جلست على كرسيها الهزاز بعد أن هدها الإعياء ، تنظر الى السماء بحزن كبير وقد التف حولها دخان سيجارتها التي أضحت جزءاً من ملامحها .
جلست وفي ملامحها بقايا تفاصيل أنثى من الماضي، بعد أن فارقها الأمل وصارت ترى نفسها بلا ذكرى، بلا أسرة ، بلا إحساس، فقط كانت تستيقظ لتدخن سيجارتها وتنام لتحلم بها .
في الماضي عندما كانت صغيرة، كانت تتراكض في أرجاء الحي، وتتبختر كأنْ لا أنثى أخرى غيرها في الأرجاء، كانت ترى نفسها أجمل أنثى على وجه الأرض، بل أجمل إنسان، كان الجميع ينظر إليها بإعجاب شديد، وقد أجادت في كل خطوة رسم ملامحها وتفاصيلها الأنثوية.. كان الرجال يتراصون على طول الطريق لرؤيتها قادمة من أوله إلى آخره، وكان الصمت يعم المكان الذي تمر به إلا من همسات بعض النساء اللائي يرينها خطراً عليهن؛ فكثير من الرجال كانوا يرونها أجمل حلم، وأن الرجل الذي ستتزوجه سيكون أوفر المخلوقات حظاً، ولكنها مع ذلك لم تك تكترث لأحد، بل ظلت تبتعد عن كل رجل حاول التقرب منها، أو التودد إليها.. ركلت كل الرجال بعيداً دون أن تفكر في أنها يوماً قد تفتقد كل هذا..
حكت كل هزة عن مغامرة تمنت لو عاشتها متخيلة أصوات المارة من خلال صرير الكرسي الذي كان دائماً ما ينبهها إلى العالم الخارجي، ذلك العالم الذي انفصلت عنه، وباتت الوحدة تنخر عظامها حتى أصبحت هشة، وقميصها الذي تلون برائحة الوحدة، ترى من خلاله آلام السنين التي رسمت ملامحها بإتقان مجسدة ذلك الألم في ثنايا القميص، وتلك التجاعيد التي حملت بين طياتها بقايا سجائر ..
كان كل شيء بالنسبة لها كسجائرها تلك، يظهر ثم يتلاشى للاشيء، وهي لا تزال تتأرجح في كرسيها الهزاز، ومواء قطتها السوداء التي أضناها ذاك الرفيق الذي يبدأ يومه كما ينهيه.. حتى قطتها بدأت تحس بالملل منها؛ فكانت كثيرا ما تلجأ إلى الجلوس في أعلى سقف المنزل تنتظر رؤية أي ظل يقترب من المنزل لعلّ أحدهم يأتي لزيارتها.. حتى القطط لم تعد تقترب من البيت.. وكان أكثر ما تكرهه وتدير وجهها عنه القطار الذي ظل يذكرها بسيدتها من خلال دخانه الكثيف المتصاعد، والفرق الوحيد بين القطار وبين سيدتها هو صوت الصافرة ، فسيدتها حتى لو أرادت أن تنادي عليها كانت تنظر إليها بأعين متماوتة، وكأنْ لا حياة فيها ثم تغمضهما، ونادرا˝ ما كانت تسمع صوتها .
لذا ظلت تلجأ في كل يوم إلى أعلى المنزل تهز ذيلها الذي نادراً ما تتذكر وجوده لأنه ليس هنالك من سبب يدخل الفرحة في قلبها لتهزه، حتى إن أحست بجوع كانت تذهب وحدها إلى الثلاجة علها تجد ما يطفئ جوعها، إلا أنها كانت تعود خائبة، فتدور بالمنزل بحثاً عن الفئران التي هي أيضاً لم تسلم من البؤس، فتضطر أحيانا إلى الإفراج عنها لأنها كانت جزءا من الأشياء القليلة التي تبعث في نفسها السرور.
