غفران” ابنتي التي لم أنجبها بعد، هي طفلتي المدللة، وقدري الساحر. “غفران” ملاك مشاغب، تعودت أن تفتش أدراج مكتبي الذي لم أقتنه بعد، وتبعثر أوراقي التي لا أضعها عليه، وهي مجنونة مثلي، وربما أكثر مني، في كل شيء تحاول تقليد أمها التي لم أتزوجها بعد، فتمضي وقتها إما في المطبخ الذي لم أفكر حتى الآن أين سيكون، وإما في الحديقة التي لا أملكها تسقي النباتات التي لم أزرعها بعد. وغفران يسرقها شذا الياسمين، فلا تنسى أن تقطف كل صباح ياسمينة كاملة البياض لتحضرها إلي وأنا هناك تحت الشمسية أشرب فنجان قهوة لا أشربه، وأطالع صحيفة لم أعد أطالعها. وهي مأخوذة بالمقطوعات الكلاسيكية، فكثيرًا ما وجدتها تقلب أسطواناتي التي أفكر في شرائها يومًا، وتضع واحدة لموزارت في الجهاز الذي أحلم أن أمتلكه. و”غفران” متعلقة بمرآة لم أحدد بعد على أي جدار سأعلقها، تقف أمامها فتنسى أنها طفلة، وهي تحاول وضع شريط على شعرها.. شريط مزين بفراشة… كل شرائطها مزينة بالفراشات كأنها لن تبدو أجمل هكذا بأخرى غيرها. وهي شغوفة بالرسم، فكل لوحاتي التي لم أرسمها بعد تعرف كيف نشأت من اللاشيء وكيف اكتسبت معناها، بل هي تحفظ أسماء كل الأصباغ والأقلام والفـُرش التي لا أملكها.
“غفران” امرأة كبرت فجأة على حين غفلة مني كأنها لم تكن طفلة يومًا، لم تعد تأبه كثيرًا للياسمين، صار لها عطر أنوثة آخر، ولم تعد تحب الموسيقى، فقط تكتفي بالدندنة بين حين وحين سرًّا، وكنت كثيرًا ما أتجسس عليها وأنا أدري أنها ستصمت حين تراني وقد غالبها الحياء. أما الرسم فبات شكل هذيانها الأنيق.. كم اندهشت وأنا أقلب بين يدي دعوتها لزيارة معرضها الأول، كأنني ما ظللت الرجل الذي يكاد يسكن معها ذلك المرسم. “غفران” ما عادت تعقد شعرها بشرائط زينة، حتى إنني ما عدت أذكر متى كانت آخر مرة رأيته فيها قبل أن تقوم ذات صباح لترتدي حجابها الذي لا أدري متى اشترته ولا من ذي التي أقنعتها به. وهي.. كما هي دومًا.. غانية لا حاجة بها للتجمل، فأصبحت المرآة هكذا مجرد شيء مركون على جدار، شيء يخصني أكثر مما يخصها. و”غفران” ما عادت تفتش أدراج مكتبي، بل صارت ترتب أوراقي وحاجياتي بما لم أستطعه أنا الفوضوي طيلة عمري، وتترك لي من وقت لآخر قصيدة لا أسلم من دوختها. حين أتى ذلك الرجل ليطلب يدها مني، لم أكن أعرف كيف يزوج الآباء بناتهم، ولا كيف أسمح لرجل غريب أن يسرقها مني، ولا… كنت أحدق به بعينين منكسرتين، مكابرتين أيضًا.. كنت أنا، هو، وبيننا هي.. رجلان وامرأة تحاول أن تعقد بيننا مقارنة مستحيلة وقد أحببناها لأسباب مختلفة. حين شعرت بأنني على وشك “خسارتها” أردت أن أغادر وأنا أبدو منتصرًا.. ولو أمامي.. ولو وهمًا. قلت له “أتدري أنني لطالما أحببتها أكثر منك؟” لم يحاول أن يجرحني بأية إجابة مكتفيًا بابتسامة. كنت شخصًا عنيدًا جدًّا جدًّا، وكانت هي تدرك هذا؛ ولذا نظرت نحوها لأجد عينيها تنتظران مني إثبات الأمر، وكنت قد قررت التأجيل.
لاحقًا، حين همت بالتوقيع على عقد الزواج توقفت فجأة. نظرنا إليها معًا، تبادلنا الصمت شيئًا قبل أن تسأله “كيف أعرف أنك تحبني أكثر مما يفعل أبي؟”.. نقل بصره بيننا بهدوء وثقة قبل أن يرد “لأني في كل يوم أحبك أكثر من أمس، وأقل من غد”. فاجأها رده، خافت ألا أملك جوابًا مماثلًا، جوابًا على قدر إجابته، أو أقرب إليها فقط، ورغم أني عودتها كسب التحدي، إلا أن ما قاله كان يستحق الخوف. نظرت إليه، رأيت عينيه مشبعتين بالنصر. كنت أعرف جيدًا أن هذه ليست عبارته، وهذا قطعًا لا ينفي الدهاء في باقي كلماته. “وأنت أبي؟”.. تأملتها… هذه الطفلة.. هذه المرأة.. والأشياء تلك أذكرها على عجل كما لو أنني سوف أنساها بجرة قلم منها: الأوراق المبعثرة والياسمين والمقطوعات والفراشات واللوحات وصوتها وقصائدها وسحر تواجدها معي… كل شيء يتفلت.. ينفلت… أغلقت عيني قليلا قبل أن أجيب “لن تعرفي أبدًا.
“غفران”.. حكايتي التي لم تبدأ بعد…