يترجم مبارك مرابط «مذكرات فتاة» للكاتبة الفرنسية آني إرنو ليسَ لأنها تحتل مكانة خاصة ومميزة في الأدب الفرنسي المعاصر، بل لأنها تواجه الحياة وآلامها المستمرة ثم تعيد إحياء الحدث بالتركيز على التداعيات النفسية، الجسدية والاجتماعية التي مرّت بها، مشيرا في مقدمة الكتاب إلى مصطلح «التخييل الذاتي» الذي تستعمله إرنو في سردها الإبداعي المنفلت دوما؛ مما يحطم الحدود ويحرر كتاباتها من الانضمام إلى جنس أدبي معين كأن يكون سيرة ذاتية، أو مذكرات اعترافية، أو رواية توثيقية وغيرها من الأنواع الأدبية المعروفة.. وبالتالي فإن مثل هذا السرد يعتمد على التجربة الشخصية والذاكرة المتحيرة الحادة فقط.
أهمية أن تكون كاتباً اعترافياً
يبرز في عمل «مذكرات فتاة» الطابع التقريري إلا أنه لا يبدو مشكلة أو نشازا بسبب المسحة الحميمية، الحقائق الصادمة والوقائع المباغتة؛ التي تدسها في المادة المكتوبة الخام وتشد من خلالها القارئ كما تريد. لعل هذا النوع من الكتابة الصادقة والبارعة يدفعنا إلى اكتشاف أن الحوادث العابرة والمبتذلة يمكن أن تكون لوحات فنية بديعة توحي بالحياة وتلهم الآخرين، لكن في أغلب الأحيان نجهلها ولا نعيرها أي اهتمام أثناء عاداتنا اليومية، كما أننا لا نتوقع إمكانية تحولها إلى لوحة بديعة مثلما تنتجها إرنو في كل مرة تقرر فيها أن تكتبَ أحداث أيامها القلقة الأليمة!
مهما بدت الحياة مخجلة أو مبتذلة أو لا معنى لها، سوف تضمر في طياتها جواهر مشعة تحتاج منا إلى إتقان فن التنقيب، وفن نفض الغبار عنها ثم صقلها لتستعيد كل إشعاعها. ما يهم ليس ما يحدث لنا، بل ما نصنع بما يحدث لنا، تقول آني إرنو.
لو كنت كتبت مقدمة هذا الكتاب لأفردت فقرة أشرح فيها تعبير المترجم عن كتابتها الخادعة كالبحيرة الهادئة المسالمة، وهي في الحقيقة كتابة مموهة ومعقدة، تجمع بين السرد الروائي والاستنطاق العميق للغة بأكملها – أصلا- إنها كتابة أرشيفية ذات مراوغات وسياقات غير شائعة بالنسبة للقراء العرب، أي ليست كتابة بسيطة اعتيادية مثلما نتصورها من أول وهلة إطلاقا.
استهلت إرنو الكتاب بالحديث عن غياب الأنا، أو ذوبان الأنا؛ نتيجة انغمارها وانغماسها في واقع الآخر من حيث طريقة كلامه وأفعاله، بعبارة أخرى تكلمت عمن يذوّب «أناه» عندما يقلد كائنا آخر، إذ ينسخ حتى تصرفاته وفي الأخير يخسر نفسه ويفشل في اتباع الذات الأخرى، يكتفي بمتابعة صورته المنعكسة وهي تتحرك خانعة، هي دائما متأخرة عن إرادة ذلك الآخر- دائما ما تسبقه – لا يلحق بها أبدا، تتلاشى كينونة المقلد وتذوب في يومٍ ما بلا جدوى، على حد تعبيرها. هذهِ التصرفات تخفي وراءها حتما مشاعر من الغيرة السلبية والنقص الشخصي.
إنها كاتبة تحليلية للظواهر، تعتبر الانفعالية المفرطة فخا بامتياز وهنا تذكرني بالشاعرة لويز غليك وأسلوبها الاعترافي المتزن، حينما تتقن الخطاب الشعري والنمط الاستذكاري، الذي ينشطه التحليل النفسي، وأن هذهِ الآليات هي نقطة محورية في النموذج الاعترافي الصريح لا شك، على الرغم من أن غليك أشارت إلى أن ممارسة ضبط النفس العاطفي لفترة طويلة جدا، يتوقف عن تفسير الشدة ويتحول ببساطة إلى خراب روحي، تجنبته كلتا الكاتبتين باحتراف بعد أن أصبحت كل منهما قريبة من الألم والخوف والصمت.
