منذ اللحظة الأولى تتجلى الرشاقة في تسمية هذا الفن المتفرع من الشعر باسم (ومضة)، وأظن أن من أطلق هذه التسمية لم يقصد قصر الوقت الذي تكتب فيه القصيدة، بقدر ما قصد قصر النص وقدرته على الكشف رغم قصره، فهو ليس فنا سهلا تمكن كتابته بسرعة البرق، كما يتصور بعضهم؛ إنه فن صعب يحتاج إلى كثير من التقنية إضافة إلى عناصر أخرى، وهو ما سنمر عليه في سياق المقالة..
وعن التسمية، فالومض لغةً هو اللمعان، و (وَمْضة النُّبوغ) : التماعته، وظهوره المفاجئ أو العابر وهو البريق من الضَّوء.. وَمَضَ ، يَمِضُ ، المصدر (وَمْضٌ) و (وَمَضَانٌ) و (وَمَضَ البَرْقُ): لَمَعَ لَمَعَاناً خَفِيفاً.. وَمَضَ البرقُ وَمَضَ (يَمِضُ) وَمْضًا ، ووَمِيضًا ، ووَمَضَانًا : لمع خفيفًا وظَهَر.. وكلمة (ومضة) مصدر مرة أو مصدر هيئة..
يعد هذا الفن من الفنون الراقية التي أشبهها برياضة الجولف من بين الرياضات الأخرى، فهو رياضة ذهنية عالية المستوى. وأتصور أن كاتب الومضة يحتاج إلى أن يكون ذكيا ولماحا بالضرورة، وقادرا على بث ما يريد من صورة وفكرة ولغة في مساحة ضيقة تتسم بالإدهاش.. وأظن المبدع في هذا اللون من الكتابة مبدع أصيل في فن القصيدة الطويلة.. فلا يمكن ـ-كما أرى-ـ أن يكون ثمة شاعر يكتب الومضة فقط أو أنه بدأ حياته بها واستمر يكتبها دون المرور على القصيدة الطويلة أو دون أن يكون قادرا على كتابتها..
نشأة الومضة :
ليست الومضة أو ما أطلق عليه أيضا التوقيعةَ أو اللمحةَ أو اللافتة وليدة زمن معين، فقد اختلطت البدايات حتى صار من الصعب تحديد التاريخ والنشأة الحقيقية وعلاقتها بالأدب الغربي أو التراث العربي، لكن ثمة من كتب في الومضة ابتداء من الستينات كعز الدين المناصرة، والسبعينات كمظفر النواب وسيف الرحبي وأحمد مطر. ولم تعتمد الومضة آنذاك شكلا خاصا أو نموذجا متبعا، بقدر ما جاءت بشكل مزاجي يتعلق بطبيعة الشاعر وطاقاته الإبداعية في النص الطويل، على عكس القصة القصيرة جدا التي أخذت أبعادا تعريفية واضحة إلى حد كبير..
وأستطيع هنا أن أزعم أن من الصعب أن نفصل الومضة عن القصيدة ؛ فكل من أبدع في القصيدة كان بإمكانه أن يبدع في الومضة، فالومضة ليست بدعا من القول. وربما لو قام بعضنا باقتناص مقطع مميز من نصه الطويل ليكون ومضة لنجح في ذلك، وأضرب على ذلك مثلا من نص طويل لي: “أمضيت عمري أشتهي أن تهرب القضبان من سجني قليلا / لأعود شأن العائدين من السواد/ أفتش الآهات عن سلمى التي افترشت على تنهيدتي عمرا طويلا / لست أدري أي واحدة تكون / فكل عمري ضاع بين تنهد وتنهد”.
الومضة الابن اللصيق للقصيدة، ويمكن تشبيهها بالفسيلة من النخلة، والفسيلة في العادة أكثر إشراقا ونضارة وحيوية من النخلة الأم..
إن قصيدة الومضة موجودة منذ زمن بعيد، فقد حفل العصر العباسي بالمقطوعات الشعرية القصيرة التي يمكن أن نعد بعضها ومضات شعرية، وخصوصا عند أبي العلاء المعري وأبي نواس وبشار بن برد و أبي العتاهية، لكنها –بالضرورة- تختلف عن الومضة اليوم اختلافا جذريا..
الومضة كما أفهمها: نص شعري قصير متفرد بروحه الشعرية ويكاد أن يكون جنسا شعريا مستقلا.. يعتمد اللغة المنتقاة، والتكثيف العالي، والصورة الشعرية البكر، والمفارقة الذكية.. وتلعب الموسيقا دورا بارزا فيه سواء أكانت إيقاعا خفيا أو جليا، وفي الموسيقا الجلية تلعب القافية دورا بارزا في إدهاش المتلقي..
وأكثر الومض يكون في شعر التفعيلة يليه النثر ، ثم العمودي ..
لكنني أرى أن أنجحه وأقربه إلى النفس ما يأتي على إيقاع التفعيلة؛ فلا شك أن الموسيقا الخارجية أحد أهم ركائز هذا النص، لكن لا ننكر أن بعض من كتبوا هذا النص نثرا أبدعوا في موسيقاه الداخلية، فأشعرونا بإبداع استثنائي، وأزعم هنا أن أفشل ومضة ما أتت بالشكل الكلاسيكي العمودي ..
