“كنت في حالة من النشوة من فكرة الوجود في فلورنسا بالقرب من الرجال العظماء الذين رأيت مقابرهم، واستمتعت بتأمل الجمال البديع، لدرجة أنني شعرت عند نقطة معينة بمشاعر سماوية. كأن كل شيء يتكلم بشكل جلي لروحي. آه، لو أنسى ما حدث، لقد كان قلبي يخفق بشدة، ورويدا رويدا بدأت أفقد إحساسي بالحياة، ومضيت وأنا أخشى أن أخرّ مغشيا عليّ في أي لحظة”.
بتلك الكلمات، وصف الكاتب الفرنسي ماري هنري بيل (1783-1842)، والمعروف باسم ستندال، رحلته لمدينة فلورنسا الإيطالية عام 1817، التي على حد وصفه سببت له حالة من عدم الاتزان والاضطراب من فرط جمال الفن الراقي الذي رآه لعمالقة عصر النهضة أمثال دانتي ومايكل أنجلو ودافنشي.
متلازمة ستندال
صاغت عالمة النفس غرازيلا ماغريني عام 1979 مصطلح “متلازمة ستندال” لوصف نمط من الاضطرابات النفسية التي لاحظتها أثناء فترة عملها في مستشفى سانتا ماريا نوفا في فلورنسا، حيث اختبر عدد كبير من السياح، الذين عولجوا تحت إشرافها، نفس الاضطرابات التي وصفها ستندال أثناء زيارته للمدينة، وفقا لصحيفة التلغراف.
ففي المواقع التاريخية، لا سيما المتاحف والكنائس، كان السياح يعانون من أعراض تتراوح بين الاضطرابات الجسدية البسيطة مثل ضيق التنفس وخفقان القلب، والاضطرابات الشديدة مثل نوبات هلع وهلوسة. وأقرت ماغريني في كتابها الصادر عام 1989 (La sindrome di Stendhal) بأنها عالجت 107 حالات مصابة بمتلازمة ستندال بين عامي 1977 و1986 فقط.
ووصفت ماغريني متلازمة ستندال بأنها مرض نفسي جسدي يسبب تسارع دقات القلب والإغماء والارتباك وحتى الهلوسة السريعة لدى الأشخاص الذين يتأملون أعمالا فنية غير عادية، سواء كانت لوحات أو منحوتات. ورغم أن الأطباء النفسيين ناقشوا لفترة طويلة ما إذا كانت متلازمة ستندال مرضا نفسيا بالفعل أم لا؛ فإن تأثيراته على بعض المصابين خطيرة بما فيه الكفاية لدرجة العلاج في المستشفى وحتى تناول مضادات الاكتئاب.
جرح فني
يقول ديستويفسكي في رواية “في قبوي” إن الجمال والروعة يثقلان كاهلي كثيرا. ففي فلورنسا مرة أخرى، تم نقل امرأة أربعينية إلى المستشفى بعد أن أصيبت بحالة من الذعر، حيث أكدت أنها رأت الملائكة “ترقص” في كنيسة سانتا كروتش الأثرية، التي تبعد فقط ثمانمئة متر عن قبور كل من مايكل آنجلو وغاليليو وغيرهما من عمالقة الفن الإيطالي، وهو الموقع الذي يعرف بمعبد المجد الإيطالي.
وبالطبع، اعتبر الأطباء أن ما رأته تلك السيدة ليس سوى هلوسة مصاحبة لمتلازمة ستندال.
ومع ذلك، فإن الناقد الفني كريستوفر لينز يرى في مقالة المنشور في مجلة “بوينت” (The Point)، أن ما يحدث حتى وإن كان هلوسة وله تفسير طبي، فإنه يوضح الأثر الهائل للفن الراقي على الإنسان. وحيث إن بعض الحالات التي أصيبت بمتلازمة ستندال قد انتكست مرة أخرى عند زيارة فلورنسا للمرة الثانية؛ فإن الأمر ليس مجرد اضطراب عابر، بل إن هذا الجرح النفسي الذي سببه الفن -وإن تم علاجه- يبقى أثره مدى الحياة.
العود الأبدي
رغم أن نيتشه كان يرى “العود الأبدي” من زاوية منطقية وعقلانية، وقد لا يبدو للميتافيزيقا علاقة بها، فإنه كان متأثرا بأسطورة ديونيسوس/باخوس إله الخمر الإغريقي الذي يموت ليولد من جديد كما ذكر في كتابه “ميلاد التراجيديا”.
كذلك فإن “الأفلاطونية المحدثة”، التي انتشرت في القرن 19، ترى أن عددا من الأساطير الإغريقية القديمة، مثل أسطورة ديونيسوس، لا تتنافى مع الإيمان المسيحي، حيث يكون العود الأبدي لديونيسوس رمزا لعودة المسيح الحي، والنبيذ في الأسطورة هو دمه.
وهكذا يتحول ديونيسوس الوثني بخمره وبهجته المادية الخالصة إلى المسيح الحي بشكل ميتافيزيقي وفق الأفلاطونية المحدثة. وهذا إلى حد كبير ما يحدث مع السياح حسب ما يراه لينز؛ فإذا كان سياح فلورنسا يشعرون بالدوار والهذيان، وأحيانا يهلوسون من فرط جمال الأعمال الفنية، فإن سياح القدس هم أيضا اختبروا مشاعر واضطرابات جسدية مشابهة عند زيارة المواقع المقدسة، وكذلك يعاني عدد كبير من سياح باريس من الأمر ذاته.
والمشترك بين كل تلك المواقع أنها تنطوي ليس فقط على أعمال فنية عظيمة بل كانت موقع أحداث دينية فارقة. وقد يكون ما حدث فيها يوما ما لا يزال يحدث كل يوم لكن بشكل آخر مختلف. فإذا كان المرء أحيانا يشعر بأن لحظة ما قد مر بها من قبل وأنه عاشها واختبرها، في ما يعرف “بالديجافو أو وهم سبق الرؤية”، فإن ما يعاني منه مصابو متلازمة ستندال قد تكون إحدى المفارقات في عالم هو نفسه مليء بالمفارقات العجيبة.
فعندما عزلت الدكتورة ماغريني بعض الحالات المصابة بمتلازمة ستندال في فلورنسا للدراسة، لم تستطع أن تصل بالتحديد لسبب قوة الفن المفرطة في التأثير على أشخاص بعينهم لدرجة الإعياء أو الاضطراب والهلوسة.
الأكثر من ذلك، أن ما انتهت إليه ماغريني هو قدر أكبر من الغموض؛ فلا يوجد نشاط دماغي معين مشترك بين المصابين أو تاريخ مرضي متشابه، أو علة ما تفسر إصابة بعض الأشخاص بالدوار والاضطراب والهلوسة عند زيارة مواقع فنية أو تاريخية.
مع ذلك، يميل لينز لقبول أن هناك دائما شيئا ما لا نعرفه في كل ما نعرفه، وأنه من الأفضل لنا ألا نحاول فهم الكيفية أو السبب وراء تلك الأعراض الغريبة التي تظهر على السياح. لأنه قد لا يكون هناك تفسير إلا ذاك العود الأبدي لكل اللحظات الملحمية التي اقترنت بتلك المواقع أو الأعمال الفنية. وأن أولئك الأشخاص قد يكونون في سياقهم الزمني موجودين في سياق زمني آخر، حيث يكون العمل الفني بوابة أو معبرا بين عالمين.
.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”