الأجناس الأدبية:
هي تصنيفات معيارية وتنظيمية، تقوم على تقسيم النصوص الإبداعية استنادا على أدوات فنية، شكلية في الأغلب، هدفها الأساس تحديد هوية معينة للنص الإبداعي، والتي بدورها، أي الهوية، تساهم في تنظيم العملية الإبداعية من جهة، وتسهل عملية رصدها ودراستها نقديا، وتوقع تطوراتها المستقبلية من جهة أخرى. وقد تكون هذه الأدوات الفنية المحدِّدة للجنس الأدبي واضحة فاصلة مانعة، كما هو الحال في القصيدة الكلاسكية، وقد تكون واسعة الأطياف وقابلة للنقاش، كما هو الحال في الرواية الحدثية، أو القصة القصيرة جدا، أو قصيدة النثر.. ومن المعلوم أنه كلّما زاد وضوح الأدوات الفنية المشترطة للجنس الأدبي ازدادت الصنعة على حساب الإبداع، وكلّما زاد طيف هذه الأدوات اتساعا ازدادت فرص الإبداع.
إن أول من جنّس الأدب ونظّر لهذه الفكرة بوضوح هو – بلا شك- أفلاطون، الذي قسّم النص الإبداعي إلى شعر مسرحي يستند إلى الحوار، وشعر سردي، وشعر ملحمي يحتمل السرد والحوار. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا تكاثرت الجدالات والحوارات حول تجنيس الأدب، بين مناصر ومشكّك ومعارض.
استنادا على أدوات البحث العلمي، يتم استكشاف الجنس الأدبي وتحديد أدواته الفنية بطريقتين: الأولى هي الطريقة الاستقرائية، وتعتمد هذه الطريقة على وصف الظاهرة استنادا على الدراسة الدقيقة للتجارب الموجودة فعلا، واستخلاص الأدوات الفنية المشتركة التي التزمت بها هذه التجارب؛ وهذا ما قام به أفلاطون وأرسطو ورواد الكلاسيكية الحديثة، وهو أيضا ما قام به الفراهيدي عندما وضع علم العروض لوصف الأسس الشكلية للقصيدة العمودية. وقد يتعدى الباحث الطريقة الاستقرائية إلى الطريقة الثانية وهي الاستنباطيّة، وتتعدى هذه الطريقة مرحلة الوصف إلى الاستنتاج المستقبلي للظاهرة ومحاولة تطويرها، استنادا على تحليل أسباب وجود الظاهرة الأدبية وطرق تطورها، وهذا ما حاول فعله منظّرو الكتابة الحديثة، كقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، والقصة القصيرة جدا والرواية الحديثة وغيرها .
تحاول نظرية التجنيس منذ ظهورها حتى اليوم، تسهيل العلاقات بين المبدع والناقد والمتلقي وتنظيمها؛ لذلك فهي تستند في تصنيفاتها على ما يحقق هذه الأهداف، وليس على التقسيم من أجل التقسيم؛ فهنالك العديد من الأسس التي يمكن التقسيم على أساسها، لكنها لن تحقق الفائدة المطلوبة كما تحددها نظرية التجنيس، فيمكن لنا وبسهولة إشراك عدة نصوص في فئة واحدة لاشتراكها بجزئية معيّنة، فنقول مثلا يمكن القول إن قصائد المعري، طواسين الحلاج، فتوحات ابن عربي، مواقف النفّري، رواية ابن طُفيل، الأطروحات الفلسفية، أراجيز المنطق؛ كلها تندرج تحت الأدب الفلسفي، ولكن ما القيمة العملية والنقدية لتقسيم كهذا؟ وما الأسس الفنية التي يحتاجها الكاتب للكتابة تحت هذا الجنس الأدبي؟ إذا افترضنا جدلا صحة مثل هذا التقسيم قياسا بنظرية التجنيس الأدبي .
إشكاليات التجنيس الأدبي :
بالرغم من الفوائد الجمّة التي تحققها نظرية التجنيس، كما يرى مؤيدو هذه النظرية، هنالك الكثير من الإشكالات يثيرها معارضو هذه النظرية.
- إن أسباب تشابه الأدوات الفنية، ناتج عن الظروف الزمانية والمكانية التي تتأثر بها النصوص الإبداعية، يسميها (ابن سنان الخفاجي) الذائقة؛ فيقول: “والذائقة مقدمة على العروض، فما صح فيها لا ينظر إلى العروض جوازها”، ويسميها (كارل يونغ) الوعي الجمعي، الذي يتأثر بالخبرات السابقة ويتوقع الأهداف، وتسميها النسبية الإحداثي الزمكاني؛ وذلك يعني بالضرورة عدم ثبات تلك الأدوات الفنية المحدِّدة للجنس الأدبي ثباتا مطلقا، من هنا سيكون -على الدوام- مشروعية لأي تجنيس جديدـ من حيث الإمكان- يمكن تقبّله أو الاعتراض عليه استنادا على مدى إبداعيته وانسجامه مع الظروف الموضوعية المحيطة، وليس استنادا على سلطة الأجناس السابقة له.
