تمهيد:
الشّعر من الشّعور وهو فعل تعبيريّ لغويّ بالأساس لكنّ منطلقه وقادحه شعور باطنيّ خالص يتأسّس على التّفاعل بين الإنسان وأحاسيسه وبين الإنسان ومحيطه: هذا التفاعل قد يكون تفاعلا باطنيا/داخليا فيه جملة من الأحاسيس والغرائز والملكات، أو يكون تفاعلا خارجيّا مع المحيط والواقع، أي مع الأشياء الخارجة عن الذّات المبدعة.
إن منطلق الفعل الإبداعي هو جملة من الأحاسيس والمشاعر الداخليّة المبهمة التوّاقّة للإفصاح والكشف بهدف التصعيد أوّلا، والتخلّص من الأعباء التي قد تسكن الذات المبدعة. والتصعيد هنا تصعيد جماليّ، وهو تحويل وإعادة تشكيل للواقع أو الدواخل المُعتِمة وهذا ما يؤكدّه “تزيفيتان تودوروف” بقوله: “الأدب بإمكانه تحقيق الكثير بإمكانه أن يمدّ لنا اليد حين نكون في أعماق الاكتئاب، ويُعينننا على أن نحيا، كما يستطيع أن يحوّل كلّ واحد منّا من الدّاخل”.
الشعر بهذا المعنى هو اليد التي امتدّت لتنتشلنا من واقع اكتئابنا أو واقع سعادتنا أيضا، لأن الذات المُبدعة بطبعها ذاتٌ شفّافة قد تخدش بلّورَها ريح الحزن أو تذهب بها نسمات الفرح والعشق الطفوليّ. ودور الشعر هنا هو تحويل تلك المشاعر الذاتيّة إلى مشاهد وصور أكثر موضوعية برغم ذاتيّتها، وأشدّ جماليّة رغم أوجاعها في أحيان كثيرة، فمتى نجح المبدع في تحقيق هذا صار المنتج الإبداعيّ -على جماليته- منتجا معرفيّا يُدرك من خلاله الإنسان إنسانيته، وهذا ما يذهب إليه “سعيد الفراع” حين يقول: “الأدب هو الشكل الأكثر انفتاحا لمعرفة الإنسان بواسطة الإنسان”. وهذه المعرفة مشروطة بقدرة الشاعر أو الكاتب على الإفصاح عن دواخله ليمسّنا بناره فنأتي منها بقبس.
وبسبب تلك الشّفافيّة والحساسيّة الخاصة المرهفة والخيال الخارق ينجح الشّاعر عادة في تحويل حزنه وآلامه إلى مادة إبداعية على عكس الإنسان العاديّ الفاقد للإبداع، أو غير المدرك للطاقات الإبداعية الكامنة فيه، و لكنّه في الآن نفسه لا يتألم أو يحزن بمعزل عن آلام الآخرين؛ لأنّ الدّور الموكول له “هو أن يتكلّم مكان الذين لا يستطيعون ذلك”. وهذا ما يبرّر وجوده على حدّ تعبير “ألبار كامو”؛ لهذا فحزنه وألمه مقرون بأوجاعه وأحزانه أوّلا، وفي علاقته أيضا بلحظته التاريخية، ومحيطه الاجتماعيّ، والسّياسي وآلام وهموم الإنسانية في مُطلقِها. فالشّاعر هنا “يحوّل ألمه إلى فلسفة في الحياة وإلى تفكير واسع فيما يلاحقها من نعيم وبؤس وسعادة وشقاء؛ فالألم لا يتحوّل إلى نفسه، والحديث عن أوجاعه، وإنّما يتحوّل إلى الحياة البشريّة كلّها، وما ترتطم به من صخور الشّر والظلم الصّارخ”.