إن تسمية الومضة بهذا الاسم تسمية ناجحة، وقادرة على إيصال المقصود بشكل جميل، فمن سمّى هذا النص بالومضة كان موفقا جدا من حيث ارتباط الكلمة باللمعان والنبوغ والظهور المفاجئ؛ ذلك أنني أرى أن الومضة لا تكتب بقرار ، وإذا كتبت بقرار جاءت جافة غير قابلة للحياة، فهي لمحة تمر بالخاطر، فيصبها الشاعر في قالب شعري قد يأتي هو الآخر بغتة، لكن هذا لا يعني أن الومضة تكتب بسرعة بالضرورة؛ إذ ربما يضعها الشاعر على الورق سريعا، لكنه –غالبا- ما يشتغل عليها لتبدو في أجمل صورة ممكنة، وأكثرها إدهاشا للمتلقي.. إنها باختصار قصيدة الدهشة والإمتاع، وهي متقبلة ربما أكثر من القصيدة، في كثير من الأحيان، لأنها لا تلزمك الاستماع والتركيز لفترة طويلة، وهو ما يتسق وعصر السرعة الذي نعيش فيه.. حتى نحن الشعراء نحب أن نستمع أحيانا إلى الومضة أكثر من حبنا للقصائد الطويلة، وخصوصا في سمر الشعراء ولقاءاتهم الحميمية، ونتلذذ بذكاء أصدقائنا ونتأمل بإعجاب قدراتهم الذهنية اللافتة فيما يبدعون ..
أدوات الومضة وشروط كتابتها:
كغيرها من الأجناس الأدبية بعامة والشعرية بخاصة تحتاج الومضة إلى لغوي متمكن من اللغة، لديه خيال واسع، ودربة في الكتابة، وثقافة إنسانية، لكن الومضة بالذات تحتاج إلى الحصافة والذكاء والنباهة والإحساس العالي بالكلمة أكثر مما هو مطلوب في القصيدة الطويلة. صحيح أن الذكاء شرط من شروط الكتابة الشعرية الناجحة، لكن الذكاء الحاد شرط من شروط كتابة الومضة، ودليلي على ذلك أن كثيرا من الشعراء يكتبون النص الطويل، لكنهم عاجزون عن كتابة الومضة؛ لأنها فن العباقرة -كما أرى- لكن في الوقت نفسه لا بد من الانتباه إلى أمر مهم ، وهو أن بعض الشعراء لم يكتبوا الومضة ليس عجزا ولا لنقص في ذكائهم، بل لأنهم فقط لم يكتبوها لأسباب خاصة بهم، وهو ما لا يعني بالضرورة أنهم أقل ذكاء.. لكنني أرى في النهاية أن الذكاء والنباهة ضروريان، بل شرطان أساسيان لكتابة الومضة المدهشة.
بناء على ذلك، فإن لكل شاعر مبدع في فن الومضة أن يفتخر بذكائه، وأن يحس بالثقة بالنفس؛ إذا نجح في كتابة الومضة المدهشة، من خلال إشارات النقاد والمثقفين، وليس من خلال التصفيق الذي قد يتلقاه من بعض المتلقين، فالتصفيق ليس دليلا قط على إبداع الشاعر، وإن كان مؤشرا معقولا في بعض الأحيان، ذلك أننا نجد التصفيق أكثر حدة حين يكون النص مباشرا وخطابيا في بعض المحافل الشعرية التقليدية .
مستويات نص الومضة :
كما هو الحال في بعض الفنون الحديثة كقصيدة النثر أو القصة القصيرة جدا، لم تزل الومضة من حيث المفهوم تتراوح بين الوضوح والضبابية ، فكثير من النصوص التي يعدها أصحابها ومضات، لا صلة لها بالومضة.. فليس المقياس هو الطول والقصر بقدر ما هو الإبداع والإدهاش والتكثيف، فكثير من القصائد التي يعدها أصحابها ومضات هي قصائد قصيرة، ذلك أن الومضة تتميز باللغة الرشيقة المعبرة المنتقاة بعناية وبالتكثيف بعيدا عن الفائض اللغوي، والإدهاش، والمفارقة الذهنية أو اللفظية أو التخييلية.. وتتسم غالبا بقفلة مقنعة ومريحة للنفس، هذا بالإضافة إلى عنصر التشويق الذي ترسم ملامحه الصورة غير المعقدة، القابلة للفهم السريع، ذلك أنني أظن أن نص الومضة لا يحتمل الغموض الشديد، لكن لا بد من الإيحاء الذي هو فاكهة الشعر ونكهته الشهية.. وأرى أن النص الذي لا يتحقق فيه مثل هذه العناصر أو معظمها لا ينبغي لنا أن نطلق عليه صفة ومضة.. مع أنني لست ضد التجريب، وضد وضع القيود والشروط المسبقة، لكنني اتحدث عما أحس به، فهذه الرؤية انطباعية لا صلة لها بما قاله غيري من قبل .
وينجح كثير من الشعراء في تحقيق هذه العناصر مجتمعة أو معظمها، ويفشل آخرون بامتياز في تحقيقها في اللحظة التي يعتقدون فيها أنهم من كتابها المبدعين.. وهنا تقع الإشكالية الكبرى، وهي ذات الإشكالية التي تقع فيها قصيدة النثر ، فقصيدة النثر نصوص وليست نصا واحدا ، مما يجعلنا نتوقف قليلا أمام نص الومضة، ونفكر في إعطاء هذا النص زمنا إضافيا ليأخذ شكله النهائي، في اللحظة التي أظن فيها أيضا أن الأجناس الشعرية بما فيها نص التفعيلة سيظل عرضة للتجريب إلى ما شاء الله.. وعليه فربما يكون بإمكاننا أن نقول بأن النص الناجح هو النص الذي يقنعك ويدهشك بعيدا عن التقعيد والتقييد..