قراءة في نماذج منظرة.
إن الحديث عن الأخلاق والجمال يقع في صلب سؤال جوهري في التجربة الشعرية الإنسانية، وهو سؤال الطبيعة ثم الوظيفة، منذ الصراع المختلق بين الشعراء والفلاسفة. بعد أن عرَّض سقراط بالخطباء والشعراء، وبعد أن منع أفلاطون عن جمهوريته “الشعر الغنائي والقصصي؛ لأنه يؤدي إلى تحكم الغريزة وبسط الألم واستبداد الشهوات”([1]). واشتعلت جذوة هذا النقاش من جديد في القرن التاسع عشر بعد أن ظهرت مدرسة “الفن للفن” احتجاجًا على “طغيان مدرسة الفن للأخلاق”([2]). وكانت صرخة بودلير مدوية وهو يعلن أن ” لا غاية للشعر سوى نفسه، ولا يمكن أن تكون له غاية أخرى…”([3]). وطرح هذا السؤال بحدة في مصادر النقد العربي ومنجز الشعراء الإبداعي، ويتنازعهم بدورهم موقفان اثنان “موقف المتعة الخالصة، ونقصد به أن الشعر كان يقال لذات الشعر، موقف المنفعة المباشرة بالبحث على فعل أمر أو تركه”([4]) . ولقد كانت مواقف الأصمعي([5]) والصولي([6]) وقدامة([7])، وابن قتيبة([8]) وابن طباطبا([9]) وحازم([10])…، إطارًا نظريًّا للعملية الإبداعية توجيها وتفسيرًا ونقدًا… . وقد لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن الحديث عن الأخلاق والجمال في الفنون عامة لم يحسم بعد لصالح أحد التوجيهين على حساب الآخر. بل يختلفان ويتقابلان أحيانًا إلى درجة التناقض، ويتلاحمان ويتضامان في أحيان أخرى إلى حد التماهي والتعاضد، بحسب مذاهب الشعراء والنقاد الفنية ومحركاتهم الفكرية وقناعاتهم الأيديولوجية.
ولم يكن الشعر العربي في المغرب لينأى عن هذا النقاش، وإذا كان يصعب أن نصادف
[1] – النقد العربي عند العرب واليونان، د. قصي الحسين، ص:235.
[2] – دراسات في النقد الأدب المعاصر، د. محمد زكي العشماوي، ص:170.
[3] – الأدب ومذاهبه، د. محمد مندور، ص: 82.
[4] – في سيمياء الشعر القديم، د. محمد مفتاح، ص:8.
[5] – في قوله المؤسس: “طريق الشعر إذا أدخلته في باب الخير لان…”، الموشح، المرزباني، ص:78.
[6] – حين يفرق بين القيمة الاخلاقية والفنية للشعر، يقول: “وما ظننت أن كفرًا ينقص من شعر، ولا أن إيمانًا يزيد فيه”، أخبار أبي تمام، الصولي، ص: 8.
[7] – في ميله إلى الغلو في الشعر: “لأن الشاعر ليس يوصف بأن يكون صادقا، بل إنما يراد منه إذا أخذ في معنى من المعاني كائنًا ما كان أن يجيده في وقته الحاضر.” نقد الشعر، قدامة بن جعفر، ص:68.
[8] – في تقسيمه للشعر بحسب حسن اللفظ وجودة المعنى إلى أربعة أقسام. الشعر والشعراء،1 /12-20.
[9] – حين يؤكد على الجانب الأخلاقي المباشر في الشعر، ويربط جيده “بتصوير المثل الأخلاقية التي امتدحها العرب والتي ثبتها الإسلام”، مفهوم الشعر، جابر عصفور، ص:40.
[10] – في حديثه عن الوظيفة النفعية والجمالية للشعر، منهاج البلغاء،حازم القرطاجني، ص:294.
توجهات جمالية خالصة، فإن تفاعل المضامين الأخلاقية والبنيات الجمالية يتراوح بين التعضيد والتغليب والتوفيق، مما سنقف عليه بعد حين. وتوخيًّا للإجرائية وحصرًا للموضوع فسيسعى هذا المقال إلى الانطلاق من مجموعة من التساؤلات تشكل هواجس ترافق القراءة في جميع مستوياتها. تم سنقف على نماذج منظرة فقط (في انتظار مساءلة المنجز في فرص لاحقة). وذلك خلال فترة محددة (القرن الحادي عشر الهجري)، مع استحضارها باعتبارها توجهات كبرى طبعت الشعرية العربية في كافة مراحلها.
