إن طرح قضية المسرح بين النص والعرض يرجع أساسا إلى طبيعة العمل المسرحي؛ إذ يتشكل من نص يحمل خصائص أدبية، وعرض تؤسسه مجموعة من التخصصات والمهارات الفنية والتقنية.
فالمسرح من حيث هو عمل مركب, يتصف وضعه بالإشكالية، إذ يصعب الحسم حول ما إذا كانت الصفات الأدبية هي التي تحدده، أم الخصائص الفنية هي التي تعكس خصوصيته.
ولفهم هذه القضية سأتطرق إلى ثنائية النص والعرض في المسرح الغربي على اعتبار أن الغرب كان سبّاقا إلى طرح هذه القضايا الأدبية والفنية ومناقشتها، وأن العديد منها انتقل إلى الساحة الأدبية العربية نتيجة المثاقفة. ثم سأعمل بعد ذلك على تتبع ثنائية النص والعرض في المسرح العربي بصفة عامة، والمسرح المغربي بصفة خاصة.
إن استقراء الدراسات والأبحاث التي تتبعت الظاهرة المسرحية في الغرب، يجلي موقفين متباينين إزاء هذه القضية:
- موقف يؤكد على أن المسرح نوع من الأنواع الأدبية, يقوم على نص مكتوب يحمل خصائص أدبية, ويشكل المنطلق الأساسي لعملية إنتاج العروض, كما يمكن الاكتفاء بقراءته وتحصيل المتعة منه , تماما كما يحصل عند قراءة نص روائي أو شعري…
- وموقف يرى بأن المسرح حركة وممارسة فوق الخشبة, قبل أن يكون كلمة, وأن النص مجرد عنصر من عناصر العرض، وقد دافع أصحاب هذا الرأي بكل قوة عن مركزية العرض في الممارسة المسرحية, ودعوا إلى التخفيف من سلطة النص أو إلغائه بصفة نهائية.
حظي النص المسرحي منذ أسخيلوس حتى القرن التاسع عشر بعناية كبيرة, حيث اعتبر من طرف مجموعة من الدارسين, وخاصة المؤلفين منهم, جوهر العملية الإبداعية المسرحية, هو منطلق العرض ونواته, وهو الذي يمنح المسرح قيمته الأساسية..
ويقصد بالنص المسرحي, العمل الذي ينتجه المؤلف, ويقوم أساسا على اللغة, ويتوجه به صاحبه إلى القارئ سواء إلى القارئ العادي أو إلى القارئ المخرج.
وأذكر من بين هؤلاء الدارسين الذين دافعوا بشدة عن مركزية النص في العمل المسرحي: (ألكسندر دوما) (الابن) Alexandre dumas (1895 ـ 182) والكاتب الفرنسي (هنري بيك) Henry Beque (1837 ـ 1899) و(جورج كورتلين)George Courteline (1858 ـ 1929) وغيرهم.
ويرى هؤلاء أن النصوص الجيدة تحقق فائدة ومتعة تفوق فائدة ومتعة المشاهدة, وهم بذلك يختزلون دور العرض في كونه مجرد ترجمة للنص أو قراءة تفسيرية له, تقوم على تشخيص الأحداث الواردة في النص المسرحي, فيصبح العرض في هذا المنظور “قراءة ثانية جماعية بالنسبة للذين لا يريدون أو لا يعرفون القراءة”[1]
ويحرص أنصار النص على العناية بالنصوص المسرحية من الناحية الأسلوبية والبلاغية والخطابية ويشددون على جودتها, ذلك لأن “الامتحان الحقيقي للعمل الدرامي ليس هو العرض, فالعمل الجيد يجب أن يصمد أمام الامتحان الآخر الذي هو غياب العرض، على كل حال العمل الجيد ليس بحاجة على الإطلاق إلى العرض.”[2]
نستخلص من هذا أن النص يحتل مكانة مركزية في العملية المسرحية, لأنه إضافة إلى ما سبق ذكره, يظل وثيقة خالدة تحافظ على الحدث المسرحي, أما العرض فيأتي في المرتبة الثانية, لأن وظيفته تقتصر على تجسيد النص وتفسيره, ولأنه ينتهي ويتلاشى بانتهاء مدة التشخيص.