مع تقدم المرء في قراءة «مذكرات فتاة» يشعر بأن مصدر الكتابة هو التجربة ذات الميول المتنوعة، التي تمثل حقيقة المنتج النهائي وطابعه الخاص، كأنها تثبت كلام الكاتبة النفسية سوزان بلاكمور حين مضت قائلة: إن الحياة التي نعيشها جميعا، ليست وحدها بما يكفي كموضوع للفنان الجاد، بل يجب أن تكون حياة ذات ميل، حياة ذات ميل إلى تشكيل نفسها فقط في أشكال معينة، لتقديم الكشف الأكثر وضوحا فقط في أضواء محددة. فرّغت ذكرياتها في كتابها الأنثوي، وأكملت النص الناقص أو النص المؤجل إلى جانب تحويطها للثغرات المستعصية على كل وصف، بعد إحساسها أن الزمن بدأ يتقلص عندها؛ ذلك لأنها تعتقد أن كل لحظة تمر دون مشروع كتابة تشبه اللحظة الأخيرة في الحياة.
سبق أن كتبت مقالة حول إرنو في العام الماضي، وصفت فيها كيف أن اللحظات التي لا يسجلها الأدب هي لحظات ميتة ومنسية، ما زلت مصرة على فكرة الكتابة والتسجيل إلى الآن، متأكدة من أن الذاكرة هي نوع من أنواع المعرفة حتى لو كنت أشك في دقتها وقدرتها على الإيفاء. الكتابة لا تصلح إلا لنبش الأشياء والانخراط في الاستحالة غالبا، هذا ما تؤمن به إرنو إلى جوار شعورها بالعار من أن تصبح المرأة أداة لتحقيق الرغبات وفريسة للشهوات.. تحس بالاعتزاز لأنها تعرفت إلى الحرية والانفتاح، وامتلكت الجسارة عن طريق عار الفتاة وخزيها، التي اشتغلت على إيصال مشاهده إلى القراء بإتقان دون دراماتيكية مبالغ بها، مع ذلك تلاحظ أن الحصول على المفاتيح لفهم العار لا يمنحنا بالضرورة سلطة محوه وتغيير مجرى الحياة.
الوجه الآخر لآني إرنو
أعلنت أنها كتبت مجموعة من القصائد في النهاية، أهمها القصيدة التي كانت حدثا حقيقيا عصيا يصعب سرده والبوح بهِ، فحولته إلى مادة ملتبسة مجردة من خلال الاستعارات المكثفة، تقول بفضل هذه القصيدة التأملية: عَبَرَت الصورة التي ألهمني إياها الزمن، صورة فتاة تجلس وحيدة حاصرتها المرايا ولذلك رأت نفسها داخل تلك المرآة حينئذٍ. «كان ذلك في توتنهام كورت رود/على المِرآة الملحاح/كان وجهي ينز خوفا/مقصف الشتاء يسرع الخطى نحو المساء/كان ذلك في عالمٍ آخرَ/عالم رمادي وبارد مثل الأبدية». كان الصوت في هذهِ القصيدة قريبا ومباشرا لكنه حميمي، مجروح ومكشوف في الوقت نفسه.
بقيت أشعار كهذه تجيء في الذاكرة على سبيل العزاء لعجزها عن إزالتها أو فشلها الذريع في مسايرتها وقتما تهيج حساسيتها الشديدة، جراء حضور الآخرين ونظراتهم المحتالة ودفق أفكارهم الغريب، لا عجب في ذلك بوصفها امرأة شاعرة مرتابة في معظم الأوقات، كلما رغبت في أن تكون إنسانة طبيعية تفشل في التماهي مع العالم وهو سبب الحزن منذ البداية، الذي يُحجِمها عن مواصلة الكتابة وواقعها الطموح، المنذور للتغلغل عميقا في الذات وضميرها هو/هي عندما تكبر.
