تتجلّى أهمّية الترجمة في كونها تلعب، منذ القديم، دورًا مهمّا في حوار اللّغات والثقافات والحضارات، لهذا دعا المشتغلون بحقليْ الآداب والعلوم للاهتمام بها من جديد، خلال العقود الأخيرة، وذلك بعد الإهمال الذي طالها لفترة طويلة. ويرى علي القاسمي أن هذه الأهمّية “تكمن في كونها تساعدنا على معرفة الآخر المختلف والمتنوع، خصوصاً إذا كان هذا الآخر متفوّقاً في مجالات متعدّدة على رأسها إنتاج النظريات والأفكار والعلوم، وبالتالي تساعدنا أيضاً على إدراك ذواتنا، فبالآخر يتحدّد الأنا”([1]). إنها الوسيلة التي باستطاعتها أن تجعل التفاعل الثقافي ممكناً ومفيداً ومثمراً بين الأنا والآخر، و”يتوقّف ذلك على كمّيتها ونوعيتها وإنتقائيتها وغائيتها، وعلى رغبة المجتمع في الانفتاح على الآخر والإفادة منه، وإرادة قياداته في التغيير والتطوير. وهذا ما يجعل الترجمة من أهمّ بنود السياسة اللّغوية للأمّة واستراتيجياتها الثقافية والتنموية”([2])، ويظهر التاريخ أن أغنى عصور الفكر هي تلك التي تزدهر فيها الترجمة، وأن اللّغة التي يترجم إليها أكثر عدد ممكن من المؤلفات من مختلف اللّغات تكون ذات انتشار أكبر في العالم، وأن أكثر الدول انفتاحاً ثقافياً هي التي تترجم أكثر الإنتاجات الفكرية والأدبية والعلمية.
تعتبر الترجمة مهمّة أيضاً انطلاقاً من كونها مسؤولة عن الاستقبال العامّ للأعمال الأدبية، وعن تناقلها بين القرّاء غير المحترفين، الذين يمثلون الغالبية العظمى من القرّاء في مجمل ثقافتنا، إذ يصبح النصّ المترجم هو الأصلي بالنسبة لغير القادرين على قراءة الأصل، كما أنها مهمّة باعتبارها تشكّل رهاناً صعباً حيث تطرح مباشرة علاقة الذاتي بالأجنبي، وترتكز على عمليّة الفهم. والفهم هو الترجمة
حسب تعبير جورج ستاينر ([3]) في كتابه “بعد بابل”(1975م)، لكن الفهم يختلف باختلاف اللّغات المتعدّدة التي يتكلّمها البشر، وباختلاف المترجمين وفق وعيهم بالأشياء والأحداث والأساليب. هذا التنوّع والاختلاف يطرح عدّة تساؤلات من قبيل، ماهية الترجمة، وأنواعها، وأبعادها، وحدودها، والعوامل المؤثرة فيها، وعلاقاتها بمختلف الحقول المعرفية الأخرى؟ ويدفع لخوض غمار هذا الموضوع للوقوف
على أجوبة وحلول تقريبية من خلال نماذج تطبيقية تتعلّق بالخطاب النقدي الغربي المعاصر الذي يعتبر مقاربة للنصّ الأدبي الغربي وقضاياه. وتعدّ النصوص النقدية التي نشأت في فرنسا أو انتقلت إليها، نصوصًا أساسية دفعت المؤلفين لإنتاج كتب أثارت اهتمام المترجمين المغاربة، وذلك لعدّة اعتبارات؛ منها أن فرنسا كانت تعرف هيمنة مطلقة للتاريخ الأدبي على التصوّرات التي تنظّم تدريس الأدب وطرقه وبيداغوجيته، مع ما يرافقها من تحفّظات ترفض كلّ تنظير، لكنّها خلال الستينيات من القرن العشرين عرفت أفكار الشكلانيين الروس، التي زعزعت أسس التفكير الفرنسي، خصوصاً على مستوى التعامل مع الأدب، حيث كانت هذه المجموعة تنظر إلى أدبية النّتاج الأدبي، الشيء الذي جعل أبحاث روّادها تتناول بالدّرس البنيات السّردية والأسلوبية والإيقاعية والصّوتية، دون أن تهمل العلائق القائمة بين الأدب والمجتمع. علمًا أنه “إذا استثنينا