وقد كرس المخرجون أيضا هذا الفهم, لأنهم ظلوا, ولفترة طويلة, يسخرون كل إمكاناتهم الإبداعية لتجسيد النص, وترجمته إلى مجموعة من الممارسات الحية على خشبة المسرح[3], وكان الإخراج بذلك “عملية ثانية لاحقة للنص المسرحي تعنى بتحويله إلى عرض.”[4] الممثل أيضا ينخرط إلى جانب المخرج في خدمة النص, إذ كانت الشروط الواجب توفرها فيه هي الإلقاء والأداء الجيدين لإظهار مقومات النص الأدبية والجمالية.
لقد ظل النص في المسرح العالمي مدة طويلة سيد العملية الإبداعية المسرحية, إلى أن ظهر مفهوم الإخراج في نهاية القرن التاسع عشر, حيث تغيرت مجموعة من المفاهيم, وأصبح القالب اليوناني محط تساؤلات عديدة, وأدرك المسرحيون أن اللغة الأدبية ليست هي لغة المسرح, لأن المسرح هو حركة بالدرجة الأولى وتشخيص على الخشبة.
وبدأت هذه الأفكار تتبلور منذ مطلع القرن العشرين في شكل تجارب طليعية, قادها في الاتحاد السوفيتي كل من (ستانسلافسكي) و(مايرهولد), وفي أوروبا كل من (رينهارت) و(كريج) و(أبيا) لتمتد موجة التجديد هاته إلى أمريكا ممثلة في (آرثر ميللر) و(إدوارد ألبي) وغيرهم. ويدعو هذا التوجه إلى تقليص دور الكاتب والنص في العملية المسرحية, وإعطاء الفرصة لإظهار الملكات الفنية التي تخصص المسرح.
ونجد من بين الطروحات الرائدة في هذا الصدد, والتي كان لها أثرها الواضح على باقي المواقف تجاه ثنائية النص والعرض في المسرح, تقنية الحذف والإلغاء التي أحدثها (جروتوفسكي), أي حذف وإلغاء كل ما لا يحتاج إليه المسرح وبتعبير آخر “تلخيص المسرح من أثقاله الدخيلة عليه.”[5] والإشارة هنا إلى النص بالدرجة الأولى. أما العناصر الأساسية التي لا يمكن للمسرح أن يقوم بدونها, فهي الممثل والجمهور ونوعية العلاقة التي تجمع بينهما من خلال مضمون يؤديه الممثل ويتلقاه الجمهور, وهي التي وصفها محمد الكغاط بأنها “العلاقة الحية بين الممثل والمتفرج”[6].
ــ أما (مايرهولد) فقد دعا إلى إلغاء حصانة المؤلف, وبمعنى آخر العمل على الحد من هيمنة النص في العملية المسرحية, فقد “تنبأ بنهاية الآداب المسرحية”[7]
ــ وفي الاتجاه نفسه يعرّف المخرج (بتربروك), المسرح على أنه “خشبة مسرح: مساحة فارغة” وهو المكان الذي يقف عليه الممثل أمام جمهور ليؤدي عرضا يتمحور حول فكرة ما”؛[8] مما يفضي إلى القول إن عناصر العرض بدأت تحتل مكانا محوريا في تعريف المسرح.
ــ (كوردن كريج), وهو أحد أبرز الذين يرون أن العودة بالمسرح إلى أصوله وينابيعه الأولى, المتمثلة في الحركة والرقص والإيماءات, هي التي تمنحه خصوصيته وتعبر عن حقيقته, لذلك دعا إلى المسرحية الصامتة الشاعرية, وفي ذلك إقصاء واضح للكلمة التي لم يعد دورها رئيسا في العملية المسرحية.
ــ أما منظور (أدولف أبيا) تجاه النص المسرحي, فإنه لا يختلف في جوهره عما سبق, فقد اعتبر “المؤلفين كتاب كلمات لا يهتمون برسم الحركة المسرحية أو أنهم يقيدون العاملين في المسرح بنصوصهم وكأنها هدف لذاته.”[9]
ــ وتعد نظرية (أنتونان أرتو) من أهم النظريات التجديدية في المسرح الغربي, وتمثل أقوى موقف ضد النص المسرحي والأدبية في المسرح بشكل أساسي, لأن (أرتو) لم يكتف باعتبار النص مجرد عنصر من عناصر العرض, ولكنه رفض سلطة هذا النص وسلطة اللغة التي يفرضها الكاتب, ودعا إلى العودة إلى أصول المسرح وهي التي تتصل بالإخراج[10], وإبعاد الكاتب في العملية المسرحية وتعويضه بالمخرج من أجل خلق لغة للعرض المسرحي تكون مختلفة ومتميزة عن لغة الكاتب المسرحي الذي يهتم بإنتاج المفاهيم “لذلك فهو يدعو إلى ترك تمثيل المسرحيات المكتوبة, وإلى محاولة القيام بتجربة الإخراج المباشر للموضوعات والوقائع والمؤلفات المعروفة, ذلك أن طبيعة القاعة ووضعها يتطلبان العرض, وليس هناك موضوع, مهما اتسع يمكن أن نمنع من إخراجه”[11], فقد اعتبر المسرح “إخراجا بالدرجة الأولى”.
