-1-
شكري المبخوت روائي وناقد تونسي، من مواليد سنة 1962، حاصل على دكتوراه الدولة في الأدب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية- جامعة منوبة. يشغل الآن منصب عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات في المؤسسة نفسها. وهو كذلك عضو هيئتي تحرير مجلتي: “إبلا” و“رومانو أرابيكا“. حصل سنة 2015 على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته “الطلياني“[1] التي ستكون محور الاهتمام في هذه الورقة.
تنقسم الحكاية في رواية الطلياني إلى اثني عشر فصلاً، تلخص مسار شخصية عبد الناصر الملقب بـ”الطلياني” لتشابهه مع الايطاليين في الهيئة والبنية الجسمانية. والطلياني شاب تونسي، نشأ في أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة خلال العهد البورقيبي، مع أبيه الحاج محمود ووالدته الحاجة زينب وأخيه صلاح الدين الذي يحضّر أطروحة دكتوراه في فرنسا، وأخواته الأربع: جويدة، ويسر، وسكينة، وبيّة. تنطلق الحكاية مع لحظة دفن الوالد الحاج محمود، وهي اللحظة التي سيعتدي فيها الطلياني على الدرويش علّالة المكلف بمراسيم دفن وتأبين الميت، حيث سيضربه الطلياني على وجهه بحذائه الصلب، ما جعل الأسرة تعود من المقبرة منكسرة وخائبة بسبب الفضيحة. وتجدر الإشارة إلى أن دوافع الواقعة لن نطلّع عليها إلا عند نهاية الرواية، كما سيتضح فيما بعد.
تعود الحكاية إلى الخلف لسرد طفولة الطلياني الهنيئة والدافئة بين أفراد أسرته، ولاستعادة مغامراته الجنسية مع جنينة ابنة ثري الحي الحاج الشادلي، وزوجة الدرويش علّالة. تنتقل الحكاية بعد ذلك، إلى مرحلة الدراسة الجامعية حيث سينتمي الطلياني إلى فصيل يساري راديكالي داخل حرم الجامعة، وسيدخل حينها، في صدام مع الطالبة والمناضلة زينة التي كانت تنتقد، بشكل لاذع، كل الفصائل السياسية في الجامعة، سواء كانت يسارية أو إسلامية. وبسبب التهديد الذي أصبحت تشكله انتقادات زينة، على حضور فصيل عبد الناصر داخل حرم الجامعة، فقد قرر أعضاؤه اغتيالها، إلا أن وقوع البطل في غرامها، سينقذها من الاغتيال، ومن عنف تدخلات رجال الأمن والمخابرات التونسية في حرم الجامعة. وهكذا ستنطلق علاقة البطل العاطفية مع زينة التي تعرضت في المراحل الأولى من حياتها للاغتصاب من طرف أحد أفراد أسرتها في القرية التي نشأت فيها، ما شكل بداخلها جرحاً عميقاً لم يندمل. ستتطور تلك العلاقة العاطفية إلى زواج، بعدما تخرجت زينة من مدرسة الأساتذة. اجتاز الطلياني بدوره امتحان الشهادة التكميلية بنجاح، وغادر الفصيل السياسي، وأصبح صحفياً ناجحاً في جريدة الحزب الحاكم، لكن استغراق زينة في أطروحة دكتوراه حول حنا أرندت، سيجعل علاقة الزوجين تفتر بشكل تدريجي، وهو ما دفع الطلياني إلى خوض مجموعة من المغامرات الجنسية رفقة نساء أخريات من أبرزهن نجلاء صديقة زينة.