– أسئلة القراءة:
وأروم فيه طرح أسئلة ومواقف تحس القراءة بأهميتها وضرورة الوعي بها.
1-1. سؤال الممارسة والاشتغال: إن دراسة تنظيرات شاعر أومجموعة من الشعراء في مرحلة معينة لا يمكن أن يكشف بوضوح عن آليات اشتغال الإبداع لدى هذا الشاعر أو تلك المرحلة. فبغض النظر عن أن الشاعر يمارس مع القارئ والناقد لعبة الخفاء والتجلي، فإنه إنما يرسم في تنظيراته حدود “القصيدة النموذج ” التي يسعى إليها في شعره. وقد يصل إلى شيء منها دون أن يدركها كلها، وإلا توقفت رحلة الإبداع وانسدت آفاقه. ولا يمكن في هذا الإطار إهمال بعد ” الجانب الذاتي الغامض عن التتبع والإدراك”([1]). مما يجعل الإحاطة بدقائقه وتمفصلاته أمرًا قد يستعصي حتى على الشاعر نفسه.
1-2. سؤال الائتلاف والاختلاف: كثيرًا ما تثار عدة أسئلة أمام الدراسات التي تتناول إبداع مجموعة من الشعراء أو مرحلة زمانية محددة، ذلك أن الشعرية هـي خصيصة فرديـة ” أي طريقة في الكتابة خاصة بواحد من الأدباء”([2]). وتكون هذه الأسئلة أكثر إلحاحًا حين يروم الباحث تتبع بنيات تنظيرية تتراوح بين التضارع والتعرض. وإذا كنا لا نحتاج إلى التذكير بان الكشف عن مكامن الاتصال والانفصال والوحدة والتعدد هو منهج علمي له ما يبرره، وأن في رتق ما تفرق من الاجتهادات والتنبيه على ما اختلف منها وائتلف تتجلى إجرائية التحليل والتأويل؛ فإن هذا الاختيار تبدو فعاليته حين تعضد النصوص المؤطرة بخلاصات مركزة، ترصص التصورات وتنبه على مواقع الائتلاف والاختلاف بينهما.
1-3. سؤال الثبات والتحول: تختلف المواقف التي تصدر عنها النماذج المنظرة في المرحلة المختارة، فمنها ما يصدر عن موقف تعليمي أو تأليفي ثابت، وهو ما يسمح بمساءلة النصوص والمقارنة بينها، وتتبع المفاهيم والاستدلال بها. ومنها ما يأتي جوابًا سريعًا عن سؤال مفاجئ، وهنا يجدر التنبيه إلى سياق ورودها، والتعامل معها في إطار التصور العام للشاعر. إلا أن مهمة القارئ تصبح أكثر صعوبة حتى يصدر التصور عن موقف شعري متحول منبث في ثنايا القصائد. ورغم اعتمادنا على هذه الأشعار أثناء القراءة، فإن هذا السؤال يستمد قوته من ثلاثة عوائق أساسية.
– عائق التحول: فالشعر يسعى دائمًا إلى الانفلات والتأبي على التحديدات العلمية والتفسيرات المعيارية المباشرة، والتجربة الشعرية تجربة متحولة، متباينة المواقف والمصادر. إذن، فكيف يمكن الاستدلال به على توجهات الشاعر وقناعاته التنظيرية؟
– عائق الفخر: ذلك أن الشعراء أكثر ما يسعون في هذه الأشعار إلى الفخر وادعاء التمكن من الصناعة، مما قد يغلب على التنظير العلمي لأسس العملية الشعرية وتفاعلاتها، وقد تأكد أن مديح النفس والثناء عليها قبيح على قائله، وزار عليه إلا في الشعر([3]). فكيف يمكن تحويل موقف فخري إلى نموذج تنظيري نقدي؟
– عائق النمطية: فالشاعر حين يتحدث عن قصيدته ينقل معاني متداولة بين الشعراء السابقين عليه، فهي ” بكر” صادرة عن طبع ” مهذب”. والمعاني والألفاظ “لآلئ” كد الشاعر فكره في استخراجها. فقد يغلب التقليد والتنميط على الوصف المجرد والتجلية الحقيقية لأسس التجربة الشعرية المتوارية أصلًا. فهل نحن أمام امتدادات أفقية لمعان نمطية أم بنيات تستغور قناعات الذات الشاعرة ورؤاها المتميزة؟
إن أصالة هذه الأسئلة وقوة طروحاتها تفرض على القارئ:
– التعامل الحذر مع هذه النماذج واستحضار أبعادها الجمالية ووظيفتها الشعرية.