إن الثورة على النص المسرحي هي أبرز مظاهر التجديد التي عرفها المسرح في القرن العشرين, والتي قادها بالإضافة إلى الأسماء المذكورة, باحثون ومبدعون ومخرجون ونقاد عديدون[12], قاسمهم المشترك أنهم يسعون إلى تأسيس تصور جديد للمسرح, يقوم على تقليص دور النص والكاتب في الممارسة الإبداعية المسرحية ورفض الأدبية فيها, والتركيز في الوقت نفسه على ما يخصص المسرح من عناصر لها صلة وثيقة بالعرض.
وقد نشأت هذه التصورات في ظل تجاوز النظرة التقليدية التي تؤكد على أولوية النص المكتوب, وظهور مفهوم الإخراج وتطوره, ووسائل الاتصال المسموعة/المرئية مثل السينما والتلفزيون التي أدت كما يقول (جوليان هيلتون) إلى “تغيير القاعدة التي ترتكز عليها الثقافة, من قاعدة نصية (أي الكلمة والنصوص المكتوبة) إلى قاعدة مسموعة مرئية (أي تعتمد على الصوت والصورة)”[13]
لقد اعتبر العرض من طرف المخرجين أمثال المخرج (فسيفولد مييرهولد) (1874 ـ 1940) و(ألكسندر تايروف) (1885 ـ 1950), عملية مستقلة عن النص المسرحي وليس مجرد ترجمة للنص على الخشبة. وأصبح المخرج مسؤولا عن تحديد معنى العرض وأدواته وأسلوب العمل.[14]
لقد أصبح الإخراج, انطلاقا من النصف الثاني من القرن العشرين, عملا إبداعيا مستقلا عن عمل الكاتب, ولم يعد عملية ثانية لاحقة بعمل المؤلف المسرحي, وظهرت اتجاهات ومدارس إخراج عديدة, وأصبح المخرج يتبوأ مكانة تضاهي أو تفوق مكانة المؤلف المسرحي, إذ لم يعد يقدس النص بل أصبح ينطلق منه ليبني قراءته الخاصة, كما أنه في بعض الأحيان يتصرف فيه بحرية مطلقة لإنتاج نص جديد وبرؤية جديدة.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أن تطور مفهوم الإخراج أدى إلى تطور مجموعة من المفاهيم وعلى رأسها: الممثل وأداؤه, إذ تحول التركيز في دور الممثل من حسن الإلقاء إلى الاهتمام بالأداء الجسدي والحركي. ويعتبر (ستانسلافسكي) “أول مخرج اهتم بإعداد الممثل واعتبره عملية بحث متكاملة حول الدور, وليس تدريبا على الإلقاء.”[15] وقد ظهرت تجارب أخرى تهتم بإعداد الممثل نذكر منها, تجربة البولوني (جيرزي جروتوفسي) وأسلوب الألماني (برتولد بريشت) (1956 – 1898) في إشراك الممثل في القراءة الدراماتورجية للنص المسرحي.[16]
كما استحدثت تخصصات تخدم هذا التحول في دور الممثل, كمهندسي الديكور والإنارة والملابس.. وتغيرت, تبعا لتطور مفهوم الإخراج أيضا, مفاهيم أخرى كالمكان المسرحي والكتابة المسرحية والدراماتورجية.
2 ـ ثنائية النص والعرض في المسرح المغربي:
إذا كانت هذه المواقف السابقة تعكس منظور النقد الغربي لثنائية النص والعرض في المسرح الغربي, فماذا عن هذه الثنائية في المسرح العربي بصفة عامة والمسرح المغربي بصفة خاصة؟
لقد تأخرت مناقشة مجموعة من القضايا المسرحية في الوطن العربي, مثلما تأخر فيه ميلاد المسرح بمعناه الأوربي.