تصريح رولان بارت الذي يعترف فيه بأنه لم يقرأ فردينان دي سوسور إلا في حدود 1956م، وإذا استثنينا كذلك إشارات كلود ليفي ستروس إلى رومان ياكبسون في كتابه “الأنطروبولوجيا البنيوية”، إضافة إلى ما راج من حوارات بين مارسيل بروست وألبير تيبودي حول أسلوب غوستاف فلوبير، وكذا ما نجده من خصائص شكلانية في كتابات بول فاليري، فإنه لم يكن شيء في فرنسا ينبئ بالأثر العميق الذي ستتركه الشكلانية الروسية على دارسي الأدب، وبالمسار الهامّ الذي يتجلّى في عودة التنظير”([4]). هكذا عرفت الفترة ما بين 1960 و1970م دراسة النّصوص الشعرية من جهة، والبنيات السردية من جهة أخرى، كما صدرت سنة 1966م أول أنطلوجية فرنسية تضمّ أهمّ نصوص الشكلانيّين الرّوس التي جمعها وترجمها تزفيتان تودوروف، ووضع مقدّمة لها رومان ياكبسون الذي أخرج في نفس السنة كتابه “مقالات في الألسنية العامّة”، إضافة إلى كتاب ألجيرداس جوليان غريماس “علم الدلالة البنيوي”، وإلى مجموعة أخرى من الكتب والدراسات التي نشرت في مجلاّت مختصّة مثل “تواصلات” و “تيل كيل”. كما عرفت فرنسا بعد ذلك النقد الجديد الأنجلوساكسوني، وقد نشبت بين بعض روّاده خصومة، خصوصًا بين بارت في كتابه “مقالات نقدية”، الصادر سنة 1964م، وريمون بيكار الذي ردّ عليه في مؤلّفه “أنقد جديد أم تزييف جديد؟”، وعلى إثر ذلك أصدر جان بول فيبير كتابه “نقد جديد ونقد جيولوجي”، واعتبر بمثابة رسالة قدحية بعيدة عن فحوى الصراع. وفي سنة 1966م ألّف بارت كتابه “نقد وحقيقة” طالب فيه بحقّه في أن يمارس قراءة ذاتية ترتكز على الثقافة الأنطروبولوجية لعصره بعد استعمال لغتها. ومساهمة منه في الصراع ألف سيرج دوبروفسكي كتابه “لماذا النقد الجديد؟”، الذي أعرب فيه عن افتتانه بوجودية سارتر.
من هنا، يمكن القول إن بداية السبعينيات من القرن العشرين تعتبر المنطلق الأساسي لظهور النظرية الأدبية حيث كانت كلّ الاتجاهات والمدارس تتّفق على مبدأ المطالبة باستقلالية النصّ كموضوع
للبحث، وباعتباره نسيجاً من العلاقات الدّاخلية المتشابكة التي ينبغي أن يكتشفها الناقد، ويبرز القوانين التي تتحكّم بإنتاج النصوص الأدبيّة. وكان هذا الهدف يشكّل عنصر اتفاق بين أغلب النقاد الجدد، بالرغم من تباين كتاباتهم، بل إنه يعتبر الشرط الأساسي للأبحاث الأدبيّة المعاصرة. على إثر ذلك لجأ النقد الجديد إلى علم الألسنية ليستمدّ منه كلّ ما يساعده على التشريح اللّغوي للنصّ وفحص عملية الكتابة، كما لجأ إلى علم الدّلالة لتطوير مناهجه.
وقد أدّى التركيز على شكلية الأدب إلى ظهور جماعة “تيل كيل” التي ضمّت مجموعة من الكتّاب أمثال فليب سوليروز وجان ريكاردو وغيرهما. وساندها بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا وجيرار جنيت وتودوروف. وقد عملت هذه الجماعة على تحديث فعل التعامل مع الأدب وأثرت الحركة النقدية في فرنسا بطرحها لمفهوم العلاقة بين الكتابة والقراءة، كما اهتمّت بنظرية النصّ وقضيّة الشّعر والرّواية. الشيء الذي مكّن النقد من التحوّل والتجدّد المستمر عن طريق اكتشاف جديد للبلاغة والشعرية. هكذا أصبح النقد من أهمّ أشكال النّشاط الأدبي المعاصر.