- هنالك تناقض منطقي وجدلي بين فكرة الإبداع وفكرة التجنيس، فالإبداع بمعناه الفلسفي العميق، هو مكنون الذات المعبّر عن العلاقات العمقية للواقع والاستشراف المستقبلي لهذه العلاقات، والثورة على القائم نحو التجديد المستمر، وهذا يتناقض مع الثبات الشكلي للنص المعبّر عن الحالة الإبداعية، لهذا يقول (رولان بارت): “إن الإبداع هو خلخلة الأشكال السابقة، وليس محاولة التوافق معها”، وهنالك تجارب إبداعية كثيرة أثّرت في التجنيس والذائقة العامة، لمدى عمقها الإبداعي، نذكر منها – عربيا – ، نصوص المتصوفة، ونذكر –عالميا- مسرحية في انتظار جودو التي حطّمت أسس المسرح الكلاسيكي، وأسّست لمسرح اللامعقول.
تداخل الأجناس الأدبية
إن أحد أهم العناصر التي أفرزتها نظرية الأجناس الأدبية، منذ فجر التاريخ الإبداعي للإنسانية وحتى بدايات عصر النهضة والكلاسيكية الحديثة، هي سلطة النص الشكلية، أي افتراض مثالية الأداوت الفنية التي تحكم النص الإبداعي، بالرغم من كل الأهداف السامية التي تدعو لها. ومما هو ظاهر للعيان أن تلك النظرة التي كانت سائدة طوال تلك الحقبة الطويلة من الزمن، كانت منسجمة بشكل كبير مع النظرة المثالية للعالم والقيم العليا كما مدينة أفلاطون، ومنسجمة أيضا مع تأثير الطبيعة على الإنسان لبساطة البيئة خارجا عن حدود التعقيدات التقنية والتكنولوجية.
منذ عصر النهضة وحتى الآن كان هنالك تغيرات كبيرة على المستوى الإنساني وواقعه الحضاري، فكانت الثورة الصناعية والتكنولوجية، وأيضا الثورة المعلوماتية وغزو الفضاء، ورافق ذلك تغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية بذات التسارع، مما أدى إلى تغير نظر الإنسان للوجود وللواقع الموجود، وبالتالي كانت الحاجة ملحّة لإعادة النظر في شكلية ومضامين الإبداعات المعبّرة عن الواقع وعصرية الإنسان داخل هذا الواقع؛ فظهرت الكثير من النظرات الفلسفية والأدبية والنقدية، في محاولة للإنسجام مع تلك المتغيرات شديدة السرعة، فعلى سبيل المثال ظهرت الوجودية، الديالكتيك وإعادة بعث منطق الجدل على يد هيغل، المادية، النسبية التي حطّمت الكثير من قواعد النظرة المثالية. وعلى صعيد النظرات الأدبية/الفنية ظهرت الواقعية، الرومانسية، الانطباعية، الرمزية السوريالية …الخ ، وعلى الصعيد النقدي، ظهرت الشكلانية السيميائية/البنائية والبنيوية التكوينية، التفكيكية، إضافة لمدارس التحليل النفسي والاجتماعي…الخ..
إن كل هذه الضجة التي حدثت على المستوى الإنساني، أوجدت صراعا كبيرا حول شكلية الإبداع وأهدافه، فكان المحور الأهم في هذا الصراع هو نظرية الأجناس الأدبية بين مدافع و متحفظ ومهاجم، وكان من أهم من دافعوا عن قدسية الأشكال الإبداعية وحاولوا إحياء النظرة الإغريقية للفن والأدب هم رواد الكلاسيكية الحدثية، أمثال نيكولا بوالا وت . س أليوت وأ. ريتشاردز وشكسبير وغيرهم، وهنالك من حاول إيجاد نظرات توفيقية كالشكلانيين الروس، وهنالك من وقف موقف المعارض والمهاجم أمثال برونر، كورتشه، دريدا، وبارت.. إلخ؛ فكان من أهم نتائج هذه الصراعات ظهور مفهوم تداخل الأجناس الأدبية، والذي يقصد به خلخلة أو تحطيم القدسية الشكلية الموهومة لصالح الإبداع بحسب تعبير بارت.
وصل هذا الصراع متأخرا إلى البيئة العربية، منذ نهايات القرن ما قبل الماضي، عبر حملات المستشرقين والترجمات وشعراء المهجر، فكان هناك صراع كبير، موازٍ للصراع في الغرب، يتمحور في جوهره حول شكلية الشعر وأهدافه، فظهر المدافعون عن مثالية الشكل التقليدي للشعر أمثال: أحمد شوقي، محمود سامي البارودي، حافظ إبراهيم، معروف الرصافي ..إلخ، وظهر الكثير ممن حاولوا الثورة –وبمستويات مخلتفة– على قدسية الشكل:
دعا أمين الريحاني إلى ما سمي بالشعر المطلق، حيث قال بضرورة التحرر من أشكال النظم القديمة خصوصا القافية؛ فيقول: “إذا المشكلة تغيرت فإن على الشاعر أن يغير طريقة تعبيره؛ فلا يمكن التعبير عن مضمون جديد بشكل قديم فتغير المضمون يستدعي تغير الشكل”.