– إبراز جوانبها المنظرة مع الإحالة على جوانب أخرى غيرها لمحاولة بناء سبق شامل قد يصدر عنه الشاعر في تنظيراته.
– استحضار مستويات حضور التنظيرات النقدية في الإبداع الشعري والكشف عنها بأدوات تحليلية مسعفة.
– عدم إغفال رغبة الشاعر المتوارية في الاختباء وراء الخطاب الشعري لتحرير ما لا يجوز له إلا في ذلك المقام.
2- التفاعل بين الأخلاق والجمال: وسأعرض فيه لاتجاهات ثلاثة تكون بنيات التفاعل بين هذين العنصرين:
1.2- التفاعل بالتعضيد: ونقصد به ما سعى إليه بعض الشعراء من العناية الكبيرة بشعرية النصوص من أجل تعضيد وتقوية مضامينها وغاياتها الأخلاقية السامية. وهو ما ظهر بشكل جلي لدى أبي سالم العياشي الـذي حسم الموقف بدءًا لصالح الأخلاق، بوقف شعره على مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول ([4]):
فمـا المدح إلا مـا يخص جنابه ومدح سواه في الحقيقة كالهجا
ويقول([5]):
فبـجـاهه وصحـابه فـإليهم وإليـه أصرف مدحتي وثنـائي
ثم يشير بين الحين والآخر إلى عنايته بحسن إعداد إبداعه وترتيب أطرافه، يقول([6]):
وخير من استعملت في نظم مدحه صحيح المعاني وانتخبت له لفظا
ويقول :([7])
حـاك من صنعة القريض برودا لك لم تحـك وشيهـا صنعاءُ
أعجـز الدر نظمه فاستوت فيه اليـدان: الصنـاعُ والـخرقاءُ
ويتجلى هذا النزوع التعضيدي في إنكار أبي سالم على طالب من بلاد زيز سوغ اللحن والكسر في مدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ متعللا في ذلك بصدق نية وعمق المحبة في الجناب النبوي: يقول: “فاللحن لا بد أن يؤدي إلى الخطأ وارتكاب سوء الأدب… واحذر من الوقوع في هذه البلية” ([8]). ثم يستدعي العياشي مختلف الأدلة من كلام: “من له بصيرة بنقد الشعر وعلم العربية” للرفع من قيمة الجمالية، والعناية بمكوناته الشكلية إلى جانب مضامينه النبيلة. فإذا كان اسم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعاني مدحه في الشعر كالعروس، فإن الأولى إضفاء مختلف أنواع الحلي والزينة عليها ومثل ” الكلام الملحون السخيف الفظ القليل الفائدة كأخلاق الثياب المرقعة من أسمال وغيرها، أيرضى العاقل أن يضع على العروس الثياب الخلقة ويتركها بلا زينة ولا تطيب…وأيضا فإن الشعر غنما كانت منزلته رفيعة واستحلته الأسماع لاشتماله على بدائع الألفاظ وغرائب المعاني وتجويد لحنه وتحريكه للنفوس وتنشيطها…” ([9]). ويتردد التوجه نفسه في البنيات المنظرة الصادرة عن الشاعر، حيث يرصص جلال المعنى إلى تمكن الصنعة في كل حديث عن الإبداع وفعالية العملية الشعرية في بعدها الغائر في أعماق النفس والباحث في الذات النبوية عن صفات السمو والكمال. وقد سار محمد المرابط الدلائي وابنه محمد على نهج أبي سالم في وقف شعرهما على مدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يحسم في توجهاتهم الأخلاقية، ثم يشيران بعد ذلك إلى استجابة لتنظيرات النقاد وآرائهم الفنية. يقول محمد بن محمد المرابط الدلائي في وصف إحدى قصائده([10]):
تمشـي على استحيـا تجر رداءها لحمـاكم فـرقا مـن النقاد
أرخت بـراقعها وغضت طـرفها خجلا من الهادي لدى الإنشاد
فاستدعاء ” الإنشاد” و “النقاد” وادعاء الخوف هو استحضار قوي للهاجس الفني الذي يلزم القصيدة بأن ترخي براقعها متملصة من رقابته القاسية، وهي إشارة إلى لحظتين هامتين بهما شعرية الإبداع، الأولى: لحظة الإنشاد، التي هي موهبة أخرى تضاف إلى موهبة القول، قد تبين حظ الشاعر من التفرد وبالتالي من إعجاب السامع([11]) . الثانية، لحظة النقد التي تشكل امتدادًا أفقيًّا وعموديًّا للحظة الإبداع: وتعمل على تفعيل الصفات المتميزة للإنتاجات التي ترافقها.