تستعرض الرواية، من ناحية أخرى، جملة من التحولات الاجتماعية والتجاذبات السياسية داخل تونس بين مختلف الفرقاء السياسيين خلال الفترة الممتدة من السبعينيات إلى المراحل الأولى لانقلاب زين العابدين بن علي نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات. تستعرض الرواية كذلك، واقع الصحافة وحرية الرأي خلال فترة بورقيبة، وكيف ستزداد الأوضاع سوءاً بعد انقلاب زين العابدين بن علي، واحتكاره للسلطة في تونس. لم تستطع زينة مناقشة بحثها في رحاب الجامعة بسبب رفضها مضاجعة أحد الأساتذة الجامعيين، وهو ما جعلها تترك كل شيء، وتغادر صوب فرنسا لتتزوج هنالك بالباحث الفرنسي في علم الاجتماع إريك. ش الذي يفوقها سناً. أما الطلياني فقد غرق في اللهو والخمر والعلاقات الجنسية العابرة، حتى صادف ريم التي ستدفعه خلال إحدى الأمسيات الجنسية، إلى الدخول في حالة نفسية متدهورة، بسبب عجزٍ جنسي ناتج عن استحضار البطل لمحاولة اغتصاب تعرض لها في صباه، من طرف العِنّين علالة. وهنا يكتشف القارئ دوافع اعتداء الطلياني على الدرويش علالة يوم دفن والده، وكذلك أسباب ارتماء جنينة زوجة علالة في أحضان بطل الرواية.
يوظف الروائي في هذا العمل الروائي سارداً مشاركاً في الأحداث، وهو أحد أصدقاء بطل الرواية، ينقل أحداث الرواية بضمير الغائب، ثم ينتقل إلى ضمير المتكلم للحديث عن الوقائع التي شارك فيها، أو لتبليغ المتلقي بانطباعاته ومشاعره نحو ما تعيشه بقية الشخصيات، أو للبوح ببعض الأمور الشخصية المتعلقة بمشاعره تجاه زينة رفيقة الطلياني، أو ما يرتبط بأوضاعه الصحية كمعاناته مع مرض الحساسية. ومن ثم تكون الرؤية السردية المهيمنة في الرواية هي الرؤية المصاحبة؛ فإلى جانب مشاركة السارد في الأحداث، نجده ينقل مشاعر وأحوال بقية الشخصيات عن طريق ما يُروى له من قِبلها. وقد أتى السرد في هذه الرواية متداخلاً، حيث يكسر الفصل الثاني من الرواية (شعاب الذكريات) التوالي المنطقي للأحداث، باعتباره استرجاعاً تُستعاد فيه طفولة البطل والمراحل الأولى من شبابه قبل الالتحاق بالجامعة. وقد نَقل المؤلف أحداث هذه الرواية، بلغة متعددة المستويات والمدونات حسب وضعيات الشخصيات ومراتبها الاجتماعية والمعرفية، فنجد، مثلاً، لغة خاصة بمجال الصحافة، وأخرى مرتبطة بالسياسة، ولغة متعلقة بالفكر، ومدونة لغوية خاصة برجال السلطة، وغيرها.
– 2–
يعمل شكري المبخوت في هذا العمل الروائي على تخييل جزء مهم من تاريخ الحياة السياسية التونسية خلال حقبتي السبعينيات والثمانينيات، حيث يعمد إلى رسم ملامح الفسيفساء السياسية للبلاد بدقة خلال هذه المرحلة، بخاصة ما يتعلق بالتشكيلات السياسية داخل حرم الجامعة التونسية، من خلال تسليط الضوء على الفصائل اليسارية بشتى تلويناتها الحزبية المعتدلة والراديكالية على حد سواء، ثم الإشارة إلى بروز المد الإسلامي الإخواني، ومزاحمته لليساريين في الجامعة، وإرباكه للتوازنات السياسية في تونس. ويستعرض المؤلف ذلك الصراع الأيديولوجي المحموم بين شتى الفصائل السياسية، في ظل تحكم حزب الدستور في مجريات الأمور داخل البلاد، وفي مقدمتها المشهد السياسي، حيث يُبرز المؤلف مظاهر الحكم الدكتاتوري في البلاد، ودوره في مصادرة الحريات العامة، والتحكم في الصحافة، عبر تنصيب هيئات للرقابة، عيونها مسلطة على كل شاردة وواردة، ومقصاتها فاغرة أفواهها لقطع دابر كل ما يبدو ماساً بالنظام السياسي الحاكم، كما هو جلي في هذا المقطع السردي:
“عاين عبد الناصر لأول مرة في حياته كيف تكون الرقابة، خصوصاً أن الجريدة ملك للحكومة. ثمة شخص يقرؤها من الغلاف إلى الغلاف. حتى صفحة أخبار كرة القدم وصفحة الوفيات لا تنجوان من نظره الثاقب. فهو أعلم بمصلحة الدولة وأكفأ من يحميها. وكم من مرّة حذفت فقرة في آخر لحظة بعد جهد تضمينها وتصحيحها وتثبيتها في موضعها. لا يُدعى الصحفي للنظر في ما كتب بل يتم الأمر بين السيد الرقيب والمشرف على الطباعة. والحل دائماً موجود عند «المسؤول عن تشخيص مصلحة النظام البورقيبي العتيد» كما سماه عبد الناصر.” (ص. 149.)