أعتقد أن آني إرنو لا تهتم حقا بالثقافة، إنما تهتم بالقبض على الحياة والزمن، أن تفهم وتنتشي حتى لو عرضت تفاصيل إبداعية لا تخدم المجتمع بأي شكل من الأشكال مثلما اعترفت يوما ما؛ لذا ترمي نفسها في حضن حياتها القديمة الجريئة كي تكتب بهذهِ الطريقة الجارحة والفاضحة. بينما يسعى زملاؤها إلى الارتماء في حضن الأمكنة الثقافية والهروب قدر الإمكان من تجاربهم المخزية الماضية على عكسها تماما، التي تسير نحو تأليف كتابها كما تسير نحو الحب، وتستقي مواد وإمكانات هذهِ الكتابة من لحظات العيش المتعبة والمرعبة بعد تحويرها إلى فن مدهش.
يرى بعض الكتاب – وأنا منهم بالتأكيد – أنه لا توجد قضية أكبر من القضايا التي تدور حول الأنا، قضيتنا الكبرى هي ذاتنا، صدقوا إرنو ذات المستوى الرفيع وآمنوا بنا، وإن كنا مثلها لا نثق بالذكريات كثيرا! تأثرت بالفيلسوفة سيمون دي بوفوار وكتابها «الجنس الآخر»؛ لذلك فهي تميل إلى الشؤون النسوية والمآسي النسائية تحديدا، تنقل واقع المرأة الفضائحي دون تغيير وتفكك ما حولها لتفهم ما يلزم فهمه جيدا، مستخدمة فعل الكتابة الغامض بطبيعته إلا أنه يجعل الذكريات لا تنسى ولا تخفى وبالأخير لن تتكررَ مجددا.
ما أدى إلى تعلق إرنو بالكتابة شيئا فشيئا هو معرفتها بأنها طفلة بديلة، كان لدى إرنو أخت ماتت بسبب الدفتيريا في السادسة من عمرها. قالت: «لقد أرادوا طفلا واحدا فقط، لكن بعد وفاتها قرروا إنجاب طفل آخر». لقد اكتشفت هذه الحقيقة عندما كانت في العاشرة من عمرها، لكن لم يشعر أحد قط بأنه قادر على التحدث عنها. «أنا طفلة بديلة، لم أكن لأولد لو كانت أختي على قيد الحياة. هذا اكتشاف حساس، لم يكن الأمر واضحا في ذهني، ومن خلال الكتابة أصبح فجأة واضحا». نحن لا نفهم سوى القليل جدا مما يجري لنا في أي دقيقة، لكن من خلال تذكرنا اليومي، يمكننا أحيانا أن نرى بدقة ما يعنيه الحدث، وما كان يحاول أن يعلمنا إياه في ما بعد حقا. تضيف لاحقا في غياب تام للخجل، إن الكتابة الاعترافية هي الملاذ النهائي لمن تعرض للخيانة والخداع وهي الطريقة المناسبة لتقريبه من الحقيقة غير الثابتة من حيث المفهوم.
«حياتي كلها كانت عبارة عن محاولة لانتزاع نفسي من الرغبة الذكورية، وبمعنى ثانٍ، من رغبتي الخاصة» هكذا تعترف إرنو مضيفة قيمة وجودية إلى يومياتها، لن تبهتَ بسهولة لأنها منتزعة من هوامش الحياة، ما ليس له قيمة في الحياة لا قيمة له في الأدب أيضا، هذهِ نظرتها للأشياء، نظرة استثنائية وغريبة. إنها تستعيد ما مضى عبر الكتابة، تكدس الصور والسنين في مؤلفاتها وتنسخ الماضي بلا ذنبٍ يفضي إلى رحلة العار القاسية.
كان موريس بلانشو يقول إن كل سيرة ذاتية هي احتفال تذكاري بحياة كاتبها، «مذكرات فتاة» إنها سيرة ذاتية تحتفي بحياة آني إرنو الطويلة وتجزم بكيانها المتشظي، الذي لم يتهرب من الألم والخوض في الشيء الذي يسبب الشعور بالعار. إن المذكرات ليست لعبة مسلية، بل هي ضرورة حياتية إذن، فالفرار أو النسيان ليس من عمل الكاتب المغامر والفنان المبدع قطعا.