تقديم:
نحاول في هذه الدراسة قراءة نصوص شعرية للشاعر عبد السلام فيزازي المتشبع بالنظريات الشعرية المعاصرة لمختلف المدارس التي تسعى لتجديد بنية الشعر، وإعطائه نفسا إبداعيا وشكلا جماليا لمواكبة متغيرات العصر. الشاعر منفتح على ثقافات تعكس التنوع والتجاذب من أجل الاستقطاب وإثبات فاعليتها على الساحة الثقافية العالمية بحكم الخلفيات الفكرية التي تؤطرها. هذه الثقافات هي الثقافة العربية التي تعدّ زاده الأول بحكم العامل الجغرافي، وبموازاة جذوره الأمازيغية الريفية؛ مما يدفعه لمحاولة خلق توازن في التعاطي مع الإبداع الشعري موظفا موروثه الثقافي عن وعي أو عن غير وعي. كما غرف من تجارب شعراء عالميين من أمريكا الجنوبية بحكم إتقانه للغة الإسبانية التي عرفت نتاجات شعرية معبرة عن معاناة الإنسان من بعض الأنظمة الديكتاتورية، وكانت إبداعا يجمع بين الجمالية والنضالية والاحتجاج. ويبقى تأثره بكل ما هو غربي نظريا وممارسة، فكرا ونقدا، تحصيل حاصل؛ لأنه درس في فرنسا وأبدع بلغة موليير وحاضر بها كزائر في عدة جامعات.
لابد من الاعتراف بأن القارئ في مثل هاته المواقف تكون قراءته مغامرة؛ لأن نظرية التلقي الحديثة تقتضي من القارئ أن يفطن لذكاء المبدع الذي يتعمد ترك مساحات بيضاء، حتى يتمكن من إشراكه في إنتاج نص آخر يستجيب للشروط الإبداعية التي يرسمها أثناء هندسة بناء المنتوج؛ “لأن عمليات التلقي المستمر تشكل وجدان المبدع والقارئ معا، وتنمي إحساسها بأبعاد النص العميقة التي تظل تعطي دلالات لا نهائية تسمح بالتأويل في دائرة لا ينغلق فيها النص بل يتجدد مع كل قراءة”[1].
لقد اخترنا ديوان “مدارج البوح” للغوص في بنيته العميقة شكلا ومضمونا، والبحث عن النصوص الغائبة التي استحضرها الشاعر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لتكمل لبنات الفسيفساء التي تقدم النص في حلته شبه النهائية، ولا يمكن ذلك إلا بوجود قارئ قادر على فك رموزها واستيعابه للثقافة الكونية التي يوظفها الشاعر عبد السلام فيزازي.
- التناص وآلياته:
إن أي نص لا يمكن أن ينشأ من فراغ، فالإنسان يعيش وينتج كل الوسائل التي تضمن له الحياة والاستمرارية وهذا لن يتأتى إلا باستحضاره لنصوص سبق أن خزنها في ذاكرته وتراكمت في ذهنه ولو لزمن بعيد، مكتوبة كانت أو شفوية، تنسل إلى إنتاجه دون أن يتمكن من رقابتها أو الوعي بزمانها أو حتى مصدرها..” لهذا فإن كل نص تأويلي أو كل نص إبداعي مزيج من تراكمات سابقة بعد أن خضعت للانتقاء والتأليف..”[2].
لهذا فالقارئ يكمل مهمة الكاتب المبدع ويحدد النصوص التي تفاعل معها النص وتناص معها بمختلف درجات التناص، لأن فكرة استقلال النصوص حسب رأي جوناتان كولر فكرة مضللة، وإنه ليس للأثر المعنى الذي له إلا أنه أشياء معينة كتبت سلفا[3].
حددت كريستيفا آليات التناص في ثلاثة أنماط، تحدد قصدية الشاعر في استحضاره لنصوص أخرى وهي:
– النفي الكلي: يعمل خلاله الشاعر المبدع على نفي النص المستحضر كليا.
– النفي المتوازي: يظل خلاله المعنى المنطقي للنصين هو نفسه مع اقتباس للنص المرجعي معنى جديدا.
– النفي الجزئي: حيث يكون جزءا واحدا من النص فقط منفيا[4].
ويؤكد محمد مفتاح على أن التناص يمكن أن يكون اعتباطيا، يعتمد في دراسته على ذاكرة المتلقي، كما يكون واجبا يوجه المتلقي نحو مظانه[5].
- التناص في شعر عبد السلام فيزازي:
نستهل القراءة بعتبات النصوص؛ إذ هي مفتاح بوابة النصوص، ومنها نطل على النص، إنها بمثابة علامات مرور تنبه القارئ إلى طبيعة الطريق التي يسلكها ونوعية الأدوات التي قد تفي بالغرض من القراءة. يحتوي الديوان على ثلاث عتبات:
– عتبات العناوين، التي تنقسم إلى نوعين: عتبة كبرى؛ وهي عتبة الديوان. وعتبات فرعية عنوانا للنصوص الشعرية داخل الديوان.
– عتبة الإهداء.
– عتبة التقديم.
