الشعر نصّ، له سماته وشروطه، يُعنى بموضوع معيّن، ويتشكّل وفق معطيات فنية، يتجسد من خلال اللغة التي ينتجها الشاعر، والموظفة حسبما يمتلك من وعي وثقافة؛ لأن النصوص نِتاج ثقافات متعددة. هناك سؤال مهم؛ ظلّ يراودنا في معناه، وفي صداه، خاصة في الوقت الحاضر، وهو: هل يستجدي الشعر نفعاً؟ بمعنى ما فائدة الشعر الآن؟ إننا إزاء حيرة في الجواب، عن سؤال أكيد، هل يستجدي الشعر نفعاً؟
سؤال مهم، قد نسأل به بعضنا بعضا؛ لأننا في زمن تتغير فيه الظروف، وتختلف به الموازين، حتى تأثر الشعر، وتحوّل من قول وعاطفة وإيقاع وسماع وقراءة وغزل ورثاء ومدح وهجاء، إلى خواطر مرسومة بعقل فضفاض، وأسلوب قصير، يشبه إلى حدّ ما خاطر طفل «زعول»، ونحن ما بين الشعر (نطالعه على مهل)، وما بين القرّاء (نترقبهم بنهم)، نخطّ ملامح النقد غير فرحين بما أوتي الشعر من مراهقة نصية أكثر الوقت، إلّا ما ندر.
نعود إلى السؤال، وربما نحاول الإجابة عنه بسؤال استفهامي آخر: هل ثمة عقل يستوعب الشعر الآن؟ أقصد العقل المتلقي في مراحلهِ الأولى، وهل ينغمس العقل المراهق باتزان القصيدة (النادرة) أو العكس يستمتع العقل المتزن بالقصائد (المراهقة) الفضفاضة المهيمنة على الساحة الشعرية. وعندما نعود إلى الوراء قليلاً، زمن السياب مثلاً، وما نقرأه من قصائد وهو يحاكي بفرح، الصبايا من المراهقات، عن أشعارهِ، ودواوينهِ، ما نجد منه إلّا بلوغ غاية الفخر بما يجده من اهتمام، وهذا ما أكّده شعراً في مطلع ديوانه «أزهار ذابلة» بقولهِ:
يا ليتني أصبحت ديواني
لأفرّ من صدر إلى ثان
قد بت من حسد أقول له
يا ليت من تهواك تهواني
لك الكؤوس ولي ثمالتها
ولك الخلود وأنني فاني
والسؤال هنا، أ خُلّد ديوان «أزهار ذابلة»، أم بقي على الرفوف؟ ينتظر قارئاً نهماً يأتي ليستعيره؟ وفي المقابل، هل ما زال الديوان يفرّ من صدر إلى آخر؟ في زمن باتت به بعض المراهقات أو البنات منغمسات بالموضة والهاتف المحمول وبرامج التيك توك وغيرها؟ ومثل ذلك المعنى في أثر الشعر في ما سبق، ما قاله الشاعر أحمد مطر، في نصّ له يرمز به إلى أهمية الشعر وتأثيره آنذاك على الآخر من السلطة والرقابة ووكالات الأنباء والقرّاء:
فكّرت بأن أكتب شعراً
لا يهدر وقت الرقباء
لا يتعب قلب الخلفاء
لا تخشى من أن تنشره
كل وكالات الأنباء
ويكون بلا أدنى خوف
في حوزة كل القراء
يؤكد الشاعر أحمد مطر مدى تأثير الشعر ومضامينه ورموزه في المتلقي سواء كان يبثّ الخطر لدى السلطة، أو الخوف لدى القرّاء؟ لذلك هو يسعى لأنْ يكتب شعراً مُغايراً، لا يهدر فيه وقت الرقباء، ولا يتعب قلب الخلفاء، ولا يخشى نشره؛ ويكون بلا أدنى خوف لدى كلّ القرّاء.
هذا هو تأثير الشعر في ما سبق، وهذا ما يصنعه الشاعر في ما مضى، إذ كان الشعر ينفخ في رئة اللغة، يحيا بها، يُضفي رمزية الخوف لدى الآخر، يُغيّر، ويُتعب، يُؤثّر، ويُذهل، إنه الشعر الذي قرأناه، وتعلمنا منه، في الهدوء والقلق، في الليل أو النهار، في المراهقة أو الكبر، هو شعر لا يشبه الشعر الآن، أقصد في تلقيه أكثر من كتابته، وفي تأثيره لا في صمتهِ. والسؤال الذي يُطرح هنا، هل ثمة ما يدعونا إلى مراجعة ذوق المتلقي قبل النص، أو رغبته في القراءة قبل الكتابة؟ فنحن لم نزل في مرحلة البداية لانتهاء (زمن تلقي الشعر)، نعم، ربما نحن بحاجة إلى شعر موجز، ببيتٍ أو بيتين، وبحاجة إلى سرد ممتع بمقطع قصير أو مقطعين، شرط بلاغته؛ لأننا في زمن اللاشعر واللا كتابة، زمن اللا تلقي للشعر، نعم هذا واقع الحال إلّا ما ندر.
نحتاج إذن إلى قصيدةٍ تُحلّل خبز كلماتها، وإلى متلقٍ لا يُحرّم قوت شعره، ونحن ما بين هذه وتلك، نظلّ حائرين بالرغبة أو النفور، نظلّ غير حالمين بشعر آت. إنّ خلود الشعر بات وهماً مُحقّقاً، والشعر مات شكليّاً، إلّا ما تيسر من شعرٍ لشعراء قلّة، ينصفون اللغة، في واقعها وحلمها، يتخيلون الواقع بوضوح، ويصوّرون حلمهم بواقع مُتخيل.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”