في فبراير/شباط 1989، جرى تعديل الدستور في الجزائر، بما يسمح بإنشاء أحزاب سياسية جديدة، بعدما كانت الساحة حكراً على حزب واحد (جبهة التحرير الوطني) وفي خريف العام نفسه سوف يظهر حزب يسمى (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) حزب أراد منه أصحابه «إنقاذ» العقيدة كما قالوا، إصلاح الدين والدعوة إلى الأخلاق الحميدة، «كما جاءت في الكتاب والسنة» أضافوا. مع أن الشعب كان مسلماً، لكنهم قرروا أن «إسلامه» غير سوي. ولم تمض سنة واحدة على إنشاء هذا الحزب حتى اكتسح الانتخابات البلدية، في صيف 1990. وتحولت شعارات البلديات «من الشعب إلى الشعب» إلى «بلدية إسلامية». أينما وليت وجهك، في تلك السنة، سوف ترى كلمة إسلام على الحيطان وعلى لافتات المحلات. لقد صوت الناس على هذا الحزب الديني انتقاماً من جبهة التحرير الوطني، وليس اقتناعاً ببرنامج سياسي. صوتوا ضد الحزب القديم التي أودى بالبلاد إلى أزمة اقتصادية ضاعفها تهاوي أسعار البترول. وحزب الجبهة الإسلامية نفسه لم يقترح بديلاً اقتصادياً، مكتفياً بالوعود، مستغلاً حملات خيرية في فائدة الفقراء والمعوزين قصد كسب أصواتهم، وذلك ما حصل بالفعل. فالناس لم يكن لها تكوين سياسي، ومن السهل استمالتهم بالوعود المزخرفة بكلام من الدين.
ثم توسعت الرقعة الإسلامية من السياسة إلى الثقافة، ظهرت الثقافة الإسلامية وتلاها ما أطلق عليه أدب إسلامي في الجزائر. في حمى صعود جبهة الإنقاذ سوف تظهر صحيفة ثقافية، أسسها مثقفون معروفون، ونقرأ في عددها الأول في أكتوبر/تشرين الأول 1990، مقالاً في مباركة غلق قاعات السينما، جاء فيه: «إن غلق سينماتيك برج بوعريريج بتحريك من طرف البلدية (من جبهة الإنقاذ) بدعوى عرض فيلم جنسي، قد أريد به تحسيس المواطن بأن محاربة الدعارة، هي مسؤولية يقوم بأدائها حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أكمل وجه، في حين أن هذا غير كافٍ ولا يمثل سوى قطرة صغيرة في مستنقع كبير، وأن تلك السينماتيك قد اختيرت لتكون الضحية أو الوسيلة لخبطة سياسية. فهل يعقل أن يغض الطرف عن قاعات السينما التابعة للقطاع الخاص، والتي تعرض بالفعل الأفلام الجنسية بأتم معنى الكلمة؟» ما أشاروا إليه بأفلام جنسية، إنما هي أفلام عادية تتضمن قبلة بين ممثلين، ويذهب المقال أبعد من ذلك في الدعوة إلى منع كل أشكال الترفيه الأخرى، بحجة أنها من الانحلال. هكذا إذن بدأت كرة الثلج تكبر، بدءاً من تأسيس حزب ديني، ثم التحاق مثقفين به، ظناً منهم أن ذلك الحزب سوف يكسب الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية، ويتيح لهم بعض المناصب في الواجهة.
مع الشعر العمودي… وضد المسرح
لم يطل الحال وظهرت كذلك جمعيات ثقافية، جعلت من الأدب الإسلامي خياراً لها. في الأثناء لم يكن زعماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ يقرؤون أدباً، ولا يهمهم الشأن الثقافي، الذي لم يظهر له أثر في برنامجهم الانتخابي، فكلها كانت وعودا من أجل حياة رغدة للمواطن، من غير شرح الخطوات التي تتيح هذه الحياة، لكنهم انتبهوا إلى نشوء الثقافة المرافقة لهم، وإلى ميل مثقفين إليهم (بعضهم كانوا محسوبين على اليسار) وبات هؤلاء المثقفون يحلمون بشغل مناصب عليا في الحزب، وتلقوا وعوداً بذلك، وكي يكرسوا حضورهم في نظر زعماء الحزب، استغلوا الصحف، وطرأت في مطلع التسعينيات نقاشات من شاكلة: هل يجب أن نكتب قصيدة عمودية أم حرة؟ بينما البلاد كانت تسير بخطى ثابتة صوب حرب أهلية، خاض هؤلاء المثقفون جدلا عن شكل القصيدة، فأنصار الأدب الإسلامي لا يرون القصيدة سوى عمودية، ويذمون من يكتب قصيدة حرة أو قصيدة النثر. هكذا كانت النقاشات وكانت إصدارات الجمعيات الثقافية الإسلامية تختص في القصيدة العمودية فحسب. بينما كانوا يجاهرون بأن الرواية لا بد أن تخدم «الأخلاق» ويجب أن تخدم العقيدة بغض النظر عن قيمتها الفنية. كانوا يقولون إن الكاتب له مسؤولية تجاه الخالق في ما يكتبه، كما أن النقد الأدبي تحول إلى نقد فقهي للمصنفات الأدبية، والملاحظ في تلك الحقبة أن الأدب الإسلامي سيطر عليه رجال وحدهم، لم تظهر من بينهم امرأة واحدة، وفي حالات نادرة قد نطالع في أرشيف الصحف قصيدة أو قصة قصيرة باسم امرأة، لكنه اسم مستعار. لم يكن من الحق المرأة أن تكتب، وإن كتبت فيجب عليها محو اسمها.