2-1- عنوان الديوان “مدارج البوح”. يتضمن تسع قصائد تحت عناوين تتقاطع في كونها مقامات، لكنها تختلف في طبيعتها، فالعنوان تعبير فلسفي عن الذات وعن عمقها جسدا وروحا وكل ما تحمله من مشاعر وأحاسيس وذكريات وأفكار. إنها ذات الإنسان في عالم متعدد يجمع بين الفلسفي والصوفي والأدبي. فالبوح معاناة وفي نفس الوقت ارتقاء روحي في عالم مغاير فيه لذة ومتعة، وقد يكون بوحا حقيقيا أو مجرد طعم لاستدراج القارئ للمشاركة في خلق معنى للنص. إن عتبة الديوان تتقاطع مع شعرية الشعر المعاصر الذي يقدم عناوين بلغة انزياحية وجمالية لا يمكن فهمها بسهولة إن لم نضعها في سياقها العام، والسياق العام للعتبة هو غربةُ الإنسان وحيرتُه في عالم بدأ يتغير نحو الأسوأ، وتعبيرٌ عن صراع داخلي من أجل البحث عن الانعتاق من عتمة المحيط الخارجي للذات المبدعة وإن كان المفكرون يعبرون عن آرائهم وينتقدون هذا الواقع فإن الشاعر مقيد بطقوس وبفلسفة إبداعية تلزمه الحفاظ عليها في بناء وتشكيل المعاني والسمو بجماليتها شكلا ومضمونا وإيقاعيا. فـ”مدارج البوح” تبتدئ من أول نقطة في أسفل الدرج إلى آخر نقطة في أعلاه، وتوحي بأن الشاعر تسكنه هواجس متعددة يبحث خلالها عن أي وسيلة ليرقى بإبداعه الشعري ويساهم في نقد الواقع دون أن يسقط في اللغة المباشرة التي لا ترقى للتعبير عن جوانيته وتحافظ على مكانته الشعرية ضمن الشعراء المبدعين الملتزمين والمهووسين بأسئلة في بعدها الاجتماعي والفلسفي، ويطرحها بنفس صوفي لا يرغب في تفسير الوجود ولا محاكاة الواقع، لكن يريد البحث عن عوالم تتجاوز فهم المتلقي السطحي إلى عالم الجمال والتناغم بين الكلمة المتزنة والفعل المؤثر. يتضح أن العنوان يتمرد عن ما هو كائن ويتفاعل مع عوالم صوفية وينظر إلى المستقبل عبر السؤال الفلسفي عن كيف يعبر الإنسان عن ذاته وبأي وسيلة يعبر؛ هل بالفكر أم الإبداع أم بالخطاب المباشر؟ إنه استحضار للقلق وللرغبة في تقاسم الهم المشترك الذي يربط الإنسان بباقي المكونات المحيطة به.
يعبر الشاعر ببوحه المتدرج عن إحساسه بأن البوح قد يسبب الألم والأذى للإنسان في عالم احتضن التفاهة والقيم الاجتماعية المتنكرة للإبداع وللكلمة الحرة والمعبرة وممارسة استبداد الرداءة. نخلص إلى أن العتبة الكبرى للديوان تتعالق مع البوح الصوفي والسؤال الفلسفي الوجودي، كما تستحضر الشعر في قصيدة “مقام البوح” لعبد الله العشي بتقنية النفي الجزئي بحيث نجد النص المستحضر هو “مقام البوح”[6]، في مقابل “مدارج البوح” عند الشاعر عبد السلام فيزازي. فالنص الثاني لم يهدم بصفة نهائية النص الأول، لكن تقاطعهما أعطى للنص دلالة أخرى مستقلة حررته من التعالق الصوفي المحض إلى التعالق الصوفي والفلسفي الذي يعبر عن قصدية ازدواجية للتأمل الذي تنبثق من العقل والعاطفة.
2-2- عتبة الإهداء:
تحمل عتبة الإهداء دلالات عميقة في بعدها الروحي والصوفي والفلسفي، تتشكل من سطرين، لكن هندستهما البصرية تجعلهما مفتوحين على فضاء لامتناهي، لأنها زينت بمساحات فارغة ملأها الشاعر بثلاث نقط للحذف قابلة للتأويل ولملء فراغاتها بعبارات لا يريد أن يحددها، بل ترك المجال للمتلقي ليشاركه الإهداء وخاصة أنه أهداها لزوجته ووصفها بالبعيدة والقريبة من ظل أمه سيدة الغمام، فالعتبة تتعالق مع نص ديني يدعو للبر بالوالدين والإحسان إليهما وخاصة الأم، كما يستحضر الجانب الحقوقي للمرأة والذي يتماهى مع مواقف الشاعر الحداثية والايديولوجية.
إلى التي عانقت أشرعة روحي… بعيدا قريبا من
ظل أمي…سيدة الغمام…زوجتي فتيحة…
نلاحظ حضور شخصيتين فاضل بينهما بذكاء، ليؤكد حضور النص الديني، وقد ساعد في ذلك تشكيل الجمل النثرية بإيقاعات شعرية كسرت المألوف في شكل الإهداء في دواوين الشعراء.
النص المستحضر: عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: “جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: يا رسول الله.. من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.. قال: ثم من؟.. قال: أمك.. قال: ثم من؟.. قال: أمك.. قال: ثم من؟.. قال: أبوك” (متفق عليه).
ويبقى حضور الروح إيحاء إلى التعالق مع الروح الصوفية التي تبحث دائما عن الصفاء والاطمئنان الذي وجده الشاعر في توزيع حبه بحكمة بين سيدتين: الأم والزوجة؛ ليشكلا عالمي البدء والخلق.