ففي الوقت الذي طرحت قضية المسرح بين النص والعرض في الغرب, وثارت نقاشات حادة حول هذا الموضوع, أفضت إلى بروز اتجاهات عديدة تقر في النهاية بأن الجمال الحقيقي للمسرح هو الفن وليس الأدب, وتشدد على رفض سيادة النص المسرحي على باقي مكونات العرض المسرحي, ما يزال العرب, كتابا ومخرجين وممثلين يقدسون النص المسرحي, ويولونه الأهمية القصوى باعتباره يحمل أفكارهم ويعبر عن أحاسيسهم, غير مهتمين بباقي عناصر العرض (الإخراج والتمثيل والديكور….), وباقي وسائل التعبير المرتبطة بالعرض كالرقص والموسيقى والإيماءات والتشكيل… غير مدركين لقدرتها التي تفوق قدرة الكلمة في تمثيل الأفكار والمواضيع, وتجسيدها بشكل يؤثر في المتلقي وينفذ إلى أعماقه.
أما العوامل التي تجعل من النص المسرحي محور العملية المسرحية في العالم العربي بصفة عامة وفي المغرب بصفة خاصة فأجملها في النقاط التالية:
ــ إعطاء أهمية كبرى للتأليف على حساب العناصر الأخرى, إذ كانت تنظم مباريات وتخصص جوائز للتأليف المسرحي, في حين لم يحظ الإخراج ولا باقي العناصر الأخرى كالتمثيل, والديكور وغيرها بمثل هذا الاهتمام.
ــ المضامين التاريخية والبطولية والقضايا المرتبطة بالسياسية والأوضاع الاجتماعية المترتبة عن الاستعمار, تستدعي خطبا سياسية واجتماعية وأخلاقية, أي كلاما منمقا يؤجج المشاعر ويلهبها ولا يتطلب أثناء العرض أكثر من ممثل يجيد الإلقاء.
ــ احتكار الأدوار والاختصاصات, إذ غالبا ما يقوم كتاب المسرحيات بباقي الاختصاصات, الإخراج والتمثيل في آن واحد, وبذلك يسيطر فكر الكاتب وإبداعه الأدبي وتصوره على باقي عناصر العرض, ويغيب إبداع وفكر وتصور كل من المخرج والممثل.
ــ المخرج والممثل في خدمة النص المسرحي: ظل المخرج يراهن على توظيف إمكانات وطاقات الممثل الفكرية والجسمانية والإلقائية لتبليغ مضامين النص المسرحي ومواقف الكاتب إلى المتلقي.
ــ الجمهور أيضا كرس هذا الوضع ـ هيمنة النصص، لأنه ظل يستحسن الأساليب والخطب التاريخية والسياسية والأخلاقية, ولم يفرض نوعا مغايرا من الفرجة المسرحية التي تتغلب فيها الحركة على الكلمة.
ــ تكتفي برامج التعليم في المعاهد المسرحية وفي الجامعات بدراسة النصوص المسرحية مثلما تدرس نصوص الشعر والرواية والقصة, ونادرا ما تتجاوزها إلى دراسة العروض وعناصرها. هذا إضافة إلى غياب تخصصات بهذه المؤسسات كتخصص النقد المسرحي والإخراج…
يضاف إلى هذا كله ضعف الإطار الثقافي والنقدي, أي غياب ثقافة مسرحية تعرف بتقنيات الخشبة, كما أن وظائف المسرح في الثقافة العربية محدودة جدا خاصة في المراحل الأولى من نشأته.
لكن هذا الوضع لم يدم طويلا؛ إذ بدأ النقاد والمسرحيون العرب يناقشون قضايا مسرحية كبرى, ومن ضمنها ثنائية النص والعرض في المسرح, والتي فرضت نفسها أمام التحديات والإنجازات التجريبية التي قامت في الغرب بهدف تجديد هياكل وأساليب المسرح التقليدية.
ورغم اطلاع المهتمين المسرحيين العرب على هذه التوجهات, ورغم تأثرهم بالتيارات المناوئة للنص المسرحي والرافضة لسلطته الأدبية في العمل المسرحي, إلا أنهم لم يذهبوا أبعد من القول بالتكامل ولم يقولوا بإلغاء النص كما هو الشأن في بعض الاتجاهات الغربية، فقد اعتبروا النص والعرض عنصرين مهمين في العمل المسرحي, يكمل أحدهما الآخر, ولم تكن الآراء صريحة في إبعاد النص عن العملية المسرحية, بل لم تستطع الاستغناء عنه بصفة نهائية كمحطة أساسية لابد من المرور عبرها.