ولا تزال سيدة المنزل تتأرجح على كرسيها الهزاز الذي تمنت القطة لو يتحطم.. وهي تهمهم جيئة وذهاباً بكلمات غير مفهومة، أقرب إلى التعويذات السحرية التي كانت تطلقها خلف كل أنّة يصدرها الكرسي، وتتفنن في إطلاق دخان السجائر مشكلة به أشكالا مختلفة من خلال حركات فمها؛ مرة على هيئة كرسي، ومرة على هيئة سحابة، وطائفة من الذكريات التي تسبح أمامها، وشيئا˝ فشيئاً تستسلم للنوم؛ فتلقي برأسها على كتفها الهزيل الذي يئن مما يثقله، وتنساب من بين عينيها سبيبة طويلة كانت الدليل الوحيد على أن هذه أنثى، تلك أيضاً لم تك تعيرها اهتماماً فترحل في عالم بعيد جداً.. تسترجع من خلال أحلامها الماضي وضحكاته، فتبتسم، وتستيقظ مبتسمة لتواصل التدخين ، وتغرق في عالمها من جديد .
بدت حياتها مملة كثيراً، حتى أدمنت تلك الحال، فكانت تقول لقطتها أعرف أن رفقتي سيئة، ولكنك مثلي لا أحد يرغب فيك، ثم تضحك، وتنصرف عنها القطة وقد تكورت عيناها من الغيظ. .
بهيئتها البالية تلك تخرج في الليل إلى فناء المنزل، وكأنها تبحث عن شيء ما، تدور وتدور، من ثم تجلس على عتبة الباب تحتضن أرجلها وتدندن بصمت.. كانت تبكي، تطلق دمعاً معبقاً برائحة الدخان.. يتعثر في وجنتيها؛ جراء بقايا السجائر، يرسم خطوطا هي أقرب إلى لوحة فنان تشكيلي تحكي عن نفسها بنفسها، تأخذ يدها وتمسح تلك الدمعة لتذرف أخرى، وقد غاص الألم عميقاً في داخلها فتطلق زفرات هي أشبه بريح دافئة، تترك إحساساً بالحزن والاكتئاب خلفها .
عندها فقط تقترب منها قطتها لتشاركها الألم والإحساس بالوحدة؛ فتجلس بقربها بجسدها الدافئ ذاك، وتضع رأسها على قدميها مجتهدة أن تبعث الحب في قلبها رغم وصمها لها بالقبح.. في لحظتها تلك أخذت السيدة تفكر فيما إذا كانت قد تزوجت، أطفالها كانوا ليتراكضون ويتقافزون فرحاً من حولها، تتعالى ضحكاتهم لتملأ المنزل إحساسا بالدفء والحياة، وكانت هي لتكون أنثى، شابة مفعمة بالجمال، ولكن تستيقظ من حلمها فجأة، من الذي سيهتم بالقطة؟! ثم تعود مرة أخرى من المؤكد أن الأطفال سيهتمون بها، فتنظر إليها القطة معاتبة وكأنها تقول : لكأنك تهتمين بي الآن! فتبتسم في وجهها بحب وتعود لتذرف دمعها..
ظلت أيامها كما أحلامها متشابهة ، حتى استيقظت ذات صباح وهي على يقين بأنها ستنظر إلى هيئتها في المرآة، بعد أن شيد العنكبوت بيتا فوقها، فأخذت تجرجر قدميها ببطء، ونظرت إلى المرآة في خوف وذهول، وعلى وجنتيها ملامح خجل شاخ مما خطه الزمان..!
توقفت أمام المرآة دون أن تنظر إلى وجهها، مطأطئة رأسها وهي بين مشتاقة وخائفة من أن ترى شبح وحدتها يمثل أمامها متمثلا في بقايا أنثى صاغها الزمان بإتقان.. ترددت بعض الشيء، لكنها ما لبثت لحظات من التردد حتى نظرت إلى نفسها، أخذت تنظر بتمعن علها تعرف من هذا الشخص الذي يقف أمام المرآة، بحثت في خصل شعرها، لم تجد نفسها، بحثت في تفاصيل وجهها، فلم تجد غير خطوط الدخان.. همت بتلوين وجهها؛ لعلها تعيد صياغة ملامحها التي أضحت لغزا صعبا، وقد امتلأ وجهها بحبيبات من الرمل، اختلطت ببقايا الدخان فأظهرت تجاعيدها أكثر من ذي قبل.. في تلك اللحظة أرادت أن تبكي.. أن تصرخ.. أن تطالب بما كان لها؛ جمالها، شبابها، لم تك تتوقع أن ترى أحلامها تذوي أمام عينيها وهي تنظر دون حراك ودون وعي منها بأن ما مضى لن يعود، ولن تعود لها ملامحها السابقة؛ فانهالت بالضرب على ذاكرتها، علها تنسى ما كانت عليه سابقا، وترسم لنفسها ملامح خاطها الدخان برماد السجائر..!