2-3- عتبة التقدي:
استحضر عدة نصوص أدبية وشعرية وفلسفية، كما استدعى عدة شخصيات تاريخية وأدبية.
استحضر جيرار جينيت في نظريته الأدبية حول الإبداع وإدراك المعارف.
“يتحول فينا المبدع إلى قوة لا يمكن تعريفها، فما أدراك جوهرها على حد قول جيرار جينيت”، وهو بذلك يستدعي شخصية أدبية، ناقدة، كما استحضر خطابها ووظفها عن وعي ليحاجج بها من يدعي المعرفة الكاملة بالأشياء، وعلى أن المعارف لا يمكن الإلمام بها، داعيا المتلقي إلى التواضع. إن الشاعر يبوح بواقع يعج بأشباه المثقفين الذين يتطاولون على المبدعين والإبداع ويدعون معرفتهم بكل شيء، حتما يتعلق بخصوصيتهم من مكامن القوة ومكامن ضعفهم.
اقتبس عبد السلام فيزازي مقولة الشاعر نزار قباني من كتابه “الشعر قنديل أخضر”، الذي أشار فيه إلى أن “الإنسان حيوان يكتب الشعر”، مستحضرا شخصيته، مع تغيير في بنيتها اللغوية:
ترى إلى أي حد يمكن إذا معانقة قول نزار قباني:
“حقا بني أمي الإنسان حيوان شاعر”
إنه يتقاطع مع نزار قباني في هوسه الإبداعي وحبه للشعر إلى درجة أن الإنسان بالنسبة لهما لا وجود له بدون شعر. وهذا ما جعله يكررها مرتين في المقدمة.، ويبصم عليه بقوله “صدقت حقا يا نزا”، وهذا تناص بآلية استدعاء الشخصية وخطابها حسب تقسيم أحمد مجاهد الذي قسم آليات التناص إلى ثلاثة أنواع[7]:
1- آليات استدعاء الشخصية.
2- آليات استدعاء الوظيفة.
3- آليات استدعاء الخطاب.
- استحضر الشعر والشعراء ومنهم:
- المهلهل: “مهلهل بن ربيعة معروف كفارس كشريف، ابن ربيعة سيد قبيلة تغلب، وشقيق كليب ملك تغلب، ويكر أكثر ما هو معروف كشاعر، ومن يقرأ شعره يجده مرتبطا بكليب والثأر”[8].
- ابن قزمان: شاعر أندلسي توفي سنة 555 هجرية 1160 ميلادية “يعد درة نادرة من درر الشعر الأندلسي، وهو الأثر الوحيد الذي نجا من عدوات الزمن من تراث أدب الأندلس المكتوب بلغة أهل البلاد الملحونة… يعد وثيقة نادرة للغة الكلام في ذلك الفردوس المفقود”[9].
- امرؤ القيس: شاعر وأمير صاحب عرف بغزارة شعره وفصاحته وقوة صوره الشعرية “ليس في شعراء الجاهلية من يوازي امرئ القيس أو يتقدمه في الإجادة في كل فن من فنون الشعر التي نظم فيها”[10].
هؤلاء الشعراء هم ذاكرة العرب الشعرية وفطاحلة الشعر، وهم مصدر إلهام منها لكل الشعراء العرب، ومنها نهلوا معارفهم واعتبرهم من أزمنة أنتجت أزهارا برية.
إنه يمجد الماضي وينظر إليه بنظرة ناقدة مستقبلية، تحاكم الحاضر الذي يريد منه أن يكون كونيا دون حدود للزمان والمكان. حينما استحضر هؤلاء الشعراء من الشرق إلى الغرب لتكسير طابوهات العالم العربي الذي وصفه بالخجول.
نلاحظ أن الشاعر لم يضمِّن نصَّه وظيفة هاته الشخصيات التي استدعاها بوعي، لكنه ترك المتلقي ليؤول حضورها بناء على معرفته بها وعلى قدرته على الربط بين الماضي والحاضر دون السقوط في الماضوية الجامدة التي تكبل الإبداع والفكر.
استحضر الحكاية الشعبية.
“… هو ذلك الطفل الصغير، الكبير، المشاغب، والخارج من قمقم الفوضى”
تتعالق نصوص متضاربة في بعدها المعرفي الإبستيمي، لكن الشاعر استطاع أن يشكل منها خطابا منسجما يعبر عن معاناة الإبداع في زمن الانتظار، فالقمقم يوحي إلى الحكاية الشعبية المتداولة حول رغبة الإنسان في تحقيق مكاسب دون تعب وينتظر من الجن أن يخرج له منه ليطلب منه ما يريد ويحقق مبتغاه، والنص الآخر هو علم النفس الاجتماعي الذي يعتبر أن داخل كل إنسان طفل صغير يظهر على السطح في ممارسته اللاشعورية، يحاكي فيها الأطفال وغالبا ما تعكس براءتهم.
استحضار النص الديني:
ملكوت الله “أو لم ينظروا في ملكوت السماء والأرض وما خلق الله من شيء..”[11].
ملكوت الموت: لقد ذكر وظيفة عزرائيل دون ذكره.
العذراء: ذكر هذه الكلمة توحي بمريم العذراء رمز العذرية والبراءة.
استحضر خطاب الفلاسفة عن أصل الكون، لكنه نفاها جزئيا وبنى عليها نقيضا مع الحفاظ على جزء منها وأضاف إليها مكون الشعر:
“كذب الفلاسفة حين حددوا العناصر الأربعة في: النار، التراب، الهواء والماء، متناسين الشعر باعتباره عنصرا خامسا مكونا لهذا العالم الغرائبي”.