لكن وبالرغم من ذلك, فإن الشيء الإيجابي الذي نسجله هو أن العديد من الباحثين أصبحوا مقتنعين بأن المسرح ليس جنسا أدبيا فقط، لأن أحد عناصره ينتمي إلى الأدب, ودعوا إلى عدم التركيزعلى الخاصية الأدبية في تعريفنا للمسرح و”أن نكف عن تبجيل الأدب في العرض المسرحي.”[17] لأن الأدب ليس هو ما يخصص العملية المسرحية, وإنما الفعل والحركة والمكونات الأخرى التي يتشكل منها العرض هي ما يمنحه الخصوصية.
وإذا كانت هذه رؤية عامة حول قضية النص والعرض في النقد المسرحي العربي, فإن النقاد والمسرحيين المغاربة لم يكونوا بمنأى عن القضايا والإشكالات التي تطرحها الظاهرة المسرحية, ذلك أن طبيعة المسرح المركبة (نص/عرض) هي التي تجعل من وضعه وضعا إشكاليا وتجعله بالتالي محورا للعديد من النقاشات والتساؤلات، فما هي مواقف هؤلاء من ثنائية النص والعرض؟
لقد كان المسرح في منظور المبدعين والنقاد المسرحيين المغاربة يرتكز بشكل أساسي على النص المكتوب وعلى ما يتضمنه من أفكار ومواقف, الشيء الذي يجعل من العرض منبرا خطابيا، ويجعل من الممثل قناة لتمرير أفكار وتصورات الكاتب.
لكن هذا الوضع لم يكن سوى حالة غير مستقرة, عبّرت عن بداية متعثرة وفهم ناقص لحقيقة الممارسة المسرحية, هذا الفهم كرسته مجموعة من العوامل أهمها حداثة التجربة المسرحية في المغرب, وضعف الإطار المعرفي والثقافي الذي نشأ فيه المسرح, وانشغال المثقفين بالسياسة والنضال الوطني، إذ سرعان ما بدأ هذا الوضع يتغير وذلك بفعل الانفتاح على الثقافة الغربية, حيث أصبح المسرح والدراسة المسرحية يتمان وفق نماذج وتصورات المسرح والنقد الغربيين, فقد تمت استعارة مجموعة من الفرضيات وإثارة جملة من الإشكالات وعلى رأسها إشكالية النص والعرض.
ومن هذا المنطلق بدأت تتحول هذه الصورة التي تجعل من النص عنصرا أساسيا، تلحق به العناصر المسرحية الأخرى, إلى صورة مغايرة تنظر إلى النص على أنه مجرد مكون من المكونات التي يتشكل منها العرض, وتعتبر العرض تبعا لذلك أهم عنصر يتميز به المسرح عن باقي الأجناس الإبداعية الأخرى.
فالنص في منظور رشيد بناني ليس “سوى واحد من المكونات المختلفة والمتكاملة التي تشكل بنية العرض المسرحي”[18] أي إن النص المسرحي “ليس العنصر الأساسي الذي تكون كافة العناصر المسرحية الأخرى ملحقة به, وإنما هو عنصر أدبي لغوي يدخل في نسق مركب مع العناصر الأخرى التي يتكون منها العرض.”[19]
ويرى الدكتور يونس لوليدي أن النص رغم كونه مهما وضروريا لأنه مركز الفكرة المسرحية, إلا أنه يظل عنصرا “غير كاف لأنه ليس إلا دعوة إلى الوجود, أما الوجود بالفعل فلا يتحقق إلا من خلال العرض وما يزخر به من حياة وصراع وإيقاع وأصوات وحركات وألوان.”[20]
واعتبر العرض من طرف المبدعين المسرحيين المغاربة عنصرا فعالا يخرج النص من السكون إلى مجال الحياة, فمحمد مسكين يرى أن النص لا يجب أن يبقى في حدود الكتابة وأما العرض فهو البديل الذي يتحقق فيه انتقال اللغة من المجال المكتوب إلى المجال المنطوق والذي يحدده ب: “مجال الأنفاس والألسنة والهواء”[21]
أما المسرحي المبدع عبد الكريم برشيد, فإنه اختار المسرح كمجال لإبداعاته دون غيره من الأجناس الأخرى, لأنه يتشكل من مجموعة من العناصر التي تجعل منه إبداعا مميزا وفنا جماعيا يشارك في إنتاجه عدد من المبدعين: (المؤلف والمخرج والتقنيون والممثلون) ويتم تلقيه بطريقة جماعية, وهو بذلك يتميز عن القصة والشعر والرواية التي يتم إبداعها بصفة فردية, يقول:” ومن هنا كان اختياري للمسرح اختيار الإبداع الحي, أي لتلك الثقافة التي تمشي وتنطق وتحاور الناس ـ في المكان والزمان الذي يتجمع فيه الناس ـ فالمسرح ليس كلاما, ليس كتابة وإنما هو فعل حيوية نعيشه ونحياه.”[22]