وليست هذه النماذج إلا أمثلة محدودة لتفاعلات التعضيد بين الأخلاق والجمال لدى شعراء الفترة المختارة، إلا أنها جميعًا كانت تصدر عن نسق أخلاقي واحد يتلبس بلبوسات جمالية وفنية متنوعة.
2-2. التفاعل بالتدافع: وتأتي فيه النزوعات الجمالية تالية للحمولات الأخلاقية، مما يتمثل عمليا في مذاهب بعض الشعراء والمتعاطين حديثا للصناعة من تغليب للمهمة السامية للشعر في جانبه المضموني الغنائي على المهمة الفنية في أبسط صورها. وينص التمناري على ذلك صراحة في قبوله لأشعار بعض الطلبة في المديح النبوي، قصرت مدارك العربية لغة ونحوا ووزنا ، يقول([12]):
وَرِدْ مَوْرِدًا يحيي النـفوس شرابه ومسك مديح الصادقين ختامه
ولا تكترث باللحن في مدح أحمد فمدحك مقبول لديه نظـامه
فيدعو، بخلاف أبي سالم العياشي، الطالب المقبل على الصناعة إلى إطلاق العنان لأفكاره واجتهاداته في مدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمبالغة في ذلك دون خوف من النقد أو التجريح، إذ المقام أكبر من هذه العناصر الشكلية، والحوض النبوي مشاع لكل وارد مهما كانت بضاعته. ويستدل الشاعر في موضع آخر بصواب هذا التوجه بقبول المنصور لشعر مطعون فيه جماليًّا ومجازاته عليه. فينقل ما روي عن شاعر ” في دولة المنصور رحمه الله رفع إليه قصيدة فطعن فيها بما ذكر، فأمر له المنصور بجائزته وما قصر به، وإذا كان هذا من ملوك الدنيا فكيف لا يكون من ملك الدارين صلى الله عليه وسلم” ([13]). فسنرى التمنارتي يتعاطف مع الشعراء في أهدافهم التكسبية سواء كانت أخروية نبيلة في شعر المديح النبوي أو دنيوية مادية في المديح الدنيوي. وقد بالغ في التعامل مع صدق النوايا وشرف المضامين، على حساب البناء الفني والوصف الجمالي.
ويبدو هذا الموقف واضحًا في الأدلة والحجج التي يسوقها طالب من وادي زيز انتصارًا لمذهب التغليب والبساطة، وأولها صدق النية وصفاء الطوية: “فما هناك من خطأ وزلل يحتمل في وجهه صلى الله عليه وسلم([14])، وأهل المحبة – في رأيه – ” لا يبالون بأنواع البديع ووجوه تحين الكلام، ويستغنون عن كل ذلك بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ” ([15]) فبه تحسن الأشعار وتوشى القصائد، والمحبة حالة صوفية تعمي وتصم فتخرج صاحبها من دائرة المميزين، ليقول على غير قياس ويشعر “بغير اختياره لما اشتعلت نار حبه صلى الله عليه وسلم في فؤاده. وأن الشوق هو الذي أبرز ذلك منه”([16]). أما عن البساطة والمعيارية فهو توجه مقصود، يحاول به “الطالب” أن يأتي ” بكلام تفهمه العامة” فعنده أن الشعر ما يضمن التداول بين أكبر فئة من المتلقين ” فلا يفرد الخواص بهذه المنفعة والمتعة ويحرم منها عامة الناس الآخرين”([17]). ثم عن أهل المحبة والسالكين طريق التصوف يقصدون ذلك قصدًا “يتعمدونه مخافة الرياء” ([18]). فالعمل الشعري إذا كان متقنًا جميلًا، قد ينصرف منه الشيطان إلى نفس قائله، فيختلط بحب الرسول الرغبة في الظهور والمراءاة بجودة العمل، مما يجعلهم يخلون ببعض عناصره سدا للذرائع وضمانًا لخلوص النوايا.