يتضح حماس الشاعر ودفاعه عن مكانة الشعر حينما اعتبر الشعر عنصرا من عناصر هذا العالم وهو تأكيد لمقولة نزار قباني التي أشار إليها سابقا، لكنه يكرر معناها فقط ليتناص معها من جديد.
استحضر الفيلسوف تولستوي حينما استدعى النص الديني “ملكوت الله” لأنه ألف كتابا تحت عنوان “ملكوت الله بدواخلنا” وضمنه ثورة على المسيحية.
2-4- عتبة العناوين: يحتوي الديوان على ثماني قصائد سماها بالمقامات، نقتصر في قراءتها على قصيدة “مقام الشك” لأننا لن نستطيع الإحاطة علما بكل النصوص الغائبة في الديوان نظرا لكثافة التناص بها:
- مقام الشك.
- مقام الحزن.
- مقام الدمع.
- مقام الليل.
- مقام الجسد.
- مقام الرحيل.
- مقام الغربة.
- مقام الانتظار.
تشترك عتبة هذه النصوص الثمانية لغويا في المكون الأول من العنوان وهو “مقام” وتختلف في المكون الثاني حسب كلِّ مقام، وهذا يجعل المتلقي يستنتج أن العتبة تستحضر حكمة “لكل مقام مقال” المتداولة، ولقد اختلف الرواة عن مصدرها، لكن البعض منهم أجمع على أنها للشاعر بشار بن برد الذي عاش في العصر العباسي وأراد أن يشكر جارية طبخت له الطعام وقال القصيدة المشهورة:
رباب ربة البيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت.
وعاتبوه على مستواه الشعري وأجابهم بأن الجارية لا يمكنها أن تفهم شعرا غامضا كقول امرئ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا ** كجلمود صخر حطه السيب من عل
وأضاف المثل الشائع “لكل مقام مقال”.
من خلال هذا التعالق بين عتبة النصوص والحكمة كجزء من التراث فإن الشاعر يريد البوح لكن هذا البوح يختلف من إنسان إلى آخر لهذا تنوع بوحه حسب المقام وكان شكا وحزنا ..
بالإضافة إلى استحضار نص التراث، فقد استحضر نصا فلسفيا لسقراط والذي يتضمن إيحاء لهذه الحكمة لأن ما يُسمح به في مقام قد لا يُسمح به في مقام آخر، وفي هذا السياق قال سقراط حكمته الشهيرة: “تكلم كي أراك”[12].
3- مقام الشك:
يستحضر الشاعر في هذا النص نصا فلسفيا لديكارت يعتبر الشك منهجا للوصول إلى حقيقة الأشياء بما فيها الوجود، ويلخص ذلك في مقولته المشهورة “أنا أفكر إذا أنا موجود”، لكن في النص يستحضر مجموعة من النصوص والشخصيات تجمع بين الفلسفي الوجودي والديني الصوفي، فالشك عنده مرحلة يبحث فيها عن اليقين والتي يجدها في سبع سماوات، لقد تناص مع الفلسفة الوجودية ووظف شخصية الفيلسوف الوجودي ديكارت صاحب الشك المنهجي ووظف وظيفته المعروفة بالكوجيطو الديكارتي “أنا أفكر إذا أنا موجود”، لكن تناصه ينفي شك ديكارت ويرد عليه بأن علاقة العالم بالله علاقة أزلية سرمدية ويمكن تحديد بعض التقاطعات على الشكل الآتي:
- التقاطعات الفلسفية والدينية في النص:
1-4 الشك: وهو تعالق مع الفلسفة الوجودية واستحضار لوظيفة الفيلسوف ديكارت.
كثيرا ما أشك لماذا
يتحول فينا الإنسان إلى
حيوان، أو ربما إلى حجر..
فالشاعر يشك، لكن لا يعرف لماذا يشك. فالنص يمتص وظيفة ديكارت دون ذكره، لكنه يكيفها مع مقصديته، التي يهدف بها نقد الواقع الذي انتقل من طرح أسئلة نقدية من منطلق عقلاني إلى واقع تنتعش فيه الخرافة ويستحضر نصا خرافيا ليجاور نصا فلسفيا ليقدم في النهاية مزيجا ينتج نصا جديدا. إن الاعتقاد بأن الإنسان يتحول إلى حيوان وإلى حجر هو توظيف رمزي لما أصبح عليه الإنسان الذي يتحول إلى حيوان حيث يفقد إنسانيته وتتحكم فيه الغرائز الطبيعية دون مراقبة، ومن جهة يتحول إلى حجر؛ أي إلى جماد لا يحرك ساكنا. هذا التوظيف يرمز إلى أن الإنسان اجتماعيا يتحول ويتغير حسب مواقفه وينسى أصله وموقعه.
يستحضر بعد الشك وظيفة فلسفية للفيلسوف أرسطو دون أن يذكره أيضا وهذا يفتح أمام المتلقي متسعا للتأويل وللبحث عن التناص حيث يقول:
وينسى الهيولى الأولى.
و”الهيولى” كلمة يونانية تعني الأصل أو المادة “فكل موجود إنما هو هذا الجوهر الجزئي المشكل أمامنا من أي مادة كانت، ومن تم فقد ميز أرسطو فلسفيا بين مادة الشيء (التي عناصره المادية المكونة منها) وبين جوهره التي هي صورة محددة له بالفعل”[13].
