اسمي آدم ..
أنا طفل فلسطيني في الثامنة من عمري.. عدت إلى المدرسة منذ شهرين.. لكن بدا صعبا عليّ أن أشعر بالسعادة طالما أن الصهاينة بنَوا حاجزا جديدا يفصل بيني وبين مدرستي…
الجنود القساة يستطيعون منعي من العبور متى أرادوا.. يغضب أبي.. يخاطبهم بلغتهم محتداً.. كان من السهل اكتشاف الارتباك في عيونهم المذعورة من صوته الواثق.. أما الحل الوحيد الذي كان يملكه هؤلاء فهو تصويب فوهات بنادقهم الآلية نحونا والإشارة إلينا بالرجوع من حيث أتينا..
لم يحدث يوما أن بكيت أمامهم، لكنني حالما أعود إلى البيت أرتمي في حضن أمي وأجهش بالبكاء.. لقد حرموني من مدرستي.. تمسح أمي دموعي دائما بمنديل ناعم من القماش، وتداعب شعري وهي تقول: “ما تبكيش يمّا”، سنحاربهم بهذا، وتشير إلى رأسها، وهذا، وتشير إلى قلبها.. أنا أفهم جيدا ما تقول أمي.. وأفهم ما الذي قصدته حين فتحت المسجل لينطلق إيقاع الدبكة الذي يملأ قلبي إحساسا بطعم الحرية ولون الحياة، فيطير كأسطورة كنعانية في فضاء بيتنا الرحب، ويشع قلبي بالأمل…
أمي كاتبة مثقفة وعضو في فريق الدبكة الفلسطينية في القرية.. سبق وسجن كثير من أعضاء الفريق وهددوا في حياتهم وأرزاقهم، ولم تسلم أمي من الاعتقال مرات عدة، لكن الحلبة ما زالت تُدكُّ على إيقاع أقدامهم الثابتة كثبات التاريخ والجغرافيا..
بينما أنا في الدار، لا أزال أفكر في أمر الدروس وزملاء الدراسة والمعلمين.. تتلقف أمي كالعادة شرودي بابتسامة ساحرة وتغني لي الميجنا فأغني معها قليلا.. ثم تلتفت لأبي الذي يتابع بلا ملل أخبار فلسطين والعالم قائلة له: راجع مع آدم دروس الحساب.. فنمضي ساعة في حل المسائل.. كان يعطيني قطعة حلوى عن كل مسألة صحيحة؛ فأفرح كثيرا..
أبي لا يعلّمني الحساب فقط، لقد جعلني أحذق في فهم تاريخ الوطن يوما بيوم وجغرافيته شبرا فشبرا.. أنا أعرف كل أسماء المدن الفلسطينية ومعانيها وما تشتهر به.. أبي مغرم بالتصوير الفوتوغرافي.. ينتبه إلى كل تفصيل في الأرض، ويصوره بشغف.. كان يؤرخ كل لحظة حزينة أو سعيدة.. ويجمعها في ألبومات ثم يحاول أن يخفيها عند الأصدقاء؛ لأن الجنود يفاجئوننا باقتحام البيت بين الحين والآخر، فتطال أيديهم كل شيء فيه رائحة الوطن، ويدمرونه بشهية دموية..
عندما أنهي دروسي، ألعب مع أختي الصغيرة “يافا” التي لا تكف عن طرح الأسئلة: ما اسم الدمية؟ وتسألني عن أسماء الأشجار والكتب.. أنا أجيبها دائما، وحين أتعب وأقرر الصمت تلتفت إليّ أمي بابتسامتها الجميلة؛ فلا أملك إلا أن أجيب…
اليوم صباحا اصطحبني أبي كالعادة إلى المدرسة، وكان في الطريق يغني لي موالا فلسطينيا ويقشر برتقالة من بيارتنا.. من المفرح أنهم سمحوا لي هذه المرة بالمرور.. لوحت لأبي بيدي وابتسمت هازئا بجنود الاحتلال ..
لم تفارق الابتسامة شفتي وعيني رغم الرصاصة الغادرة من بندقية الجندي الصهيوني الذي أحس بلون ضحكتي..!!.
على ذراع أبي الباكي أعرف أنني لن أموت.. على ذراع أبي أرى فلسطين الجميلة ومدرستي .. أرى أختي “يافا” تسألني عن اسم الشمس؛ فأجيب: فلسطين.. على ذراع أبي يخفت نبضي.. أسمع صوت أمي وأعرف أنها ستزغرد قليلا وستبكي كثيرا ابنها الوحيد.. لكنها لن تستسلم.. بل ستحملني في قلبها وتحلق بي كحمامة بيضاء على إيقاع الدبكة التي نحب….