لقد انخرط المسرح المغربي في تيار التجريب منذ السبعينيات من القرن الماضي, نتج عن ذلك ظهور تجارب واتجاهات وتنظيرات مسرحية ممثلة في مساهمات الهواة, قيمتها أن عملت على بلورة فهم جديد للفن المسرحي ولوظائفه ولعنصريه الرئيسيين: النص والعرض. هذا الفهم يقوم في أساسه على تجاوز الوضع السائد الذي يجعل من المسرح قناة لتمرير الخطابات السياسية, إلى خلق أساليب جديدة تعبر عن مختلف المواضيع الاجتماعية والإنسانية, في ضوء تصورات جديدة للأشكال والصيغ المسرحية التي اتجهت نحو استثمار مخزون الذاكرة الجمعية وتوظيف الدراما الغربية.
يتضح من المواقف السابقة أن العرض هو الذي يحدد وجود المسرح وليس النص. فالعرض إذن عمل يظل متفردا في الممارسة المسرحية ويعمل بإمكانات غير إمكانات الأدب وبوسائل فنية وتقنية عديدة, فإلى جانب الكلمة هناك الحركة والصوت والديكور والإنارة ووسائل أخرى غيرها، تنتج ما لا نهاية له من العلامات والدلالات.
وهكذا فإن قيمة المسرح وجوهره يكمنان في العرض, أما الخصائص الأدبية فلا يمكنها أن تمنح المسرح خصوصيته.
وبالرغم من هذا كله, فإن منظور المسرحيين المغاربة يظل متمسكا ببقاء النص كعنصر من عناصر المسرح التي لا يمكن أن يقوم بدونها, إذ ما يزال النص يحتفظ بحضوره القوي في تشكيل الرؤية الفنية للعرض. وهذا ما يجعل من قضية النص والعرض في المسرح قضية معقدة وشائكة , لم يتوصل المهتمون المسرحيون في المغرب إلى وضع حدود حاسمة في أشكال التعامل معها. ويظل أبرز موقف من هذه القضية هو القول بالتكامل بين هذين العنصرين (النص/العرض) في الممارسة الإبداعية المسرحية.
وفي هذا الصدد يدعو الباحث المغربي الدكتور يونس لوليدي إلى ترك التعصب لأحد الجانبين, الأدبي أو الفني، ويرى أن “العلاقة القائمة بين هذين الجانبين هي علاقة تكامل، فقد تخلق الكلمات جوا تراجيديا, أو كوميديا, أو شاعريا ، لكن هذا الجو لا يكتمل ولا يأخذ صورته النهائية إلا إذا تضافرت الكلمات في العرض مع الديكور والإنارة والموسيقى, والمواقف”.”[23]
الطرح نفسه -القول بالتكامل- يذهب إليه الدكتور محمد الكغاط حيث يقول: “عندما نتحدث عن النص المسرحي, ونفكر بوعي أو بدون وعي في الجانب الأدبي من المسرح, وكأننا بعملنا هذا نصنف المؤلف في خانة الكلمة, في حين نصنف المخرج في خانة الحركة, فيبدو الأمر كما لو كان هناك مبدعان لكل منهما اختصاصه غير أن كلا منهما يكمل الآخر.”[24]
وتحدث الدكتور عبد الرحمان بن زيدان عن “المسرح كأدب وفن”[25] في معرض مناقشته للقراءة في علاقتها بالمسرح.
ويقول عبد الكريم برشيد أنك: “عندما تختار التعبير بالمسرح فإن ذلك معناه أنك تستعير كل الأدوات التعبيرية المختلفة, إن المسرح هو الكل في واحد إنه التعبير المركب الذي يخاطب في الإنسان وعيه, وذلك عن طريق ما يسمع ويبصر ويلمس من الحركات والإشارات والأصوات والأشياء.”[26]
أما الممارسة النقدية فقد ظلت ولفترة طويلة من الزمن تقتصر في قراءتها للإبداع المسرحي على النص ونادرا ما كانت تلتفت إلى عناصر العرض, حيث ينصب اهتمام الناقد على المضامين والأفكار التي يتمحور حولها النص, وينطلق منها لتحليل باقي العناصر كاللغة والحدث والشخصيات وأداء الممثلين (كيفية الإلقاء) ومدى استجابة الجمهور واستحسانه للعرض.