واستمرارا في التناص مع الفكر الفلسفي يستدعي أنيكسمانس ليطرح عليه السؤال عن تحول الإنسان إلى حورية البحر ليجمع بين الأسطورة والفلسفة:
ألم يكن بوما يشبه حوريات
البحر يا نكسيمانس؟
أنكسيمانس الملطي Anaximane of Milet هو آخر فيلسوف معروف يمثل المدرسة الملطية أو الأيونية. وهو الذي خلف أنكسيمندرس في منصبه بعد موته نحو 546 ق.م. ولا يكاد يُعرف من حياته، إلا شيء واحد، هو أنه كتب بالنثر الأيوني بأسلوب مبسّط جداً…ويرى أن أصل الكون هو الهواء خلافا لما ذهب له طاليس بأن الأصل هو الماء[14].
إن حضور شخصيات ذات حمولة فلسفية: ديكارت، أرسطو، وأنكسيمانس تجعل المتلقي في هذا النص يعتقد أن الشاعر له إيمان بالفلسفة الغربية الوجودية والطبيعية منهجا للوصول إلى حقيقة الكون، لكنه سرعان ما يتناص مع النص الديني موظفا آلية النفي الكلي؛ حيث يقول:
حدقت في الأرض من برج
الشك؛
فكان الجواب من السماء السابعة
أدركوني يا عالم
فالصلة بين الله والعالم
أزلية .. سرمدية
أنا الذي يكره الشك يا
ديكارت
لأنك من صلصال
رغم منطق الكوجيطو
إن حضور النص الديني (القرآن الكريم) هو جواب عن كل الأسئلة التي طرحها ليجد مصدر جوابه في السماء السابعة، فقول الشاعر يتناص مع قوله تعالى” الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن”[15]، ويؤكد أن علاقة الله بالعالم أزلية سرمدية، ويعتبر ديكارت من صلصال ليتناص مع الآية الكريمة “خلق الإنسان من صلصال كالفخار” سورة الرحمن آية 14 خلق أب الإنسان، وهو آدم من طين يابس كالفَخَّار، وخلق إبليس، وهو من الجن من لهب النار المختلط بعضه ببعض[16].
فلسفة ديكارت:
“يرى ديكارت أن المادة والروح (أو العقل) هما مكونا هذا العالم والكون بأسره. فالأولى لا تفكر ولها كثافة وتمتد متحركة في مكان. أما الثانية، فتفكر ولها إحساس وإرادة وليس لها كثافة ومكان. كما أن هذين الحدين متنابذان ولا يؤثر أحدهما على الآخر بأي شكل كان. فالوجود إنما يتكون من هذه الثنائية المطلقة”[17].
تسمى تقنية التناص في هذه الأبيات بالتناص المضاد، إذ اعتبر ديكارت رغم أفكاره وتفسيره للمادة والروح على أن آدم عليه السلام هو أصل الإنسانية، خلق من صلصال؛ أي من طين. إنه ينتصر في الأخير لوحدانية الله وللقرآن الكريم، إنه تناص واع.
يستمر الشاعر عبد السلام فيزازي في تشكيل نصه، موظفا ثقافته الكونية دون التفريط في انتمائه وهويته العقائدية عندما يستحضر خطاب التطهير الذي يحيلنا مباشرة على مفهوم التطهير عند أرسطو الذي ينتج عند المشاهد أثناء متابعته للمسرحية ، لأن الأبطال تتقمص شخصيات، وتقوم بأفعال تثير الشفقة والخوف لديه ويتأثر بها وتطهر روحه من بعض السلوكات، علما أن التطهير معروف لدى الشعوب القديمة وتناوله الفلاسفة من منظور مختلف.
1- التطهير في النص الشعري:
أما كان عليك معذبتي أن تبوحي:
أن المعنى والذات شيء واحد..
فما أقسى أن لا تتطهر الذات من نفسها!
لست في حاجة إلى برهان يقنعني
أن كل الناس سيموتون
لكن أعلم أنني، سأكون أكثرهم موتا ..
2- التطهير عند أرسطو:
“يعتبر أرسطو Aristote أول من طرح التطهير بمعنى الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة، وذلك في كتبه: ”فن الشعر”، ”علم البلاعة” و”السياسة”، وقد حدده كغاية للتراجيديا من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الفرد المواطن. فقد ربط أرسطو بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل، واعتبر أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه”[18].
التطهير عند بريخت:
“من ينظر الى المنهجين يرى أن (برتولد بريخت) قد قطع كل السبل المؤدية الى التطهير, لكنه في الوقت ذاته اعتمد تطهيراً آخر جعله نتيجة لتطبيق نظرية الانعكاس ذات المرجعيات الماركسية من أن المسرح يقوم بواجبه في أن يعكس الواقع المعاش على الخشبة للعمل على تغييره وإصلاحه, بمخاطبة فكر المتلقي وإثارته وعدم تخديره وسلبه كما هو حاصل في المسرح الأرسطي”[19].