من هنا تبدو جليّة أهمّية ترجمة الخطاب النقدي الغربي المعاصر إلى اللّغة العربيّة، كما يتضح دور هذه الترجمة في تطبيق المناهج الغربية على النصوص الإبداعية العربيّة، وما يتطلّبه ذلك من مراعاة الواقع العربي على الصّعيدين الفكري والاجتماعي، تجنّبًا للتقليد الأعمى للكتابات الأوربية، وتفاديًا لعزل المنجز الإبداعي العربي عن سياقاته الخارجية الاجتماعية، والنفسية، والثقافية التي أفرزته. وتحفز هذه الأهمّية على تناول ترجمات مغربية مختلفة، لخطاب نقدي غربي معاصر، ومقارنتها بالمتن الأصلي للوقوف عن قرب عن مشاكل هذه الترجمة وكيفية تناولها، واستكناه الاعتبارات المهيمنة أثناء عملية الترجمة، إن كانت اعتبارات لغوية أو أسلوبية و/أو تأويلية، ثم إلى أيّ حدّ استطاع المترجم المغربي فهم وترجمة مناهج نقدية غربية تأسّست على خلفية فكرية وفلسفية غربية، من أجل تناول منجز إبداعي أنتجته بيئة وحضارة مختلفة.
هكذا تقود مقارنة أعمال نقدية بين لغتين) العربية والفرنسية( إلى رصد كيفيات تعامل أنساق لغوية وثقافية مختلفة مع موضوع واحد، عبر تتبّع مسار الخطاب النقدي الغربي المعاصر، في النّماذج المتناولة بالدّراسة، منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين، وتكتسي هذه العملية أهمّية بالغة تكمن في المكانة التي تحتلّها التّرجمة في عمليّة المقارنة الأدبيّة، إذ تسمح الدّراسة المقارنة للترجمات بالإطّلاع على الطّرق المتّبعة في الترجمة وعلى توضيح آفاقها، كما تعمل على تحديد نوعية الأجزاء المنقولة أو المبتورة من اللّغة المترجم منها، والمحتفظ بها في اللّغة المترجم إليها، بالإضافة إلى أن عملية المقارنة تربط إشكالات الكتابة بإشكالات الترجمة والتلقي، كما أنها تفرض، بشكل عامّ، دراسة لقاء الثقافة الغربية مع الثقافة العربية الحديثة، دراسة تتعدّى حدود الانطباعات والإسقاط للمناهج النقدية الغربية، إلى البحث في طبيعة ونوعية هذا اللقاء وفي الشروط المحيطة به عبر بلورة منهج مقارن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة النصّ النّقدي الغربي، والأهداف المتوخّاة من وراء ترجمته. بالإضافة إلى أن الدّراسة المقارنة تقوم على تحليل مختلف التجلّيات الثقافية في المجتمع، وتحاول تعميق الحوار بين الثقافات المختلفة.
