تعتبر الثقافة، في معناها الأنثروبولوجي، شيئا مكتسبا مرتبطا بالمجتمع. فهي بهذا المعنى الذي يضفيه عليها إدوارد تايلور، تعتبر خزانا من الأفكار والقيم والمعتقدات والقواعد السلوكية المتراكمة عبر حقب زمنية، تنتقل من هذا الجيل إلى ذاك عبر ما يسمى بالتنشئة الاجتماعية، فتعكس بالتالي، هوية الأمة وشخصية أفرادها وتصوراتهم عن أنفسهم وعن غيرهم، كما تعكس أيضا طرق تفكيرهم وأساليب عيشهم وآليات تواصلهم وتفاعلهم فيما بينهم.
ويرى تالكوت بارسونز أنه بدون الثقافة يستحيل تحقق تجمع بشري في شكل ثقافة مشتركة ك “شرط وظيفي مسبق أو حاجة أساسية لمجتمع يريد البقاء” وبما أن الثقافة مرآة عاكسة للهوية وطرق التفكير لدى أفراد المجتمع، فقد تتعرض للطمس لقرون عديدة، فتنهار بسبب ذلك أمم وتسقط حضارات في مهاوي التحجر والجمود الفكري والعقائدي، لكنها تنبعث كالعنقاء من الرماد، إذا ما وظفت كأداة إحياء للموروث وللمخزون التاريخي وجعله فاعلا وقادرا على التكيف والمواءمة الإيجابية لابتكار نماذج للتحديث الفكري والاجتماعي والاقتصادي.
تظهر الثقافة في توجهاتها العامة، كتعبير عن هوية جماعة ثقافية ما، هوية تستقيها من مختلف أشكال الوعي المتوارث تاريخيا عن الأجداد المشكل لرؤية خاصة للعالم. كما تظهر أيضا كعامل منتج لكل تراث شفهي وكتابي وكل أشكال التعبيرات اللغوية والرمزية. وهي بعد كل ذلك، تمثيل للرصيد والموروث التاريخي والحضاري لتلك الأمة، تقوم بوظيفة الصلة ما بين الماضي والحاضر وتستشرف آفاق المستقبل. فقد ترتقي تلك الأمة في سلم الحضارة بنمو وازدياد رصيدها الثقافي وقد تضمحل وتزول بنقصانه أو ثباته عند مرحلة تطورية من مراحله. فرغم الاختلافات التي تشوب الثقافات، هناك نقط تقاطع تلتقي عندها تلك الثقافات، تنشأ بفعل التأثيرات المتبادلة، فيحصل ما يسميه الأنثروبولوجيون ب ” التثاقف”، وهذا الأمر يعد ثمرة من ثمرات التفاعل الإيجابي والبناء بين الأمم الذي يسجله التاريخ.
لا يصح الحديث عن مجتمع متقدم وثقافته راكدة لا تجدد من مستلزمات نهوضه، ولا تحث على استنهاض همم أفراده، ولا يمكن نعتها بالثقافة الفاعلة إلا إذا كانت متجددة تدعو إلى التغيير والتجديد
الثقافة وأدوارها الطلائعية
ومن الأدوار الطلائعية التي تقوم بها الثقافة نجد ذلك الدور الذي تسعى من خلاله الثقافة إلى تجديد الرؤية لدى المجتمع ومختلف مكوناته لمواكبة تحولات العصر الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، عبر الدفع بالوعي نحو إدراك تلك التحولات ومدى قابليتها الإجرائية على تحفيز قدرته الذاتية على تغيير العقليات ودفعها إلى مناهضة كل أشكال الابتذال والاجترار والنكوص الضارة بالمجتمع وفي هذا الإطار يبرز التماهي المطلق للدور الطلائعي للمثقفين مع دور الثقافة، والذي يتجلى في تحريك ثوابت المجتمع وقيمه الأصيلة وتوجيه متغيراته نحو الوجهة الصحيحة.
ومن أجل تحقيق هذا الأمر وتعزيزه، ينبغي أن ينصب جهد المثقفين الفكري على طرح أسئلة الثقافة والهوية وتعميقها في اتجاه فاعليتها في تنشئة الأفراد والجماعات، والدفع بالأطر والمرجعيات المختلفة سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية أو حقوقية نحو خلق إطار واضح المعالم والأغراض والأهداف وتوسيعه عبر نشر ثقافة الحداثة والمواطنة الحقة المرتكزة على دولة الحق والقانون في إطار تكريس القيم الإنسانية لنبيلة، قيم المساواة والعدل والإنصاف والتضامن والديمقراطية والتسامح.
لا يصح الحديث عن مجتمع متقدم وثقافته راكدة لا تجدد من مستلزمات نهوضه، ولا تحث على استنهاض همم أفراده. ولا يمكن نعتها بالثقافة الفاعلة إلا إذا كانت متجددة تدعو إلى التغيير والتجديد للبنيات المترسبة العتيقة، ثقافة تعي مختلف المتغيرات الذاتية والموضوعية باعتبار هذه الأخيرة جملة عناصر معززة للروابط الاجتماعية والتاريخية بين أفراد المجتمع المحلي والروابط الحضارية والإنسانية بين أمم وشعوب ومجتمعات العالم، التي تعطيها الحق في الاستمرار والتجدد، وتضفي على مدخلاتها ومخرجاتها طابع المشروعية في الوجود الإنساني الفاعل.
ومن أهم الأدوار الطلائعية التي تجعل من الثقافة مجددة ومتجددة نجد ذلك الدور الذي تسعى من خلالها إلى تطوير حساسية التلقي الجمالي لدى الأطفال منذ حداثة سنهم، تجاه أشكال التعبير الحديثة المختلفة من موسيقى ورقص وفن تشكيلي وغيرها من الميادين والمجالات الإبداعية. ولن يتأتى لها ذلك إلا بالاهتمام بالمواهب المطمورة وإبرازها للعلن، وذلك عبر صقلها حتى تستطيع أن تقول كلمتها وتنشر رسالتها المجتمعية والحضارية.