- التعالق بين النصوص الثلاثة:
إن التطهير في النص الأول نابع من الرغبة في التخلص من العذاب والمعاناة الناتجة عن الواقع المعيش، لكنه بنفس الممانعة والمواجهة بدون خوف وبدون أن يكون مصدره الشفقة الناتجة عن الفرجة، بينما الثاني مرتبط بلذة المشاهدة ومتعة المسرح. أما النص الثالث لبريخت فهو ينظر إلى التطهير من زاوية إيديولوجية ماركسية، وهذا المعنى أقرب إلى النص الشعري الذي يقدم فيه الشاعر نفسه من أجل التغيير دون الاكتراث بالعواقب التي تطهره من الهواجس والمثبطات ليصرخ بصوته الإبداعي في وجه الرداءة والتفاهة، وهذا ما يجعل المتلقي يستنتج أن الشاعر يواجه قيما تخرب المجتمع:
ربما من سلالة جابر عثرات الكلام.
التناص مع التراث العربي القديم.
فجابر عثرات الكلام في زمانه يكاد يشبه ذات الشاعر المعاصرة: فالأول قدم المعروف للعديد من الناس وأحسن إليهم بنكران الذات وأول من أساء إليه بعدما تدهورت أحواله وضاق عيشه هو أحد الأشخاص الذين أحسن إليهم والثاني يعيش زمانا لا يؤمن إلا بالانتهازية والغدر[20].
إن الشاعر يحافظ على تناغم إيقاعي وبنية جمالية عندما يستحضر الثقافة الإنسانية الكونية والثقافة الدينية بكل تلاوينها، مستحضرا الكتب السماوية لجميع الديانات:
قرأت رباه كل:
المصاحف
والإصلاحات
والتلموذ،
ومزامير داوود،
ونشيد الأناشيد..
قرأت.. قرأت
لكن.. !
أعترف أيها الشك أن
العقائد تؤلمني في صمت
يقودني بحثا عن الانسان..
من النطفة، إلى النطفة
ومن المضغة إلى العظام
وما بعده رباه، حين تكسى
لحما لتدخل محراب الشك…؟
قاتلوا عنك أيها الشك
أنت يا أنت،
امتداد للوصول إلى اليقين
ترى من سيقنعني بذات المعادلة،
ويكون اليقين ولد من ضلع الشك
إن هذه الأبيات غنية بالاقتباسات لعبارات تحمل حمولات عقائدية متنوعة. ترتبط بالديانات السماوية الإسلام والمسيحية واليهودية ، كلها تشكل فسيفساء مترابط ومتعالق بشكل فني وجمالي يعبر عن ثقافة الشاعر الشاملة وقراءاته الغزيرة للكتب المقدسة والأحاديث النبوية بحثا عن الحقيقة، التي يريد من خلالها الوصول إلى اليقين بروح صوفية تبحث عن الراحة النفسية في عالم فوضوي صاخب لا يوفر الطمأنينة للإنسان. وسنقوم بجرد الاقتباسات مع الإشارة إلى وظيفتها.
العبارة | مصدرها ووظيفتها |
المصاحف | م .مصحف يقصد به القرآن الكريم كلام الله تعالى هو المعتمد عند المسلمين |
الإصلاحات | أقسام الكتاب المقدس الانجيل |
التلموذ | كتاب اليهود المقدس |
مزامير داوود | مزامير داوود هي تسابيح لله، وضروب دعاء، وقد شبّه الرسول صلّى الله عليه وسلام حسن صوت داوود وجمال نغمته بصوت المزمار. |
النطفة إلى العلقة المضغة إلى العظام | https://cutt.ly/2XWfsh3 قال تعالى” خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما…” المؤمنون آية12-14. |
محراب | محراب مريم أو محراب زكريا، قال تعالى “كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب” سورة آل عمران آية37. |
نستنتج من هذا الجدول أن عبد السلام فيزازي كثف في هذا المقطع من استحضار الجانب الروحي، واستمر في ذلك في المقطع الموالي عندما ذكر حواء إشارة إلى المرأة المعاصرة وتبرأ من لعب “النرد” وهي لعبة القمار، المحرمة في الدين الإسلامي. قال تعالى “يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون..” المائدة، آية 90 .
عفوا حواء أكره لعب النرد،
والرهان بالأزلام،
تكمن طبيعة العلاقة التناصية للمعاني التي استحضرها الشاعر في النفي والتجاوز لبناء نص له عوالمه الخاصة، يعبر عن موقف الشاعر ليقطع الشك باليقين ويوظف العلوم الاجتماعية لإبراز موقفه من المرأة، موظفا آلية استدعاء خطاب نوال السعداوي وتثمينه بعدما اقتنع به دون الإشارة إليها بالاسم لتبقى هذه من مهمة المتلقي الذي يكون مجبرا للاطلاع على كتبها حول المرأة ومن بينهم كتاب “الأنثى هي الأصل”:
إلى أن غدوت أدرك
أن الأصل فينا
أنثى
والباقي مجرد فقاقيع صابونية… !
يسترجع الشاعر تفاعله مع النصوص الدينية لدحض الشك، ويؤمن باليقين في نفحة صوفية ويستدعي إسرافيل مع وظيفته (النفخ في الصور) لتأكيد يوم البعث وأنه لا مجال للشك.
أيها الشك، هل أصدق حين قال
البرق للرعد اتبعني
ولا حاجة لنا بصور إسرافيل..؟
فإسرافيل من الملائكة الموكول إليهم، بأمر الله، بالنفخ في الصور، فيقول تعالى “فنفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض، إلا من شاء الله..”، الزمر، الآية68. ويشير إلى الملائكة لكن بشكل رمزي للذين يحملون إيديولوجيات ويقصد بهم السياسيين الذين يُنظر إليهم كالملائكة في كونهم أبرياء ويتسمون بالنقاء والطهارة لكن الواقع يكذب ذلك.