والرواية من خلال رسمها للخطوط العريضة للمشهد السياسي التونسي انطلاقاً من فضاء الجامعة، وتسريدها لمظاهر القهر والتسلط الذي يمارسه حزب الدستور في شتى القطاعات، فهي بذلك إنما تحاول تتبع مسار تطور الحياة السياسية في تونس خلال المرحلة المذكورة، وإبراز كيفية تفاعل جيل السبعينيات والثمانينيات مع كل ما يعتمل داخل البلد، في ظل صراع أيديولوجي محموم بين أحزاب وفصائل اليسار من جهة، وحزب الدستور ذي التوجه الرأسمالي، ظاهرياً على الأقل، والإسلاميين من جهة ثانية. كما تتضح من خلال المسار السردي في الرواية، الكيفية التي انتقلت بها الدولة والمجتمع التونسيان خلال هذه الفترة، من استبداد إلى آخر أشد منه وطأةً؛ إذ ساد الاعتقاد بعد صعود ابن علي إلى سدة الحكم، أن الأمور ستتحسن، لكنها لم تسر إلا في اتجاه الأسوأ، عبر التشدد في إحكام السيطرة على الصحافة بشتى أنماطها، والعمل على نشر الرداءة والتفاهات عبر قنواتها. ومن ثم، يبدو أن هذا الانحدار الذي سارت فيه الدولة التونسية بقيادة حزب الدستور، كان لا بد أن يفضي إلى مخرجٍ معين، إما في اتجاهٍ سلبي أو إيجابي، ولعل ما سمي بالربيع العربي الذي انطلق من تونس، كان من نتائج سيرورة التسلط والقهر وسوء التدبير الذي عرفته الدولة التونسية، وهو ما لم تطرق بابه الرواية التي تركت النهاية مفتوحة على كل الاحتمالات.
وعليه يكون انفتاح الرواية على الموضوع السياسي وإشكالاته العويصة في تونس خلال مرحلتي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وتسريد الشخصيتين ومنحهما الأسماء المرجعية نفسها، مرتبط بشكل أساس، بهامش الحرية التي أتاحها ما يسمى بـ”الربيع التونسي” الذي تعد هذه الرواية ثمرة من ثمراته. وهذا الأمر دليل واضح على أن الأدب، والفن عموماً، لا يمكن أن يتفتح وأن يزهر خارج إطار الحرية.
