز» و«بستان عائشة».
وحسْب البياتي أنه عاش للشعر بكل فوراته وأزماته وتجلياته وعنائه قوةً وضعفاً. وتمثَّلها في قصائد يفترق حولها القراء وتلتقي القراءات. لكنها تظل شاهدة على مرحلة مخاض وولادة عسيرتين لمشروع تجديد الشعر العربي، وصولاً إلى حداثته المأمولة:
«كم حفر الحفارون لنا قبراً
لكنَّا في حانات العالم
كنا نبني مملكة للشّعر».