وإن سمح الأدب الإسلامي بالكتابة للرجل، فقد منع عنه المسرح، وتوالت الوقائع، عقب فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في انتخابات البلديات عام 1990، في غلق المسارح، مثلما أغلقوا قاعات السينما. لكن مكوثهم في الحكم لم يطل أكثر من عامين، تطور فيه الأدب الإسلامي في خدمة الخطاب السياسي، ثم جرى اغتيال الرئيس محمد بوضياف (يونيو/حزيران 1992) وانفلتت الأوضاع، عقب حل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ودخلت البلاد عشرية من الدم والموت. أدرك المثقفون، الذين انتقلوا من اليسار إلى الإسلاموية، أنهم راهنوا على الحصان الخاسر، الذي لن يصل إلى البرلمان، ولا إلى حكم البلاد، كما إن هؤلاء المثقفين لن يصلوا إلى المناصب التي كانوا يرجونها، وتوارى الأدب الإسلامي عن الأنظار، ثم عاد إلى الظهور مطلع الألفية الجديدة.
من صناعة كاتب إلى صناعة قارئ
تعود أصول الأدب الإسلامي في الجزائر، إلى زمن الثورة الإيرانية في 1978، بدأ خافتاً ثم صعد إلى السطح، وإن انتهت العشرية السوداء أو الحرب الأهلية (كل واحد يطلق عليها اسماً مغايراً) فإن جذوة النار لم تخفت، وعاد ما يطلق عليه الأدب الإسلامي إلى الظهور. فهم كتابه أن مكانتهم قد ضاعت، وليس في وسعهم منافسة كتاب آخرين تجاوزوهم في الخبرة وفي الحضور، ولذلك غيروا من أسلوب تعاطيهم مع الأدب. بدل أن يكتبوا صاروا يوزعون صكوك التكفير على من يخالفهم في الرأي، مثلاً كلما نجح كاتب خارج الحدود وصموه بالانبطاح للغرب، وخدمة أجندات أجنبية، كلما بزغ نجم كاتب آخر أنزلوا على رأسه فتوى في فيسبوك، كلما صعد اسم كاتبة انشغلوا بالتعليق على مكياجها أو ثوبها. فالأدب الإسلامي في الجزائر لم يعد مهتماً بصناعة كاتب، بل يهمه التشويش على القارئ. وذلك ما لاحظناه إثر الجدل الذي اندلع بسبب رواية عنوانها «هوارية» فلا أحد ناقش مستواها الفني العادي، بل انشغل أنصار الأدب الإسلامي في التشويش على القارئ بنشر جمل مفصولة من المتن، وصفت بأنها «تخدش الحياء» ثم وسعوا دائرة نيرانهم في الطعن في روائيين آخرين، وفي شيطنتهم. لقد استطاعوا أن يقفوا حاجزاً بين الأدب وتلقي الأدب.
كما أن حضورهم زاد كذلك في كليات الأدب العربي في الجامعات الجزائرية، فمن الغريب أن نرى أستاذاً يسيء إلى رواية بسبب أن كاتبها له مواقف فكرية مخالفة له. وبدل أن يواجه الكتاب، يجعل هذا الأستاذ من الكاتب هدفاً له. لقد تعممت النظرة الدينية في كليات الأدب، فمن يناقش موضوع الاستعمار، يوصم بحليف الاستعمار، أو أن مخيلته كولونيالية، من يناقش موضوع الاستشراق، يوصف بعميل المستشرقين، وهكذا دواليك. صار تعاطي الأدب في جل هذه الكليات يخضع إلى نظرة دينية، إلا في حالات نادرة قد نصادف كلية آداب، في الجزائر، نجت من الموجة الدينية. هكذا هو مختصر مغامرة الأدب الإسلامي في الجزائر، بدأ عقب الأحداث في إيران، ثم تقرب إلى رجال سياسة، في حزب جبهة الإنقاذ الإسلامية، طمعاً في مناصب، وانتهى بالتأثير على القارئ ومنعه من التعامل مع الأدب كنص فني، مع تحريم الكتاب، بل محاكمته بناءً على رؤى دينية أو أخلاقية.