تيمة الحزن و الشّاعريّة الطافحة:
في أفق حداثيّ يلهج بروح العصر طغت تيمة الحزن على “القصائد الحزينة” وهي المجموعة الشعريّة الثانيّة من ثلاثيّة للشّاعر محمد الخامس بن لطيف موسومة بعنوان جامع “مرافئ الحزن البعيدة”، وبعيدا عن المجاز أو الاستعارات جاء عنوان المجموعة صريحا مؤكدّا عن الحزن الطّاغي على حيوات الشّاعر، فالشّاعر المسكون بالشّعر فردٌ متعدّد في حالات وعيه بالوجود في مقابل النصّ الطّافح والمشغول بالمنشود بالمرافئ البعيدة التي لا يملك غير التجديف نحوها.. نحو ضفّة المعنى وهي سدرة لا فجيعة فيها.
محمّد الخامس بن لطيف كأيّ شاعر معاصر، يعيش الفجيعة بكامل تجلّياتها وبواعثها:
– فجيعة “رحيل الحمام” – والقول لنفس الشّاعر- والقصد رحيل الأحبة..
– فجيعة “الواقع المحكوم بالتناقض الصارخ”، والمقولة لعلي أحمد سعيد “أدونيس”، في كتابه زمن الشّعر.
– فجيعة التخلّف و” السقوط من التدنّي”، والقول للشّاعر جمال الصليعي .
هذه الفجيعة المتعددة في مستوياتها الذاتية والموضوعيّة جعلت الشّاعر يتأرجح في تمزّقه بين ذاته المكلومة ونظام الوجود الخارجيّ الأكثر مدعاة للحزن والبكاء.. البحث هنا عن التوازن غاية لا تدرك في ظلّ الفقد “فقدان من نحبّ”، وفي ظل النظام الخارجيّ الموبوء الذي يعمّق الفاجعة ويدفع الشّاعر نحو اليأس، ففقدُ “محمود درويش” مثلا، جعل الشّاعر يفقد كلّ نقاط الارتكاز؛ فلا الجنوب جنوب ولا الشمّال شمال:
سيّدي ضاع نصفنا فيك
ونصف يكابر أن لا يضيع
وألاّ يوارى وراء احتمالٍ ضئيل..
برغم الضياع ورغم التفجّع الذي يطفح به الدّيوان لم يسقط الشّاعر في البكائيات الكربلائيّة، واللطميّات الفاقدة لروح الجمال، ولم ينخرط في مقتضى الأغراض الكلاسيكية؛ كأن يجعل القصائد تدور في فلك الرثاء أو التأبين لوعيه بأن النصّ الحديث نصّ جامع متعدّد الأغراض والمضامين. تلك الحداثة التي تسكن شاعرنا و يحاول أن تكون جميع كتاباته الفصيحة والعاميّة في سياقها. لا بل تشهد القبيلة التي عرفت الشعر الشعبيّ من أمد بعيد، (وأقصد هنا المرازيق) أن محمد الخامس يكتب نصّا شعبيّا مختلفا.
بروح العصر يُربِك سير القوافل المشدُودة لأطناب البداوة، هذا الإرباك مردّه وعي عميق بأن الشّعر ابن بيئته و لحظته التّاريخيّة، ولكن الحداثة ليست أرنبة بيضاء نُطلقُها في صحراء النصّ؛ لنثبت للعالم أننا نكتب نصّا حداثيّا، وهذا ما يؤكده إسماعيل عزّ الدين حين يقول: ” ليس المجدّد في الشّعر إذًا هو من عرف الطيّارة والصاروخ، وكتب عنهما، فهذه في الحقيقة محاولة عصريّة ساذجة.. فليس المهِم بالنسبة للتّجديد هو ملاحظة “شواهد” العصر، ولكنّ المهِمّ هو فهم “روح العصر”. ونزعم أن الحزن سِمة من سمات العصر أدركها شاعرنا، فكتب في سياقها مجدِّدا، والجدّة تجلّياتها كثيرة، وأوّلها، كما ذكرنا سابقا، النّصوص الجامعة المتعدّدة في مضامينها، برغم الحزن الطاغي عليها؛ فحُضور النّهد والبنفسجة في نصّ متفجّع طرافة و جدّة و حداثة:
و أنت الحكايا المُريبة
عن نهدها الملكيّ
تتثائب في الصبح كسلانا
مثل بنفسجة تستفيق
في مدوّنة الشعر العربيّ و في غرض الرثاء تحديدا يحدث –مجازا- أن يُرفع الشّاعر من مقام المرثّيّ إلى سدرة الأنبياء أو الشّهداء لأن الغرض بالأساس يقوم على ذكر المناقب و تعداد المكارم و الصّفات المحمودة، ولأنّ محمد الخامس بن لطيف شجرة متجذّرة في حضارتها التي كان الشّعر نتاجها الأوّل؛ كان من الطبيعيّ جدّا أن يكون متّبعا في رفع مقام شقيقه “برهوم” إلى: سدرة الأنبياء فيقول:
تنزّل آياتك البيّنات
تقرع أجراسهنّ بقلبي
لكم شدونا بها في المغيب
و صلّينا فيها وقوفا
وغيرنا صلّى بِجعجعة و نهيق..
