قراءة في ديوان “أسرار الظل الأخير” للشاعرة المغربية مليكة معطاوي
الإضاءة الأولى:
حين نغوص في أعماق هذا المتن الشعري*أسرار الظل الأخير* للشاعرة المغربية مليكة معطاوي، ونمسك بمحارات معجمه الشعري، أفقيا على مستوى عناوين النصوص (عارية على حدود الظل الاخير-من صحراء الذات-وجه في المرآة-حلم على سفح السديم-حلم في سكون-متاهة الذات-خذني إليك-امرأة في الظل-عينان وحلم…)، أو عموديا على مستوى مفردات نصوصه الشعرية، نستشف أن جسد هذا المتن الشعري بكل تجلياته المعجمية والتركيبية والدلالية، يحيلنا على ثلاثة حقول توحي بثلاثة مواقف للذات/الشاعرة، إزاء الأنا والآخر والواقع والكون من حولها، وهي مواقف تعيشها الذات وتتمثلها من خلال حالات وعلاقات يمكن تحديدها كالتالي:
1. معجم الحقل الأول، نقطف منه هذه النماذج على سبيل المثال لا الحصر:
العري/الغفوة/صحراء/السديم/السكون/المتاهة/الحزن/القلق/السراب/الضياع…
يكشف لنا هذا المعجم من خلال بعديه التركيبي والدلالي على أن:
الذات/كأنثى/ وكإنسان: تعيش عريها وغربتها ككائن/ في واقع غيب وجودها/ الممكن الذي تحلم به.
2. معجم الحقل الثاني:
العينان/المرآة/العشق/الحلم/خذني/المنتهى/الصلاة/السلام/الحب/اللامبالاة/ الإشراق…
ويمثله الموقف التالي:
الذات نفسها في بعديها الأنثوي والإنساني، هي ذات مستبصرة واعية بواقعها، لكن تحذوها الرغبة في تحقق الممكن/الغائب، كأفق أنطولوجي تاريخي لسيرورتها.
3. معجم الحقل الثالث:
الحدود/الأخير/البدء/العمر/بعيدة/موغلة/جابت/ السفر/الطويل/مسافة/للحاق/الزمن
ويمثله الموقف التالي:
سيرورة التحقق
ونستطيع تجميع هذه المواقف والرؤى ضمن العلاقة المركبة التالية:
1. وجود الكائن = تحقق الممكن
2. تغييب الممكن = نفيٌ للكائن
تأسيسًا على ماسبق يتضح أن الذات تعيش لحظات وعيها وتوترها النفسي والوجودي المزدوج الذي نلحظه كالتالي:
توتر النفي: وهو توتر سببه نفيها وتغييبها
توتر الإيجاب: وهو توتر من أجل تحقيق وجودها
نستخلص من كل ما تقدم أن هذا المتن الشعري *أسرار الظل الأخير* يشيد دلالته الكبرى ورؤاه من خلال بناء فني درامي يقوم على حركية صراعية أساسها قطبان:
نفي الذات # وجود الذات.
الإضاءة الثانية:
ندرك من خلال هذه الإضاءة الأولى، أننا أمام شاعرة مغربية تبحث عن ظلها في مرايا الوجود، تخلق عوالمها باللغة؛ لغة الانكشاف، باعتبارها ملاذا ومسكنا تحقق من خلاله حكاية وجودها وأسطورته؛ ينساب الشعر من مسام حواسها لغة مفعمة بالحزن والقلق والغربة والتيه والعشق والحلم والرغبة، تقول في ص56 في قصيدة “خمرة الحزن”:
أنا والغربة نصفان
نحتمي خلف بقايا جدار
تتضاعف المكابدة التي شحذت موقف الذات، وتتضاعف الرغبة في الخروج من حالة النفي/اللاوجود، إلى حالة الفعل/الوجود، فتطرح الذات السؤال الوجودي الحارق:
أسأل الذات، ما الذات؟
وحين تنصت إلى نبض الإحساس وهو يرشح انكسارا نتيجة تفاعل الذات الواعي واللاواعي، المعرفي والتجريبي، مع الواقع والحياة والكون من حولها، ولا يجيبها إلا رجع صداها، يمتح وعيها الشعري من وعيها الوجودي حالتها التراجيدية، فتعيد طرح نفس السؤال الوجودي الإشكالي، فتصرخ متحسرة في ص36 قصيدة “متاهة الذات”:
أسأل الذات، ما الذات؟
كيف أجيب؟
قد أخمن
واحسرتاه
إنها حجب من غياب…
تسترسل الذات/الشاعرة في أسئلتها الوجودية المؤرقة، وبحثها الذؤوب، بغية تحقيق التوازن المفقود الذي أفقدها إياه زيف واقعها، واغتصبه تعارض رؤى ومواقف الذات المأزومة مع حالات الواقع المتدهور، واصطدامها معه قسرا، فتقول وهي تتأمل مرآة ظلالها في ص 17:
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت ألف جبين مقطب
وآلاف التساؤلات
على هدب
ترتقب
وشفاها مصلوبة على جدار عمر
قد رحل
آلاف اللحظات المكسورة، وآلاف الظلال لآلاف المرايا المنكسرة، وآلاف الرغبات وآلاف الأحلام المغتالة، هذا السديم اللانهائي من الغبن والزيف والفقد والحزن والإحباط، لم تجد الذات/الشاعرة له مبررا وجوديا؛ لذا فهي تبحث عن خلاصها منه، يؤرقها وعيها خاصة وأن العمر ليس كالبحر فهو حتما يشيخ… أضف إلى ذالك أن ضميرها يرفض وضعية الزيف والفقد والغياب، فلم يكن بد من الإرضاء النفسي لعقلها الباطن، بالتحليق في سماء اللغة، والسفر في قواربها عبر الزمان، لا تلين قناتها لصروف الدهر ونزوح العمر، فالذات /الشاعرة وإن تبدو كالفراشة تحتمي بهشاشتها، فإنها ترحل بعيدا حيثما يتراءى لها ضوء تطمئن إليه، ولا عجب في ذلك فهي غيمة تعشق الترحال، وتحلم بالقبض على المدى الهارب من حولها، تقول في ص21:
كأني غيم عشق
في ارتحال
تقر الذات بكونها غيما، يحمل خصبه داخله، ويهرب به بعيدا حيث الموعد مع الريح، تهب فيهطل الخصب مطرا يغسل أحزان مراياه، ويخصب سهوب ظلال الفقدان. هكذا هي شاعرتنا تخلق بلغة الكشف والإبداع عوالمها، بالشعر تبحث عن نفسها في نفسها، الفرحة ملاذها التي تشيد بها سكنا هادئا لها، تقول في ص34:
أمتطي صهوة الحرف
أصعد في تيهان المحال
أقتفي خطوات الطريق المؤدي إليّ
هو صهيل القصيدة الجامحة تمتطيه الرغبة في التحرر، تركض مقتحمة أغوار النفس المظلمة، ملبية نداء الذات لتحطيم أسوار النفي داخلها، ومد الجسور للانفلات من ربقة الاغتراب، والانطلاق نحو سماء الحرية محلقة في رحاب الفيض … تقتنص إمكانية وجودها، ومتعة الحضور…
وهنا يتعالق المعنى بما يراه الشاعر أمل دنقل في قصيدته “أوراق أبي نواس”
حيث يقول:
أيها الشعر…
يا أيها الفرح المختلس
…..
هكذا هو الشعر عند مريديه، فرح تختلسه الذات من حالة القلق والتيه الذي يسيطر عليها… وليس الشعر عندها هو تلك اللغة الجميلة فقط، لكنه أيضا لغة يبدعها الشاعر من أجل أن يقول شيئا لايمكن قوله إلا بالشعر، على حد قول جان كوهين، فالشعر إذن إرضاء رمزي للذات في أحلك توترها، وعنفوان تمردها؛ انكشافاته البارقة فرحة تشع في دجنة التيه، إنه الحفر باللغة في صفحات الوجود، والقوة التي تمد الذات بالقدرة على تجاوز الآلام والمحن وترويض الجامح في داخلها، والخراب الأصم القاتل الذي يخنقها. إذن فهي الذات تعيش زخم تراجيديتها، وتصر على العبور إلى دواخلها لتسمو بالروح من حالة النفي إلى حالة الإمكان، تستشعر تناقضات الواقع الشاسع شساعة عشقها وحلمها، فيكون الشعر بلسما لجراح الروح…وحيثما هناك شعر فهناك وعي وحلم وعالم وتاريخ وذات /شاعرة/ هي في هذا المتن أنثى وإنسان، تلهث نحو أفقها الانتولوجي التاريخي الذي تحلم أن تمسك به، وهي ذات تحمل معها ذاكرتها وتاريخها وحلمها مما يمنحها مشروعية وجودها، فتكتب لتاريخها أسطورته، لأن الإنسان الجدير بسكنى الوجود هو الذي لايكف عن مجابهة العالم وملاحقة المثال الذي يداوي به هشاشته.
تلك هي شاعرتنا مليكة معطاوي تبحث في مرايا الوجود عن أفق لظلها الأخير؛ هاهي قطعت مسافة عمرين للحاق بهذا الأفق كما تقول في ص 10…وهي الآن تقيم على بعد خطوتين منه، تقف على بابه، تطرق زمنها المحاصر، تسائله تبحث في دفاتر حدوسه عن أمدائه، عن ولادته الجديدة في زمن الاغتراب داخلها، أدخلها قفصه واقعها الظالم.