إن تغليب الوظيفة الأخلاقية للشعر على الوظيفة الجمالية لم يلغ الأخيرة وإنما جعلها تالية قد يصلح الشعر بها دون أن يفسد بغيابها، وهو توجه متمثل في جزء غير قليل في المنجز الشعري المغربي، مما حدا ببعض الباحثين إلى وصفه بين الحين والآخر بالقصور واستنساخ التجارب السابقة.
3-2. التفاعل بالتضام: ونقصد به ما سعى إليه بعض شعراء الفترة من الاهتمام بالوظائف الأخلاقية النفعية إلى جانب جماليات النصوص ووظائفها الفنية. وقد كانت تنظيرات أبي علي اليوسي أبرز تمثل لهذا التوجه، وسعى غير ما مرة إلى التوفيق بين الألفاظ والتراكيب والمعاني، وقد صنع في هذا المضمار شرحًا مختصرًا على قصيدته في مدح ابن ناصر الدرعي “يبين لحفاظها ما عسى أن يشكل من ألفاظها”([19])، ما أودع فيها من “متانة التركيب وجزالة اللفظ”([20]). إلا أن هذا المستوى ليس إلا عتبة أولى لولوج فضاء العملية الشعرية وما تحفل به من الاحتمالات وتناسل الدلالات، وتقديرًا للأبعاد الجمالية في القصيد، واستحضارًا لفعالية المتلقي أثناء عملية القراءة. فالشرح المذكور لن يكون متصدرًا – على حد قوله – ” لتقدير معانيها وتحرير ما لم يكن منه بد من مبانيها، إذ ذاك يتسع ويطول ويفتقر إلى أزمان وفصول”([21]). فالقصيدة النموذج هي التي تتجاوز ذاتها وتحققها اللغوي المباشر و”تفيض بالدلالات وتتفجر بالإيحاء بحيث يتعذر استنفاذ دلالاتها مهما تعددت المقاربات وتنوعت مناهج التحليل”([22]). وفي كتابه ” زهر الأكم في الأمثال والحكم” يعقد اليوسي فصلا خاصًّا لفضل الشعر، فيقسم الحكم فيه بدءًا إلى مندوب ومباح ومكروه وحرام، تم يعقب عليه باستدراك يبين فيه مكامن تميز الإبداع، وكأنه ينتقل من الوظيفة الأخلاقية التي تتحقق في المستوى التواصلي المباشر، إلى الوظيفة الجمالية التي تميز الإبداع وتمنحه خصوصيته: يقول: “… مع أن الشعر قد حسنت فيه أشياء لم تحسن في النثر، وذلك مما يفضله به الأدباء، منها الكذب الذي وقع الإجماع على حرمته فإنه جائز في الشعر… ومنها تزكية الإنسان نفسه ومدحه إياها، ومدح الإنسان بحضرته، ومدح المحرمات من الخمر والنساء الأجانب ونحو ذلك، ومنها خطاب الممدوح مثلًا باسمه وبكاف الخطاب مما يكون في النثر استنقاصًا، ونحو هذا ” ([23]). ففي النص استبطان لمستويات التفاعل بين الأخلاق والجمال حيث تصل إلى أن تفقد المضامين معانيها الأصلية، ووجودها الواقعي المباشر لتكتسي العملية الإبداعية حللا جديدة وأبعادًا مغايرة لها تميزها وطرافتها. فالواقع الخارجي يصبح واقعًا ذا خصوصية. فيصير الكذب صدقا، والخمر المسكرة والأرداف المهتزة آليات فنية فعالة تبعث نفَسًا متجددًا في القصيدة، يأخذ بلب المتلقي، ويرغمه على إعـادة بناء شفرات القـراءة وآليات التأويل.