لكن هذا الوضع بدأ يتغير منذ مطلع السبعينيات وذلك في إطار التحول الذي عرفه المشهد النقدي في المغرب, إذ بدأ المهتمون يطرحون أسئلة عديدة حول الوضع الإشكالي للنقد المسرحي تخص كيفية قراءة المسرح نصا وعرضا, ويتساءلون حول فعالية تشغيلهم المستمر لبعض الثوابت النقدية المعتمدة في التحليل الأدبي، وهكذا اتجه النقاد نحو تجريب مختلف الطرائق والمناهج، وتمثل المفاهيم النقدية الحديثة، لمقاربة الإبداع المسرحي نصا وعرضا.
ومن مظاهر هذا الانشغال أن تنبه النقاد إلى أنهم أولوا النص المسرحي الأهمية القصوى, يقول الدكتور محمد الكغاط: “ومع إقرارنا بتعدد العناصر المكونة للمسرح وأهميته كل منها فقد اندفعنا بوعي أو بدون وعي إلى الاهتمام بالنص المسرحي وخصائصه أكثر من اهتمامنا بباقي العناصر التي تكون “المسرح””
وانطلاقا من هذا الوعي تشكلت مواقف تدعو إلى قراءة العمل المسرحي في كافة عناصره: النص والعرض, يرى الباحث سعيد يقطين أن العمل المسرحي هو “خطاب مزدوج”،[27] وهو عبارة عن خطاب جماعي يبتدئ بالمخرج وينتهي بالشخصيات، “وهذا الواقع يجعلنا حينما نبغي معاينة الخطابات المنجزة, نتبين أننا أمام ثلاث خطابات تتداخل في النهاية، لتجدنا أمام خطاب واحد هو الخطاب المسرحي بمعناه العام.”[28]
ويقول محمد الكغاط “وإذا كان الناقد المسرحي نفسه ينطلق من النص أحيانا، فإن عليه أن يربطه بالعرض مادام مطالبا بمقاربة كل عناصره, ومتابعة ما حققه المخرج من انسجام بين سائر مكونات المسرح وهو ينقل كلام النص إلى حركة الخشبة.”[29]
لكن رغم ذلك, فإن النقاد غالبا ما يتعاملون مع النص المسرحي كواقعة أدبية منفصلة عن العرض, ومن ثمة يجدون أنفسهم ملزمين بالتفكير في الأدوات الكفيلة بتحليل عمل يختلف عن الإبداع الأدبي/ النصوص الأدبية, ولا يترددون في قراءة النص المسرحي بآليات النقد الأدبي, بل إننا نجد من النقاد من لا يكلف نفسه عناء التساؤل حول آليات تحليل العمل المسرحي, ويحسم المسألة بتعامله مع المسرح كجنس أدبي، يرى محمد أنقار في كتابه “بلاغة النص” أن دعوة كل من (بريخت) و(بيتر بروك) و(أنطونان أرطو) التي تكاد ترفض النص المكتوب رفضا قاطعا, “لا تلغي حقيقة أخرى ترى النص في انفصاله عن العرض يشكل واقعة إبداعية، لها كيانها اللفظي المستقل الذي يحتاج إلى دراسة نقدية شأن باقي الوقائع الأدبية المكتوبة أو المسجلة.”[30]
غير أن محمد الكغاط يرى أن النص الدرامي “حتى عندما يعامل كأدب, يفرض شروطه الخاصة, سواء وعى ذلك أو لم يعيه, وذلك لأنه نص غير منته, ولأنه نص يدعو نصا آخر… نص يسعى إلى الاكتمال بالنص الثاني، ليجد طريقه إلى المسرح. إلى أذن المشاهد وعينه في نفس الآن.”[31]
إن هذه الآراء لا تصنع موقفا موحدا تجاه قضية النص والعرض في النقد المسرحي المغربي, بل إنها تفصح عن حقيقة مفادها أن النقاد المسرحيين مازالوا يتعاملون مع المسرح على أنه أدب وإنتاج لغوي، وأن هذا النقد ما يزال يبحث ويجرب الوسائل والممكنات من أجل خلق تجربة نقدية لها كيانها وأدواتها الخاصة بها.
