لقد جاءت فكرة “حركة البناء والتأصيل” الصادرة عن “شعراء بلا حدود” ردة فعل على تراجع الحركة النقدية العربية عموما؛ فكان جلّ ما قدمته المحاولات الجادّة لا يزيد عن كونه نقلا أمينا للأفكار الغربية المنفصلة عن الواقع العربي، وما تبقى لا يزيد عن كونه محاولات للبحث عن حضور ما لبعض المضامين والمفاهيم ذات الخصوصية العربية، لكنها جاءت ضمن معايير متصلة بشكل أو بآخر بالمدارس النقدية الغربية، وهي محاولة للتأسيس لمشروع نقدي نهضوي يرتقي بالمستوى النقدي العربي، ويردم الهوّة بين النقّاد وعموم المتلقين، عبر استثمار كل ما هو متاح على الساحة النقدية عربيا وعالميا. وكل ما يطرح من محاور هنا هي مسودات ابتدائية على جدول الأعمال قابلة للحوار البناء والأخذ والرّد والتطوير والإضافة؛ فنحن نتقبل مصطلحات التجاوز أو المقاربات أو الاتباع أو الإبداع، شرط انسجام المصطلح عند استخدامه مع واقعنا الحضاري وتراثنا الأصيل، فلسنا مع أي قطيعة مع أي فكرة على المستوى الإنساني على إطلاق الفكرة، وإنما يتحدد تجاوز الأفكار أو التقارب معها بناء على الفائدة المتحققة من تطبيقها ، فنحن مع المقولة المعروفة “علينا أن نبدأ من آخر سطح وطئته الأقدام”، ولا ننكر أهمية أن نستفيد ممن سبقنا ونتعلم من أخطائهم ونطور عليهم، فنوازن بين التحديث والتجديد، أي استحداث ما لابدّ من استحداثه في قضايا لم تطرق من قبل أو تجديد ما تم التطرق له، فإذا كانت خطيئة النقد الحديث – كما يقول الناقد عبد العزيز حمودة – ماثلة في تحديب نظريات النقد الغربي وتقعير نظريات النقد العربي فليس الحل بالضرورة هو تبديل المرايا، بتحديب ما كان مقعرا وتقعير ما كان محدبا، فكما هو الواجب علينا أن ننظر إلى سلبيات نظريات النقد الغربي علينا أن نتطلع إلى إيجابياته، وألا ننكر مدى تقدمه، ومن جهة أخرى، فكما أن الواجب إبراز إيجابيات نظريات النقد العربية عبر التاريخ، فيجب ألا نغض الطرف عن سلبياتها وضرورة تطويرها. وتلك رؤيتنا لبعض محاور الموضوع :
أولا: لماذا البناء والتأصيل :
نرى أن الحداثة هي حلقة (الآن) الناتجة عن تراكمات (الأمس) وأحداث (الآن) ، والمنتجة لحقلة (الغد)، فحتى نتفهّم الحداثة بالعمق اللازم يجب علينا ألا نكتفي بمعرفة أصول حدث إبداعي معين ومرجعياته. بل لا بد من إعادة صياغة فهمنا لهذه الأصول بما يكفل استكشاف العلاقات المؤثرة في وجود الحدث الإبداعي موضع الدراسة، ضمن حلقة (الآن). ومن جهة أخرى استكشاف مدى علاقات هذا الحدث بالأحداث حوله تأثرا وتأثيرا، بما يدفعنا لإدراك أن هذا هو الفهم الطموح للحداثة؛ عبر فهم آليات البناء للجديد (البناء) وفهم أرضية نشوئه وأصولها ومرجعياتها (التأصيل)، وبالتالي القدرة على التنبؤ بحركة هذه الأحداث مستقبلا .
ثانيا: التراث :
نتفق مع ضرورة عدم الانقطاع عن التراث الشعري والأدبي العربي بشكل عام، بيد أننا لا ننظر له بوصفه شكلا مقدسا يستعصي على المخالفة، وإنما بوصفه قاعدة صلبة قابلة للتطوير عليها؛ مما يستدعي ضرورة القيام بإعادة دارسة الجانب الإبداعي من التراث بوصفه ظاهرة تاريخية من جهة،ـ وبوصفه تعبيرا عن الذات المبدعة المتأثّرة بالظروف الزمانية والمكانية، وكونه تراثا غنياً بشتى صنوف الفكر والإبداع ، ومؤثرا في صناعة الأدب الإنساني ، وملتفتين إلى فاعلية دوره في الحياة الاجتماعية العربية عبر القرون الفائتة، من جهة أخرى.