ففي قصيدته المذكورة حين يرصص بنى معرفية مختلفة: النسيب، المديح، الوصايا، الوقائع، التصوف… كما نجد استحضارًا نموذجيًّا لمجموعة من المعاني النمطية في القصيدة العربية، في توظيف فني زائف فيذكر الخمرة ويتشبب بالنساء ويبالغ في إبداع المودة وادعاء الولع بالمحبوب. كما يعتني بالبناء الشكلي أيما عناية، فقد احتوت الدالية/النموذج حسب الشاعر على: ” براعة المطلع وحسن التخلص والانتهاء، إلى ما ركبت عليه من ضروب البلاغة وما دبجت عليه من أفنان البديع، وكل ذلك بحمد الله تعالى على أبلغ وصف وأبدع رصف، وحسبك منها أنها قد طالت إلى نحو خمسمائة بيت وأربعين بيتًا، ولا يوجد فيها روي مكرر ولا ضرورة تستنكر”([24]).
وبذلك يسعى هذا التوجه إلى التوفيق المتناغم بين المهمة الأخلاقية المرتبطة بإبلاغ وتوصيل المضامين السامية النبيلة. والوظيفة الفنية الجمالية المتعلقة بحسن إعداد البناء الشكلي للقصيدة. أما اللغة فهي ذلك الخيط الذي يجمع وينض الشعر مادة معرفية للحفظ والتلقي تم تصير أداة فنية للإعداد والتحسين.
خـاتمة
وخلاصة القول، فإذا كنا لا نقبض على تنظيرات تعنى بالاتجاه نحو الأبعاد الفنية والشكلية على حساب المضامين الأخلاقية والحمولات الفكرية، فإن الأخيرة حاضرة بقوة في كافة تنظيرات الشعراء المعنيين بالقراءة. إلا أننا نصادف اختلافًا بينهم في مدى العناية بفنية النصوص وجماليات الإبداع الشعري بين مؤكد على ضرورة اهتمام الشاعر بأشعاره لتعضيد غاياتها الأخلاقية، وبين مغلب للجانب المضموني بحمولاته النبيلة على الجانب الجمالي الذي لا يعدو وان يكون شكليًّا إذا ما توفرت لدى الشاعر نية صادقة وطوية سليمة. بينما يركز اتجاه آخر على أن العملية الشعرية وفعالياتها الوظيفية إنما تكمن في التوفيق بين مهمتها الإبلاغية الأخلاقية والفنية الجمالية.
وبذلك تمثل التوجهات الثلاثة في الشعر المغربي أوجها أخرى للتفاعل بين الأخلاق والجمال في الشعر الإنساني عامة، تثري النقاش في الموضوع، وتساهم في تنويع آليات التناغم وطرق التضام.
ــــــــــ
ناقد من المغرب
[1] – التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، د. أحمد الطريسي أعراب، ص: 15.
[2] – بنية اللغة الشعرية، جان كوهن، ص 15
[3]ـ نفسه
[4] – المديح النبوي في الثغر الباسم، إعداد: نزهة بنسعدون، ص:156.
[5] – نفسه، ص128.
[6] – نفسه، ص:242.
[7] – نفسه، ص:116.
[8] – الثغر الباسم في جملة من كلام أبي سالم، محمد العياشي، ص:373-374.
[9] – نفسه، ص393.
[10] – الديوان، ص:63.
[11] – الشعرية العربية، أدونيس، ص6.
[12] – ديوان عبدالرحمان بن محمد التمنارتي، ص:141
[13] – الفوائد الجمة،عبد الرحمان التمنارتي، ص:378.
[14] – الثغر الباسم، ص:379.
[15] – نفسه، ص:396.
[16] – نفسه،، ص372.
[17] – نفسه: ص 407.
[18] – نفسه، نفس الصفحة.
[19] – نيل الأماني، أبو علي اليوسي، ص:2.
[20] – نفسه، نفس الصفحة.
[21] – نفسه، ص 32.
[22] – شعرية الغموض، ص 156-157.
[23]– زهر الأكم في الأمثال والحكم، أبو علي اليوسي، ص 187.
[24]– نيل الأماني، ص:3.