وشاعرتنا في كل هذا وغيره، حين تدغدغ اللغة، تزهو الروح في بهو الكلام كما تقول في ص12، تمنحها اللغة بوصلة ومركبا للإبحار، فتسبر أغوار الذات، تجتاز مفازات الظلال اليائسة، ومرايا الفقد المعتمة، تحاول اللحاق بمرافئ الذات الأنثى فيها والذات الإنسان، تقترب من الأسوار التي تدعي الأسرار والبراءة والتقديس، تقتحم السراديب المفتوحة والمغلقة، تفتش الأقاصي، وكلما تراءى لها بصيص من نور منارتها تركض خلف ظله الأخير كي لاتجد نفسها محايثة لحزنها وقلقها القديم، لأن سيرورة الحياة لا تعرف الحدود ولا الثبات … هذا هو قدر الإنسان المعاصر السيزيفي كلما اقترب من نار حقيقته، هربت منه.
بهذا المعنى الوجودي تظل مليكة معطاوي شاعرة تعرف كيف تمسك بخيوط الذات في زخم واقع يؤثثه السديم، وحين ينكشف لها أن قدرها مرتهن للبحث والحيرة والقلق، تنسج من ظمئها سجادة صلاة للغائب، فتبوح بشعرها المتوهج للريح ترحل به إلى سهوب التوقد في المنافي والوديان.
تقول في قصيدة “عارية على حدود الظل الأخير” ص 8:
اشتعل في دمها فتيل الرغبات
تملكها إشراق مفاجئ
على ناصية الطريق
بهذه الرؤيا تكشف لنا هذه الأضمومة عن قلق كتابة متسق مع قلق لحظة وجود عند ذات يعتريها النفي فيصهر التوتر رغبتها التي تمنحها الحق في امتلاك تاريخها الوجودي كأنثى وكإنسان، كما تقول في ص81:
عينان ترتاحان
من فوضى الضجيج
في راحتي حلم
ترقرق في عيون الليل
عينان
تتوسدان ذراع صحو
وحين تتوسد الذات صحوها الذي تطمئن إليه، تتجلى لها إرهاصات كينونة وجودها، إنه الحلم، والميلاد، والتحول، والانوجاد التاريخي للذات؛ وفي هذا السياق، تلوح قصيدة يوسف لتفصح عما بدواخلها من تجدد وتحول وإشراق بمجرد اقتحام حياتها، هاهي تحكي عنه في ص78:
جاء يوسف ضوءا،
صرخة تكمل الاحتمال،
به يستنير المدى مشرقا،
صار يوسف لي مركبا،
شق موج السراب حيث كان العبور محالا…
إنه يوسف، كما يطفو به لاشعورها، إنه كما هو في الذاكرة الجمعية، يطفو خلسة من دون شعورها، بكل حمولته الثقافية الدينية والرمزية، وسواء كان ابنا أو صديقا أو أخا، فهو الرشح من حلم تسعى لتحقيقه، فيوسف هو الرؤيا تتحقق/ ويوسف هو الرمز/ ويوسف الحلم/ ويوسف النهر/ ويوسف الولادة/ ويوسف الأفق الانطولوجي التاريخي لذات استلبت منها كينونتها فحلمت به مخلصا لها، يؤسس الممكن الغائب في الوجود الكائن.
الإضاءة ما قبل الختام
بهذه المجموعة “أسرار الظل الأخير” تفتتح مليكة معطاوي مشروعها الشعري وهو مشروع يجترح سؤاله الانطولوجي التاريخي للذات / كأنثى تحلم بوجودها وكإنسان تزهر في دمه فسائل حريته، فأفصحت في هذه النصوص عن قلقها ورغبة التحرر من عريها وغربتها داخل مجتمعها، تصرخ وهي تتأذى من هباء الأيام فتصيح:
أماه هل تسمعين؟
قدم الطريق
تدوس أنقاض الحنين
أماه
كيف يراقص الغيم السؤال
والليالي لا تبالي
ترتدي لون السراب
إنه ولا شك مشهد شعري وجودي تأملي كله استبصار للآتي وكشف له، فحدوس الذات تستشعر بكل وعي تراجيديتها وغربة الرحيل في سفر رحيلها.
عود إلى بدء:
وأنت تقرأ شعر مليكة معطاوي، تحس أنها ترحل في صحراء ذاتها، قلقة حيرى، تبحث عن ربيع العشب في أمدائها، يسكنها صحو ظلها، قد يجف كأس حلمه لكن له عينان يزهو فيهما همس الحب والوجود والتحول.