فتعلمت جورا أن
الايديولوجيات مجرد بطاقات هوية
في جيوب الملائكة..؟
ويبقى مستمرا في باقي المقاطع ليكفر بالشك حينما أدرك حقيقة الأمور ليستدعي شخصية سليمان وشخصية بلقيس دون أن يغوص في تفاصيل قصتيهما وما وقع بينهما حتى جعلها تترك عبادة الشمس وتؤمن بعبادة الله وحده، وفي هذا المقطع يتناص مع ما ورد في القرآن الكريم “قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ”. سورة النمل، الآية 44.
فالشاعر في هذا المقطع يجعل الشخصيات التي استدعاها تحمل حمولة تاريخية ويوظفها لتخدم مقصديته بوعي لمحاكمة الواقع الذي نعيشه، وينفلت من قيود الواقع التاريخي للشخصيات ليبني علاقات أخرى فيما بين هذه الشخوص، وتعتبر بلقيس رمز القوة والنفوذ والسلطة، وسليمان رمز الحكمة والقوة والنبوة، وبينهما الصياد والهدهد مساعدان ومعاكسان لرغبتهما.
أنا الذي
رأى الصياد يرمي بشباكه
الممزقة في لجة سليمان
أنا الذي
لم يكترث ببلقيس حين
كشفت عن ساقيها
أتراه كان يحرس عزلته
كي لا تخرج من علب البلاغة
أم تراه يستقصي نبأ الهدهد
تفتح كثافة الرمزية وكثافة النصوص والشخصيات آفاقا للتأويل وتجعل من الرمزية خلفية لشعور الشاعر الذي يستحضرهم للتذكير بالماضي ولتوظيفه ليساهم في تنمية وعينا بالعالم الحديث بتشعباته وتناقضاته في عالم لا يستطيع الإنسان التعبير عن أفكاره بحرية ولا بالبوح بها، إن سليمان وبلقيس لم يحضرا في النص كما هما واقعا تاريخيا ولكن رمزيا خاصة أن الشاعر كان شاهدا على ما وقع بينهما، حيث رأى الصياد يرمي ثيابه الممزقة في لجة سليمان وهو الذي لم يكترث ببلقيس حينما رفعت ساقيها، وهذا يرمز إلى أن الشاعر لا تغويه فتنة جمال المرأة؛ لأنه منشغل بالإبداع الشعري، وبالبحث عن أجوبة لأسئلته الحارقة عن هذا الواقع المتشظي. إن حضورهما رمزي ويخدم رؤية الشاعر وتسهمان في تشكيل جماليته. لقد وظف الشعراء العرب شخصية بلقيس من قبل في سياقات متنوعة: في الخمرة مع أبي نواس، وفي المدح عند البحتري، في التصوف كما عند محي الدين بن عربي الصوفي، وفي الجمال كما عند أحمد شوقي وغيرهم، ويستدعي محمود درويش من خلال أرضها أرض بلقيس، ولكنه يسلط الدلالة على الهدهد المرتبط ببلقيس فيقول[21]:
لدينا كثير من الوقت يا قلب فاصمدْ
ليأتيك من أرض بلقيس هدهدْ
بعثنا الرسائل
قطعت ثلاثين بحرًا وستين ساحل
وما زال في العمر وقت لنشرد
وتشكل قصيدة نزار قباني الصورة المثلى للتناص مع ملكة سبأ بلقيس، خاصة أن إسم زوجته “بلقيس الراوي” حينما رثاها وتحسر لموتها في حادثة تفجير سفارة العراق في ببروت سنة1981، ولم يجد غير بلقيس ملكة سبأ ليستحضرها ويعبر من خلالها عن حسرته. المرثية جعلت من بلقيس التراثية أيقونة شعرية لبلقيس العراقية[22].
بلقيس
أيتها الشهيدة والقصيدة
والمطهرة النقية
سبأ تفتش عن مليكتها
فردي للجماهير التحية
نستنتج أن تحليل قصائد الشاعر عبد السلام فيزازي لا يتم بمعزل عن الواقع الثقافي والسياسي وعن التأثير والتأثر بالمحيط لأنه يبقى من الشعراء الذين يتابعون الحركة الشعرية والحركة النقدية الموازية لها، مما يجعله مواكبا في إبداعاته الشعرية للمتغيرات الناتجة عن تلك الحركات، ودائما يرتبط بالواقع، ولهذا نجده في نهاية القصيدة يستدعي سجنا من أبشع السجون وأقدمها في العالم.
لماذا أيها الشك الخارج
من قمقم الغمام
تعشق شكل العتاب
ألم تسقط يوما سهوا
مثل النيازك إلى أن صرت
مجرد مزهرية في سجن
لالكاتراس
إن استدعاء سجن “لالكاتراس” هو إشارة واضحة إلى أن التاريخ يتحرك وأن التغيير أمر حتمي. فهو استحضار لفضاء كان يمارس فيه القمع والتعذيب على كل مَن يعارض القانون، وكان يضم أخطر المجرمين، وبه حراسة مشددة، لكنه تحول إلى فضاء للسياحة، فضاء مرعب كان الناس يخشون سماعه والاقتراب منه، لكن الظروف غيرته وجعلتهم ينفقون المال لزيارته. إنه العبث. هذا ما يريد أن يعبر عنه الشاعر، كيف للإنسان أن تتغير مشاعره من اشمئزاز وكره إلى فضول ورغبة لرؤية الشيء ذاته. إنه استحضار رمزي للتعبير عن بشاعة الإنسانية عبر التاريخ وهو اقتصاد في القول دون الإطناب فيه.