وقد تبلورت حركة ترجمة الدراسات الأدبية النقدية في المغرب مع مطلع الثمانينيات من القرن العشرين، إلا أنها ماتزال تخضع لإواليات ذاتية تظهر من خلال رغبة “الذات” في معرفة “الآخر” والانفتاح على فكره وثقافته، بشكل أوسع، خصوصًا وأن ثقافة الأنا تتموضع ضمن نسق ضعيف وتحتاج لثقافة الآخر. وقد تحكّمت هذه الإوالية في باحثين أكاديميين كانوا السباقين إلى خوض غمار الترجمة الأدبية من أجل الخروج من التقوقع، لكن جهودهم بقيت فردية منعزلة في غياب مؤسسات علمية مختصّة تُعنى بأهداف الترجمة وملاءمتها لحاجيات المجتمع من خلال العمل على الربط بين المترجمين وتوحيد رؤاهم ومجهوداتهم، خصوصًا وأن ترجمة النصوص النقدية الغربية المعاصرة إلى العربية، تتطلّب تضافر الجهود لصعوبتها واحتياجها إلى تقنية كبيرة. وقد أغنى بعض المترجمين المغاربة الساحة الثقافية العربية بأبحاثهم ودراساتهم النقدية، وكانوا السبّاقين إلى تناول النصوص النقدية الغربية المعاصرة شرحًا وتفسيرًا وترجمة، خصوصًا وأنهم ينتمون إلى ما سمّي بجيل السبعينات في المغرب، وهم هؤلاء النقاد والمفكّرون الذين أتيحت لهم الفرصة للاطلاع على الآداب الغربية المعاصرة، وتفتّحت أقلامهم على مناهج نقدية غربية مستحدثة، فحملوا على عواتقهم مسؤولية تطوير النقد العربي وجعله وسيلة من الوسائل التي تهدف إلى بلورة الوعي، وإضافة الجديد إلى حياتنا الفكرية وإلى حياتنا الأدبية. وبفضل تفتّحهم على التيارات الخارجية، واعتمادهم على أصناف المعرفة في دراستهم استطاعوا أن يفرضوا وجوده بطريقة أو بأخرى، خصوصاً وأنهم ينتمون إلى سلك الأساتذة الجامعيين الذين يحرّكهم الدافع التعليمي والبيداغوجي، والذين يترجمون لقارئ متخيّل محدّد المعالم، يفترض فيه تبنّي طرق علمية في فهم النصوص النقدية والتعامل معها. وهكذا أصبحوا نواة لتحديد الكتابة النقدية ولترجمة مفاهيمها ومصطلحاتها وللإلمام بالجوانب النظرية التي تطرحها مناهجها، فمكّنت الترجمة الطلبة من الاحتكاك بالنصوص النقدية الغربية المعاصرة عن قرب، وساعدتهم على إتباع هذه المناهج الجديدة في إنجاز بحوث في الأدب المغربي الحديث والمعاصر من شعر ونقد وقصة قصيرة ومسرح. هكذا ساهمت الترجمة في استنبات هذه المناهج في التربة المغربية والتأثير في الأدب المغربي الحديث.
———————————————————-
/) علي القاسمي، أثر الترجمة في معرفة الآخر وإدراك الذات، مجلة الترجميات، دار جذور للنشر بالرباط، السنة الأولى، العدد الثاني، ماي [1] (
يوليوز 2006م، ص. 81.
) علي القاسمي، أثر الترجمة في معرفة الآخر وإدراك الذات، ترجميات، مرجع سابق، ص. 91.[1] (
) جورج ستاينر هو من ابتكر مصطلح الحركة التفسيرية، وقد أخذه من عنوان لفصل له الاسم نفسه في كتاب “بعد بابل”، وقد حاول إقحام [1] (
نفسه داخل نشاط الترجمة لوصفها من الداخل، إذ إنه مارس الترجمة بنفسه. فادّعى القيام باستكشاف ليس فعل الترجمة النمطي الخاصّ به، ولكن فعل الترجمة في صورته العامّة.
) حسن المنيعي، دراسات في النقد الحديث، إعداد وترجمة، مطبعة سندي، مكناس، الطبعة الأولى،1995، ص. 29.[1] (
/) علي القاسمي، أثر الترجمة في معرفة الآخر وإدراك الذات، مجلة الترجميات، دار جذور للنشر بالرباط، السنة الأولى، العدد الثاني، ماي [1] (
يوليوز 2006م، ص. 81.
) علي القاسمي، أثر الترجمة في معرفة الآخر وإدراك الذات، ترجميات، مرجع سابق، ص. 91.[2] (
) جورج ستاينر هو من ابتكر مصطلح الحركة التفسيرية، وقد أخذه من عنوان لفصل له الاسم نفسه في كتاب “بعد بابل”، وقد حاول إقحام [3] (
نفسه داخل نشاط الترجمة لوصفها من الداخل، إذ إنه مارس الترجمة بنفسه. فادّعى القيام باستكشاف ليس فعل الترجمة النمطي الخاصّ به، ولكن فعل الترجمة في صورته العامّة.
) حسن المنيعي، دراسات في النقد الحديث، إعداد وترجمة، مطبعة سندي، مكناس، الطبعة الأولى،1995، ص. 29.[4] (