لقد صار عيش الإنسان تحت سقف التوترات الفادحة، والقيود اللامرئية الشرسة، والإكراهات العمياء، دافعًا له إلى البحث عن سكن يتنفس فيه أقصى درجات الحرية، ولم يجد في كل الجغرافيات ما يُلبي هاجسه هذا سوى جغرافية الشعر التي تتجدد فيها الأحلام تَجدد العطر في النور.
والشعر هو أوكسجين الوجود الذي لا غنى عنه للإنسان، سيظل جمهوره في ازدياد واتساع كلما أحس الإنسان بالاختناق في مجتمعات الاستهلاك، والحياة الفظة، واللهاث المتوحش وراء المال، وتعملق الشركات تعملقًا أسطوريًّا، حتى ولو بدا الأمرُ في مرآة الظاهر مُعاكسًا لهذا. ففي أوروبا وأمريكا، وروسيا، وفي البلاد العربية تحضر أمثلة لشعراء نسجوا الحساسية الكونية باقتدار خارق، واجتمع حول أضوائهم الشعرية فراشُ الوجدان من كل حدب وصوبٍ؛ لأن لغتهم الإنسانية كانت فوق كل اللغات. فأمريكا الرأسمالية الضخمة لم تكن وجهًا إنسانيًّا رائقًا إلا بـ”وَالْتْ وِيتْمَاتْ” و”سَكْوير”و”ألان غينسْبيرْغْ” الذي كان يقرأ قصائده أمام جمهور غفير في حديقة سَنْتْرَالْ، والاتحاد السوفياتي الجليديُّ الروح لم يكن دافئًا إلا بـ “أَنَّا أَخْمَاتُوفَا” و”بُوريس باسترناكْ 1890 ـ1960م” و”يَفْغيني إيفتوشينكو” الذي كان يقرأ أشعاره ـ أينما حل وارتحل في بلاده أو في أوروبا وأمريكا ـ إلا في ملاعب الكرة، فتهتز له الملاعب نشوة شعرية، وهو بهذا الصنيع كان يعيد الناس إلى أمجاد الشعر الروسي في النصف الأول من القرن الماضي، وكأنه امتداد لبوشكين، ومايَاكُوفَسكي، ويسنينْ، والشعراء المستقلين التواقين إلى الحرية إزاء المنغلقين على أنفسهم.
هذا الشاعر السمهري القامة كلما تذكرته تذكرتُ الشاعر محمود درويش، فهو شبيه به سمتًا ونَجْمِيَّةً وإلقاءً، فكأنهما توأمان صورة وسحرًا، فهو حين زار مصر احتفى به مثقفوها وشعراؤها احتفاء استثنائيًّا كبيرًا، وخصصوا له أعدادًا من الصحف والدوريات الصادرة في ستينيات القرن الماضي، وفي مقدمتها مجلة “الهلال”، وترجموا أشعاره إلى العربية في أكثر من منبر ودار. وكان هذا الاحتفاء لا يضاهيه إلا احتفاؤهم آنذاك بجان بول سارتر فيلسوف الوجودية السائر في “دروب الحرية” بقامة المضطهدين وأشواقهم. أما في المغرب فلم تكن زيارة إيفتوشينكو له بذات صدى، فقد قرأ شعره في كلية الآداب بالرباط أمام قلة قليلة من الحاضرين، وكثير من الكراسي التي تغط فيها الأشباح والظلال متربصة بالجمهور الافتراضي فهل يعني هذا أن هذا الجمهور كان يشم رائحة القمع التي تحاصر رائحة الشعر، فاختار تفويت الفرصة على الرائحة الأولى بالغياب لتعريتها؟!.
كل الافتراضات ممكنة…ولكنها لن تحجب الناس عن الشعر وطن حريتهم الذي يبدعه الشعراء من طينة مُورِيسْ ميترْلَنْكْ، ورابِنْدْرَانَاتْ طاغور، وتوماس سْتيرْنِيزْ إلأيوتْ، وبودلير وسان جون بيرس، وجيورجس سيفيريس، وغارسيا لوكا، وأدونيس، وسعدي يوسف، ونزار قباني، ومحمود درويش، وغيرهم من الذين كانت قاعات العالم ومسارحه ومركباته الثقافية تورق جمهورًا كلما حلوا فيها. وهذا يدل على أن الشاعر خرج من شرنقة الذاتية المغلقة، ودخل في النبض الحي للإنسان.