دعا جرجي زيدان إلى إعادة تعريف الشعر، فهو يرى أن الشعر معرف بلفظه لا بمعناه، بينما يجب إعادة تعريفه ليكون معرفا بمعناه لا بلفظه.
جماعة الديوان ( عباس محمود العقّاد، وعبد الرحمن شكري): دعوة لرفض النموذجية، وتحقيق شعر يتآلف مع الزمان والمكان.
حركة أبوللو (خليل مطران، أبو شادي،أبو القاسم الشابي ..وغيرهم) ، تمثل هذه الحركة كما يقول أبو شادي: طلاقة الفن.. ومآل هذه الحركة أن تنهض بالشعر العربي في غير حدود. ويقول خليل مطران: “يجب أن لا يتأثر التعبير بضرورات الوزن والقافية؛ فتحرف الشعر عن مقصده، أو تجعل الشاعر يلجأ إلى الصنعة، أو التكلف شأن الشعراء الذين يُسمّوْن “عبيد الشعر”..
شعراء المهجر (جبران خليل جبران، مخيائيل نعيمة، نسيب عريضة، إيليا أبو ماضي ..وغيرهم )، وهم رواد الرابطة القلمية، و رواد الشعر الرومنسي أو ما سمي بالشعر المنثور.. يقول جبران خليل جبران: “إن الوزن والقافية قيدان على الإبداع، وأنا بنفسي سوف أبدأ في التخلص من هذه القيود، وأكتب شعرًا يلائم الواقع الذي أعيش”.
رواد قصيدة التفعيلة ( نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب)، الذين نادوا بالتفعيلة العروضية كأساس جوهري للكتابة الشعرية ، بدلا من عمود الشعر .
مجلة (شعر ) ورواد قصيدة النثر (يوسف الخال، أدونيس، محمد الماغوط، أنسي الحاج، سنية صالح)، الذين نادوا بالتخلي عن الوزن والقافية وكتابة الشعر عبر تفعيل سحرية الإيقاع الداخلي، في محاولة للانسجام مع الواقع الحضاري المعاصر.
يقول ادونيس: “التراث الحقيقي هو التغيير، ولهذا كان تمسك الإنسان بتراث لا يتغير دليل على أن هذا الإنسان فقد القدرة على تجديد نفسه، وأصبح في مستوى الأشياء”.
بهذا نرى أن تداخل الأجناس الأدبية هو تعبير عن حاجة المبدع المعاصر إلى تطويع الأدوات الفنيّة بما ينسجم مع الواقع المعيش، بافتراض أن حدود الجنس الأدبي خارجة عن دائرة القداسة، وليس الأمر مجرد تجريب مجاني، أو توفيقا شكليا، ويعبّر إدوراد خراط عن هذا المفهوم (تداخل الأجناس ) أهميته و أهدافه، وعن مرحلة متقدمة من هذا التداخل، تمثل تداخلا متكافئا لكل أو بعض الأدوات الفنية للأجناس الأدبية ضمن مرحلة متقدمة جدا، يسميها بالكتابة عبر النوعية فيقول:
“لا أعني أن يقوم المبدع بإقحام إحدى منجزات أو تقنيات فن ما أو نوع أدبي ما بجانب الأنواع الأخرى؛ بحيث ينشأ نوع من التجاور فقط أو النتوء أو النشاز، بل أعني شيئا صعبا ونادرا أيضا هو تمثل واستيعاب هذه المنجزات المختلفة من الأنواع الأخرى، ومن الفنون الأخرى تمثلا واستيعابا تامين، ثم صهرها وإدراجها في هذه الكتابة؛ بمعنى أنه حتى مع استيعاب وتمثل منجزات هذه الفنون الأخرى إذا كانت السردية غالبة على النص، فهو ينتمي إلى القص أو الرواية، وإذا كانت الإيقاعية غالبة على النص، ولو كان فيه سرد أو غيره من منجزات الفنون الأخرى فهو شعر. أما إذا غلبت الحوارية على النص فهو مسرح، وإذا غلبت المشهدية على النص فهو سينما. ولكن قد يحدث، وهذا أمر نادر جدا وصعب جدا، أن تتوازن هذه المقومات وتتكافأ، بين الايقاع والسرد والحوار.. إلخ.. كلها أو بعضها عندئذ، في هذا النوع النادر من التكافؤ أو التوازن تصبح الكتابة “عبر نوعية” بالمعنى الدقيق للكلمة، ولعل هذه الكتابة تصبح عندئذ نوعا جديدا.”