إن استحضار سجن “لالكاتراس” أو “لالكتراز” بالإسبانية يتناص أيضا مع أفلام تم إنجازها عن السجن، منها أفلام وثائقية من طرف منابر إعلامية ووكالات الأنباء، ومنها الفيلم المشهور “الهروب من الكتراز1979” بطولة الممثل الأمريكي “clint eatswood “[23].
6- استنتاجات:
– يتضح أن قراءة هذا الديوان لا يمكن أن تحيط بكل النصوص الغائبة التي استدعاها الشاعر بوعي أو عن غير وعي، لهذا فإننا لا ندعي استحضار كل النصوص، إذ منها ما يظل غائبا في انتظار قراءات أخرى.
– إن ديوان “مدارج البوح” غني بالنصوص الغائبة، والتي ظفها الشاعر في سياقات متنوعة.
– يعكس الديوان شاعرية الشاعر وكثافة الرمزية التي أسهمت في جمالية النص الشعري وعبرت عن عمق شعور عبد السلام فيزازي عن الواقع المتناقض، وكانت النصوص باختلاف مرجعياتها تشكل نسيجا نصيا متسقا ومنسجما بفعل التوظيف الإبداعي لها، دون أن تُحدِثَ أيَّ نشاز، ولا أن يشعر المتلقي بأنها اقتطعت من سياقها التاريخي.
– لقد أبدع الشاعر في استحضار النصوص الفلسفية والدينية والتراثية، وجعلها متجاورة لتشكل فسيفساء لونت النص بألوان متنوعة خدمت جمالية القصيدة ومقصدية الشاعر.
– نستنتج أن ديوان “مدارج البوح” يقتضي من المتلقي أن يكون مطلعا على التراث العربي وعلى الفلسفة الغربية وأن يكون ملما بالثقافة المعاصرة.
(1) حسن، محمد، عبد الناصر: نظرية التلقي بين ياوس وازدار النهضة العربية، القاهرة، 2002.
[2]: محمد، مفتاح: المفاهيم معالم نحو تأويل واقعي ،المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ،ط2 2010. ص40.
[3]: البادي، حصة: التناص في الشعر العربي الحديث –البرغوتي أنموذجا-، دار كنوز المعرفة للنشر، عمان، 2009. ص104.
[4] : – جوليا كرستيفا: علم النص، ت. فريد الزاهي، دار توبقال، المغرب،1991. ص79.
[5]: – محمد، مفتاح: تحليل الخطاب الشعري “استراتيجية التناص”، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء، 1992، ص131.
[6]: .بوجملين ليوخ: التعالق اللغوي في مقام البوح للشاعر عبد الله العشي. مجلة الآداب واللغات-جامعة فاصدي مرباح، ورقلة، الجزائر ع7، ماي2008.
[7]: البادي، حصة، مرجع سابق ص106.
[8]: دبوان المهلهل، تح وتقديم طلال حرب-المكتبة الوقفية ن، أضيف بتاريخ 15/10/2008 ،شوهد بتاريخ 18/08/2022 . https://archive.org/details/waqdmr
[9]: ديوان ابن قزمان الفرطبي: “إصابة الأغراض في ذكر الأعراض”، ت. فيديريكو كورينتي، تقديم. محمود على مكي، المجلس الأعلى للثقافة، مصر،1995.
[10]: محمد سليم، الجندي: امرؤ القيس، مؤسسة هنداوي، صدر الكتاب1924 ونشر سنة1918 pdf https://2u.pw/OGLmg
[11]: سورة الأعراف آية185.
[12]: مهند طلال، الأخرس: دراسات وأبحاث في التاريخ والتراث واللغات، الحوار المتمدن “لكل مقام مقال”، نشر بتاريخ 10/10/2018 وشوهد بتاريخ 12/08/ 2022 https://2u.pw/BHzH8
[13]:مصطفى، النشار: فلسفة أرسطو والمدارس المتأخرة. متدى سور الازبكية، القاهرة،2006.
[14]: منتدى معرفة https://n9.cl/102a5
[15]: سورة الطلاق، الآية12.
[16]: مجلة القرءان الكريم https://cutt.ly/aXQ6x9R
17: مرجع سابق منتدى المعرفة.
[18]: مجلة نقاد: التطهير عند أرسطو، نشر 11/09/2013، شوهد بتاريخ 18/08/2022 https://cutt.ly/oXWyYHm
[19]: إيمان، عبد الستار عطا الله: مصطلح التطهير بين أرسطو وبريخت، مركز الدراسات والأبحاث العلمانية في العالم العربي، بتاريخ 16/023/2017 شوهد بتاريخ 18/08/2022.
[20]Https://cutt.ly/4XWgtct
[21]: ياسر، عبد الحبيب رضوان: بلقيس وجدلية التاريخ والدين والشعر، رابطة أدباء الشعر، شوهد بتاريخ18/08/2022 https://2u.pw/OwDt
[22]: مرجع سابق https://2u.pw/OwDtY