هذا الاتّباع في مستواه الأوّل وبالنصّ نفسه مقرون بإبداع وتجديد في مستواه الثّاني؛ لأن الرّفع إلى مقام الأنبياء يفترض التجاوز، وعدم النّزول إلى مرتبة أقلّ، وإن كان المقام هو مقام شهداء وهم أكرم منّا جميعا فيضيف الشّاعر :
ولست أراك شهيدا
و لكنْ يتوق إلى موتك الشهداء
ما سبق بعض الشواهد على شاعريّة الحزن المتعلّق بالبواعث الذاتية كــ”رحيل الحمام” أو فَقْد الأحبة الأقرباء، والمقام لا يتّسع لتقديم كلّ النصوص، ولكنّ تجلّيات الحزن المتعلّق بنظام الوجود الخارجيّ كثيرة أيضا و تحتاج ملامسة سريعة ندرك من خلالها حجم الفجيعة التي يعيش على وقعها الشّاعر، ونقف على شاعريّته، فعبر استفهام استنكاريّ و في مناخ صوفيّ خالص يتفجّع الشّاعر قائلا:
من أين سيعرفُ أن القاتل في السترة؟
والمقتول صباه
من أين؟
وهذا الدمّ بلا ثأر
والجند يريك قفاه؟
القول بوجود القاتل في السترة قول صوفيّ يحيل إلى نصّ غائب/ قول غائب: “ما في الجبة إلا الله” للحلاّج. ويُجمِع النقّاد هنا أن النصّ الفاقد للنّصوص الغائبة نص خاوٍ لأن النّصوص الغائبة تجعل النّص مشحونا بالدّلالة، وهي دليل امتلاء الذات المبدعة؛ فلهذا السّبب طُلب من المُريد السّاعي لحمل لواء الشّعر أن يحفظ آلاف الأبيات ثمّ ينساها. و لكنّ حضور النصّ الغائب هنا لا ينفي طرافة الصورة الشعريّة المبتكرة التي صار فيها القاتل جزءاً من المقتول، وصار المقتول طفولتنا الضائعة.
و في صورة شعريّة أخرى منسوبُ الحزن فيها شبه معدوم، ولكنّ شاعريتها عالية يقول فيها:
..كان الفجْـرُ من قدميْه
ينسـلُّ ويبتـدرُ..
هذه الصورة الشعريّة المركبّة تنمّ عن شاعريّة واعية بأسطورة البعث العشتاريّ في مستواها الأوّل؛ إذ يبعث فيها الفجر الخصبَ من أقدام الحبيب، وتحضُر فيها الاستعارة في مستواها الثاني؛ إذ ينسلّ الفجر كسيف من غِمده المُعتِم – وهو اللّيل- و يبتدر والابتدار هو المعالجة و الهجوم السّريع.. الصورة الشعريّة عميقة بعمق جراح شاعرنا المتفجّع، لكنه برغم فجيعته وحزنه نجح محمد الخامس بن لطيف في تحويل أحاسيسه الباطنية إلى مكامن للجمال.
خاتمة:
هذه “الإطلالة على مدارات” محمد الخامس بن لطيف، إطلالة متسرّعة لا يتّسع المقام فيها لدراسة أو تقديم جميع النّصـوص الشعريّة الطّافحـة بالشّـعر؛ فهي تحتاج إلى وقفات بعَتباتها، لكنّ عطر الشعر فيهــا -بمنسوبه العالي- يجوس بالأرجاء.