– 3–
وكما تقوم الرواية بتسريد جزء مهم من التاريخ السياسي التونسي المعاصر، فإنها تعمل في الوقت ذاته، على تخييل مسار المجتمع التونسي خلال الحقبتين المذكورتين، من خلال رصد وتتبع تحولاته وهو يراوح خلال العهد البورقيبي، بين الثقافة التقليدية لدى جيل الاستقلال ونوع من الانفتاح لدى الجيل اللاحق. وتبدو الأسرة التونسية في الرواية، ممثلة في أسرة البطل، مستقرة، يتحكم فيها الأب الحاج محمود الـمُهاب الجانب من طرف بقية أفراد أسرته، وهذا الاستقرار ينسحب أيضاً، على العلاقات بين الأسر والعوائل التونسية عامة داخل المدن، ونموذج ذلك في الرواية، العلاقة بين أسرتي الحاج محمود والحاج الشادلي التي تطبعها، في غالب الأحيان، قيم التكافل والتعاون والاحترام المتبادل الذي لم يتأثر حتى ببعض الحوادث العسيرة من قبيل: فض صلاح الدين ابن الحاج محمود لبكارة جنينة ابنة الحاج الشادلي، حيث تم حل المشكلة في سرية تامة، ودون اللجوء إلى العنف، وحتى إلى الخيار القضائي، رغم ما ترتّب عن ذلك من مشاكل جمة لشخصية جنينة فيما بعد. وهذا ما يؤكد على السلطة القوية للتعاقدات الاجتماعية التقليدية التي تضمن الاستقرار والأمن والوئام في العلاقات الاجتماعية التونسية. أما ما يتعلق بالجيل الجديد المتمثل في شخصية عبد الناصر ورفاقه، فهو جيل ينزع نحو الانفتاح والتحرر من سلطة القواعد التقليدية، نتيجة الاحتكاك بالأفكار الكونية القادمة من وراء البحار، وفي مقدمتها أفكار اليسار سواء ما يتعلق منها بالممارسة السياسة، أو ما يرتبط بالجانب الفكري والنظري المحض؛ فالطلياني مثلاً، لا يصلي ولا يصوم، ويشرب الخمر بدون تحرّج، وينوّع ممارساته الجنسية خارج إطار العلاقة الزوجية بكل أريحية، وهو ما يبدو أمراً مستبعداً، وربما ممتنعاً لدى والده أو جارهم الحاج الشادلي اللذين يمثلان الجيل الأول الذي عاصر مراحل من الاستعمار ولحق بركب الاستقلال.
تُبرز الرواية في جانب آخر، المتغيرات التي حصلت في النسيج الأسري التونسي خلال مرحلة زين العابدين بن علي، حيث شهد المجتمع التونسي كما هو الشأن بالنسبة للواقع السياسي، تغييراً جذرياً وراديكالياً، تمثل في انتشار مجموعة من الظواهر في المجتمع التونسي وفي مقدمتها ظاهرة الأسلمة، حيث يُشار في الرواية إلى بداية تراجع تأثير المد التقدمي سواء داخل الحرم الجامعي أو في المجتمع، لصالح المد الإخواني والسلفي الذي بدأ يزحف في الساحتين السياسية والاجتماعية، وتم توظيفه من لدن النظام الحاكم لخلق نوع من التوازن السياسي والاجتماعي في البلد. إلا أن استمرار مصادرة الحريات العامة والقمع والفساد السياسي، ستفضي إلى انهيار منظومة القيم المجتمعية، وبروز مجموعة من الظواهر الاجتماعية السلبية، والتي تحاول الرواية تعقبها كما هو الشأن بالنسبة لانتشار الانحلال الأخلاقي والعنف والسرقة والجنوح، وانعدام الأمن في الفضاءات العامة، وذلك ما جعل سادة الأحياء الجدد، إما زمرة المنحرفين واللصوص وقطاع الطرق، أو جماعة الملتحين الذين يملؤون المساجد ليلاً ونهاراً. وهذا مقطع سردي يبرز هذا التحول الراديكالي الذي عرفه المجتمع التونسي بعد صعود ابن علي إلى السلطة:
“ففي الحي تغير المكان والناس. بدأ أهل الحي من العائلات الكبيرة الميسورة أو حتى من العائلات الفقيرة يغادرونه إلى أماكن وأحياء جديدة. ظهرت أصنافٌ أخرى من اللهجات ووجوه جديدة لا تسلك السلوك المألوف الذي تربى عليه أبناء الحي. فكنت ترى شباناً لا يميزون بين بنات الحي والبنات المارات صدفة من هذا النهج أو ذاك فلا يتورعون عن سب الجلالة أو التلفظ بنابي الألفاظ الجنسية التي تذكر الأعضاء التناسلية[…] سمع أهل الحي عن تواتر سرقات البيوت التي أصبحت تُغلّق بعد أن كانت مفتوحة طيلة النهار للجيران مهما تباعدت الديار[…] في آخر النهج يجتمع شبان يدخنون ويتحدثون في كل شيء بصوت مرتفع، حديثاً موشى بالبذاءات والسباب. ثم شيئاً فشيئاً، أصبح أهل الحي يرونهم يفتحون قوارير الجعة وأحياناً النبيذ الرخيص. يشربون جهراً أمام الكبار والشيوخ الذين يستعيذون بالله ويحوقلون ويلعنون ولكنهم لا يقدرون على الحديث إليهم أو دعوتهم إلى احترام الحي وتقاليده[…] تطور الأمر إلى شبكات وعصابات تتاجر بالخمور خلسة وتبيع أصنافاً من الحشيش “الزطلة” والأقراص المخدرة وتخيف الفتيات من الخروج حين يبدأ الظلام يخيم صيفاً أو شتاء. فللحي سادة جدد سرعان ما التحق بهم فريق من الملتحين الذين استعمروا مسجد الحي فأصبح عامرا طيلة اليوم.” (ص. 267- 268.)