ثالثا: الظاهرة والجنس الأدبي :
نرى أن الأدب عموما هو سلوك إنساني عام للتعبير عن أفكار الإنسان وهمومه وتطلعاته، حيث تجلّى هذا السلوك عبر التاريخ الإنساني الطويل بظاهرتين منفصلتين أحيانا، ومتداخلتين أحيانا أخرى، هما الشعر والنثر. ولكل ظاهرة من هاتين الظاهرتين، أو تداخلهما معا، تشكلات تحكمها الظروف الزمانية والمكانية، هي الأجناس الأدبية، لذا نرى أنه من المغالطات الكبرى أن نعرّف الظاهرة عبر تعريف أحد تشكيلاتها الكتابية، كأن نصف القصيدة العمودية -مثلا- وهي إحدى تشكيلات الشعر على أنها الشعر ذاته، بل يجب تناول الجنس الأدبي تشكيلا كتابيا لا أكثر، بحيث نعترف بأن أي شكل كتابي حديث، قابل للدرس النقدي بعيدا عن سلطة أي شكل كتابي آخر، باعتبار أنّ كل الأدوات الفنيّة المحدِّدة للجنس الأدبي هي أدوات نسبية قابلة للتطور والتغير بتغير الزمان والمكان، واعتبار مدى حاجة الجنس الأدبي لهذه الأداة أو سواها مرتهن بمدى انسجام الشكل الكتابي مع الظرف الزماني والمكاني، مع التأكيد على أن المقصود بالاعتراف هنا هو الاعتراف بإمكانية وجود أشكال كتابية جديدة دون النظر إلى أي سلطة لأي شكل أدبي قديم، وبكلمات أخرى، هناك إمكانية لا محدودة للأشكال الكتابية يمكن استحداثها -من حيث الإمكان- بينما تتحدد مدى أهمية هذه الأشكال الجديدة بمدى تعبيرها عن الواقع، ومدى إبداعيتها، ورأي النقاد فيها، وبحدود أدواتها الفنية، ولكن ليس من حق الآخر مصادرة هذه الإمكانية وافتراض مثالية أي شكل آخر، وكمثال لأغراض التوضيح، هنالك فرق كبير بين الجدال حول فنيات قصيدة النثر –مثلا- وبيان ضعفها أو قوتها من الوجهة النقديــة، وبين القول جزافا بأنها مرفوضة لأن حدود الشعر تقتصر على الموزون المقفى.. علينا أن نعترف بداية بإمكانية وجود نمط كتابي اسمه قصيدة النثر، وبعد ذلك يمكن تشريحه نقديا للفصل في مدى إبداعيته أو مدى استحقاقه بالتفرد كجنس أدبي جديد، أو كشكل كتابي جديد أو مثلا تبيان مدى حاجته لتطوير أداة فنية من أدواته الشكلية، إلخ..، وهذا طبعا ما يحدده النقاد وليس غيرهم، ولا يمكن لذلك أن يتحقق دون مقدمة الاعتراف بإمكانية وجود الشكل الكتابي الجديد؛ فمن يقل بمثالية الشكل الموزون للشعر وبالتالي انعدام الشعر خارجه، كيف له أن ينظر نقديا في قصيدة النثر؟! إذن فالفكرة تتلخص في الاعتراف بأي جنس أدبي أو شكل كتابي من حيث المشروعية أو إمكانية الوجود؛ أما من حيث تحقق شروط جنسه أو مدى أهليته أو استحقاقاته التجنيسية أو إمكاناته الإبداعية؛ فذلك مرتبَط مؤكَّد بالنقاد وتفصيلاتهم النقدية.
رابعا: إمكانية دراسة النص الإبداعي على مستويين:
أ. متسوى داخلي (ذات النص):
ـ – محور جزئي يهتم بعلاقة الشكل بالمعنى (الصورة ، تراكيب الجمل ، العمق ، الألفــاظ، إلخ)..
ـ- محور كلي يهتم ببنية النص الكلية (مدى تماسك النص، إيقاع النص، مدى مناسبة الأدوات الفنية المستخدمة داخل النص، إلخ)..
ب. مستوى خارجي ( الظروف البيئية للنص، والذاتية للناص، ومدى التناص مع الآخر)،
وتقاس أهمية أي مستوى من هذه المستويات بمدى تأثيره على النص من حيث إبراز جانبه الإبداعي، فلسنا هنا مع التركيز على الدراسات السسيولوجية أو حتى السيكولوجية للأدب مثلا ـ فنحن نعتقد بصحة المقولة التي تقول : “لا يوجد نظرية خاطئة على إطلاقها أو صحيحة على إطلاقها”، وإنما يمكن قياس مدى نجاح النظرية بمدى حاجتنا إليها؛ بهذا يمكن الاستفادة ـ على المستوى الخارجي سسيولوجيا و/ أو سيكولوجيا ـ في قراءة النصوص، وليس بالضرورة الإلزام بالقراءة في هذا الجانب، فالمطروح إذاً هو إمكانية الدراسة من أي جانب في حال تحقق الفائدة، وليس التركيز عليه شرطاً مسبقا بالضرورة .