إن حصيلة ما ظهر من دراسات بصدد قضية “النص والعرض في المسرح المغربي” لا ترقى إلى مستوى الكم الذي يجعلنا نستخلص مواقف واضحة، أو نتبين فيها اتجاهات تحدد موقفها من هذه القضية, فمثل هذه المشاريع تكاد تكون منعدمة، سوى ما نجده من مقالات أو إشارات أو مباحث صغرى ترد ضمن دراسات حول النقد المسرحي أو أثناء مناقشة قضايا المسرح بصفة عامة.
إن المتأمل في الدراسات والأبحاث التي تطرقت إلى هذه القضية في النقد المغربي, سيجد بأنها لم تتعد استعراض التجارب الغربية في هذا المجال, وذكر الأسماء الرائدة في ذلك, أما آراء المغاربة حيالها، فبدت خجولة لا تمس عمق المشكلة ولا تصل إلى حد الإقرار برفض النص المسرحي والحد من سلطة الأدبية فيه، أو وضع ضوابط محددة للمقاربة النقدية؛ تأخذ بعين الاعتبار خصوصية العمل المسرحي وطبيعته المركبة ، وتظل في مجملها مجرد آراء تؤمن بأهمية العرض، ولا تتخلى عن النص، وتمجيد ما هو أدبي على حساب ما هو فني .
الهوامش:
ألكسندر دوما نقلا عن د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض (من الفضاء النصي إلى الفضاء الركحي) ـ مجلة: البيان ـ ع: 332 ـ مارس 1998 ـ ص: 10
Henry Couhier: l’essence du theatre – p: 102.
د. محمد الكغاط : المسرح وفضاءاته ـ ص: 87.
دة. ماري إلياس ودة. حنان قصاب حسن: المعجم المسرحي ـ ص: 7.
صافي ناز كاظم: مسرح المسرحيين ـ ص: 99
محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 88.
المرجع السابق ـ ص: 88.
صافي ناز كاظم: مسرح المسرحيين ـ ص: 99.
محمد الكغاط: النص والعرض في عروض مهرجان المسرح العربي المتنقل ـ مجلة: الأساس ـ ع:16 ـ فبراير 1985 ـ ص: 8.
محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 99.
المرجع السابق ـ 90 ـ 91.
للتوسع في هذا الموضوع ولمعرفة أسماء ومواقف أخرى, انظر الدكتور يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض ـ مرجع مذكور, والدكتور محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته الصفحات: 86 ـ 87 ـ 88…..
جوليان هيلتون: نظرية العرض المسرحي ـ ترجمة: نهاد صليحة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ ص: 18.
دة: ماري إلياس ودة. حنان قصاب حسن: المعجم المسرحي ـ ص: 9 ـ 10
المرجع نفسه ـ ص: 10
المرجع نفسه ـ 10.
المرجع نفسه ـ 10.
رشيد بناني: نحو بناء منهجية لقراءة العرض المسرحي ـ مجلة آفاق ـ ع:3 ـ1989 ـ ص: 64
المرجع السابق.
د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض ـ مرجع مذكور ـ ص: 9
د. حسن المنيعي: قراءة في المشروع المسرحي لمحمد مسكين ـ مقدمة المجموعة المسرحية: “امرأة.. قميص.. زغاريد” لمحمد مسكين ـ ص: 6
عبد الكريم برشيد: أوراق من تجربتي المسرحية ـ جريدة العلم الثقافي ـ ماي 1982 ـ ص: 2.
د. يونس لوليدي: المسرح بين أدبية النص وفنية العرض ـ ص: 11.
د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 87.
د. عبد الرحمان بن زيدان: إشكالية المنهج في النقد المسرحي العربي ـ مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ 1995 ـ ص: 113.
عبد الكريم برشيد: أوراق من تجربتي المسرحية ـ ص: 2.
د. سعيد يقطين: مدخل إلى تحليل الخطاب المسرحي ـ م: آفاق ـ ع: 3 ـ 1989 ـ ص: 56.
المرجع نفسه ـ ص: 56.
د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته ـ ص: 182 .
محمد أنقار: بلاغة النص ـ مطبعة الحداد يوسف إخوان ـ تطوان ط:1 ـ ص: 19
د. محمد الكغاط: التجريب ونصوص المسرح ـ مجلة آفاق ـ ع:3 ـ 1989 ـ ص: 19