كل هذه الفوضى وهذا الاضطراب السياسي في تونس، أفضى إلى فقدان المجتمع التونسي للبوصلة، بسبب عدم وضوح وجهة البلد الذي خرج من حكم مستبد ودخل آخر أشد قسوة منه، وذلك ما أفرز فيضاً من اليأس والإحباط الذي أغرق المجتمع في الفساد الاجتماعي والأخلاقي مع انتشار فاحش لظاهرة الرشوة وشيوع الرداءة والانحطاط في شتى الميادين، وفساد المؤسسات التربوية كالجامعة، وذيوع سلوكات مشينة كاغتصاب الأطفال والدعارة بشتى أشكالها وأصنافها، بما في ذلك الدعارة الراقية الموجهة للطبقة السياسية الحاكمة، وكان ممن انجر إلى هذا العالم المثير نجلاء صديقة الطلياني:
“احترفت (نجلاء) العهر ببطاقة شبه رسمية. أصبحت تلعب في ميادين واسعة مع قروش كبيرة في المال والسياسة. صارت المفضلة لدى المناضلة الكبيرة في جمعية الأمهات، تدفعها إلى أن تكون أماً لكل يتيم من أبناء بن علي تساعده حتى يؤدي مهامه الجليلة من أجل الوطن في دولة التغيير المبارك والعهد الجديد السعيد.” (ص. 294.)
– 4–
وإجمالاً يبدو أن الغاية الأساسية لتوظيف المعطيين السياسي والاجتماعي في الرواية، هو كشف هذه التحولات العميقة التي شهدها المجتمع التونسي منذ بداية سبعينيات القرن الماضي إلى حدود انقلاب زين العابدين بن علي على الرئيس الأول للبلد الحبيب بورقيبة. وهي مرحلة متوترة وقلقة في تونس كما يتضح ذلك في الرواية. ويتجسد قلق السياسة والمجتمع في تونس، إضافة إلى حضورهما في هذا العمل كمعطيين مستقلين، في بطل الرواية الذي انتقل من الالتزام الأيديولوجي الصارم إلى الارتماء في أحضان حزب الدستور كصحفي في جريدته، حتى يكون ناطقاً بلسانه ومبرراً لسياساته المستبدة والقهرية، بعد سنوات من النضال ضدها. وما الإحباط والضياع اللذان تعرضت لهما الشخصية في نهاية الرواية، إلا إحالة على ضياع دولة ومجتمع برمته، بعد صعود ابن علي إلى السلطة، حيث فقد النضال السياسي كل معنى له بسبب سطوة حزب الدستور، واتساع الهوة بين واقع الدولة وأحلام اليسار السياسي، خصوصاً بعد الحضور الملفت لقوى الإسلام السياسي في الساحة التونسية. ينتهي بطلا هذه الرواية (الطلياني وزينة) إلى الضياع والشتات مؤشرين بذلك إلى حجم الفوضى والعماء الذي اكتسح الدولة والمجتمع التونسيين خلال المرحلة المسرّدة في الرواية، مخلفين تساؤلاً عريضاً عن مآلاتهما، وعن مصير بلدٍ بلغ ذروة التأزم، ووقف عند حافة الانفجار.