و عندما نفصل بين البنيتين، فإننا نفصل بينهما من أجل تبسيط الدراسة؛ لأن الناقد حين يشتغل على تقاطعات البنية الفنية والبنية الخارجية،ينبغي عليه ألا يعزل بين الداخل والخارج، كما تفعل البنيوية التوفيقية، إنه يعمل على دراسة هذا الخارج في حضوره داخل البنية الفنية، أي إنه عندما يدرس الداخل، يهتم في الوقت نفسه بخارج النص؛ حتى لا يقع في عملية الإسقاط التي تمرَّر من خارج النص، والتي تجعل البنية الخارجية غريبة عما ترمز إليه اللغة داخل النص، ولهذا فإن النص ليس “داخلا معزولا عن خارج هو مرجعه. الخارج هو حضور في النص ينهض به عالما مستقلا، وعليه فإن النظر في العلاقات الداخلية في النص ليس مرحلة أولى تليها مرحلة ثانية يتم فيها الربط بين هذه العلاقات بعد كشفها وبين ما نسميه الخارج في النص”. (في معرفة النص/ يمنى العيد).
إن هناك علاقة جدلية دائما بين البنية الداخلية والبنية الخارجية لأن الأديب عندما يكتب نصا لا يفصل بينهما؛ لأن اهتمامه بجانب معين يجعله ينفي قيمة الجانب الثاني، ولهذا فإن الشكل ينبع من المضمون ليعود مرة أخرى ليغذيه ويبنيه، ومن هنا تبقى العلاقة بينهما ضرورية أثناء العملية النقدية؛ لأنه لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون كما لا يمكن الفصل بين الإبرة و الخيط أثناء عملية الخياطة.
خامسا: الظاهره الأدبية وأجناسها:
انطلاقا من تعريف الظاهرة الأدبية وأجناسها على أنها ظواهر إنسانية قبل أي شيء، يؤكد أهمية استثمار الاشتراك الإنساني في الظاهرة و الاعتراف بضرورة التجاور الثقافي والمعرفي، مع ضرورة تنقية هذا التجاور بما يناسب البيئة العربية، فنتفق مع ضرورة التحرر من الانغلاق الفكري، والقيود على العقل، والانفتاح على الآخر ـ أيّاً كان هذا الآخر، طالما أن هذا الاستثمار لا يمس ثوابتنا..
سادسا: غاية النقد:
لسيت غاية النقد تفسيرية أو لصياغة مقاربات لا معقولة، وإنما غايته محاولة تأويل رؤى النصوص، وإضاءة الجوانب الإبداعية فيها عموما، فتفسير النصوص المكشوفة أو المقاربات للامعقول في بعض النصوص التي لا تحمل معنى، هو ضرب من الترف الزائد والمضاد للعملية النقدية، فالفكرة هي إعادة النقد إلى مفهومه الأساس، وهو قراءة إبداعية للظواهر الإبداعية بشكل عام، وللنصوص المبدعة بشكل خاص، وتناولها بالتحليل والقبول والرفض والتوقع، وتهديم المسافة بين المبدع والمتلقي، وهذا يتطلب إبداعية ثقافية عالية، وقدرة على حسن صياغة الحلقة الواصلة بين المبدع والمتلقي، وهذا يحتاج إلى استثمار كل ما هو متاح، إذ كما نؤمن بأنه لا يوجد شكل مثالي للجنس الأدبي؛ فبالضرورة يجب أن يستتبع ذلك انعدام مثالية الأدوات اللازمة لدراسة الأجناس الأدبية .
سابعا: ضرورة (الالتزام) بوصفه المضاد للعبثية:
ومفهوم الالتزام لدينا: هو الأداء الفني الذي يرفض التآخي مع صيحة الفن للفن والتغريب الثقافي، ويقوم على إيلاء الشاعر اهتماما لقضايا الأمة والوطن، بمعنى أنه ضد عبثية الكتابة، لتكون فقط حالة جمالية ليس غير، بعيدا عن الإحساس بالقضايا الملحة كقضية فلسطين، مثلا، ونـحن لا نطالب الشعراء بالكتابة بهذه الطريقة، بقدر ما نرفض أن يكونوا ضد الوطن والأمة، شرطا أساسيا في وجودهم في أفياء حركة البناء والتأصيل التي تقترحها “شعراء بلا حدود”، مشيرين إلى أننا لا نتحدث هنا على مستوى النص بل على مستوى المفهوم .
محمود النجار / فلسطين
هيثم الريماوي / الأردن
أ.د.عبد السلام الفزازي / المغرب
د. زهور بن السيد / المغرب
د. شريف الجيار / مصر