متعددة مقومات الإبداع وخصائصه الدلالية والفنية في ديوان “تراتيل الجمار الخابية” للشاعر عبد الله فراجي الصادر سنة 2018.
لقد عمل الشاعر على تخصيب أدواته الفنية بتوظيف الأسطورة والرموز والإيحاء والانزياح… كمقومات توسع أفق التصوير الشعري، وتكثف الدلالة في شعره في إطار انحيازه إلى شعر الرؤيا والتعمق في ظواهر الواقع والأشياء بأبعاد فكرية، تأملية وفلسفية.
وقصيدة “لا شيء تغير يا سيزيف” المقتطفة من ديوان “تراتيل الجمار الخابية” هي إحدى قصائد الشاعر القابضة على جمر الواقع العربي، تشد القارئ بما تنطوي عليه من دلالات عميقة مرتبطة بقضية مصيرية ووجودية وإنسانية، وبما تتصف به من مقومات إبداعية جمالية هائلة.
عنوان القصيدة يوجهنا مباشرة في جزئه الأول (لا شيء تغير) إلى دلالة عدم حدوث التغيير، لكن في جزئه الثاني نجد أنفسنا أمام شحنة دلالية وانفعالية أساسها توجيه الخطاب إلى بطل أسطوري (يا سيزيف) وتحيلنا العبارة إلى دلالة العذاب الأبدي، إذ المعنى العام لأسطورة سيزيف هي مأساة بطلها (سيزيف) المتمثلة في الحكم عليه من طرف الآلهة بأن يعيش أبد الدهر يحمل صخرة صعودا إلى الجبل وتتدحرج نزولا ويعيد الفعل باستمرار كعقاب له نظير ما اقترفه من تكبيل إله الموت.
إن التغيير نحو الأفضل غاية وضرورة, والتغيير طرف موصول باللاتغيير وامتداد له كما الموت والحياة، والإنسان بينهما يصارع ويقاوم.
تتشكل القصيدة من ستة مقاطع، تتفاوت في الطول على مستوى البناء وتترابط على مستوى المضمون بصلتها بالتيمة المحورية التي كشف عنها العنوان، وتعبر عن صور فظيعة يتواجد الإنسان العربي فيها في قلب المحنة فاقدا لشروط العيش الآمن والقدرة على تغيير حياته ووجوده نحو الأفضل.
لقد استثمر الشاعر عبد الله فراجي أسطورة سيزيف الإغريقية بحمولتها الدلالية، وجعل منها الإطار الأنسب لتجسيد المأساة والإحساس بالتذمر والمرارة أمام ما يحدث من فوضى عارمة وإحباطات وانكسارات في الوطن العربي الكبير. ولاستكمال هذه الصورة يستدعي الشاعر مجموعة من الرموز المختلفة المصادر، طبيعية وتراثية ودينية، الشيء الذي يميز القصيدة على المستوى الفني والجمالي، ويعمق معانيها على المستوى الدلالي ويمنحها قوة التأثير في المتلقي.
يبدأ المقطع الأول بانفعال عال للذات الشاعرة، يبرزه طول السطر الشعري الأول: (يَا حَامِلَ مَلْحَمَةِ الأَحْلامِ عَلى أَمَلٍ يَتَمَدّدُ فِي أحْزَانِكَ مُلْتَهِبًا،)، ويكشف عن عمق ألمها من واقع مفجع من مظاهره الأحزان الملتهبة والجراح مثخنة في دوامة لا نهاية لها وأنفاس صاخبة متفجرة.
ويزيد الحضور القوي لأسطورة سيزيف من كثافة هذا المعنى عبر أسلوب التكرار، بتكرار عبارة (يا سيزيف) ثلاث مرات في ثلاثة أسطر شعرية متتالية، لشد انتباه المتلقي إلى دلالة المأساة الأسطورية.
ولا يتأخر الشاعر طويلا ليكشف عن هوية سيزيف في القصيدة، فهو الإنسان في الوطن العربي: (يَا سِيزيفُ الْمَجْدُولُ عَلَى حَبْلِ الْمَوْجِ الْمُتَجَاسِرِ فِي وَطَنِي،)، الراحل بحثا عن التجديد والأمن والطمأنينة، غير أن رحلته لم تثمر التغيير المنشود، رحلته أشبه برحلات السندباد البحري الذي يواجه الأهوال والمخاطر في مغامراته البحرية، غير أن سندباد يخرج منها سالما مظفرا، أما سيزيف/ العربي فإنه يواجه الموت، يصارع وسط أمواج عاتية هو أقرب فيها إلى الغرق منها إلى النجاة والظفر، يقول الشاعر:
يَا سِيزيفُ الرُّبّانُ الْغَارِقُ فِي زَبَدِ الرُّؤْيَا،
يَا سِيزيفُ الْمُلْقَى فِي سِرْدَابٍ يَتَغوَّرُ فِي مِحَنِي،
يَا سِيزيفُ الْمَجْدُولُ عَلَى حَبْلِ الْمَوْجِ الْمُتَجَاسِرِ فِي وَطَنِي،
ويرسم الشاعر لهذه المأساة صورة تؤثثها مجموعة من الرموز، فتكون الظلمة رمزا للفساد والمأساوية، والذئاب الكاسرة رمزا للمفسدين والمتربصين الذين استباحوا الوطن وعاثوا فيه خيانة وفسادا وتدميرا، الشيء الذي أدخله في ظلام كاسح عرقل قارب رحلتنا وتوحدت فيه ذواتنا: (فِي الظُّلْمَةِ أَنْتَ.. أَنَا.. ) وفقدت كل خصوصية لها وصرنا بموجب ذلك أشباحا, يقول الشاعر:
فِي الظُّلمَةِ يُؤْسَرُ قارِبُ رِحْلتِنَا،
فِي الظُّلْمَةِ أَنْتَ.. أَنَا..
سَقَطَتْ مِنَّا نسمَاتُ الْبَحْرِ،
وَصِرْنَا أَشْبَاحًا فِي مِيناءٍ تَغْزوهُ ذِئابٌ كَاسِرَةٌ،
مُترَبِّصَةٌ..
في المقطع الثاني استمر الشاعر في تصوير وعرض محنة سيزيف/ الإنسان العربي باعتماد أسلوب الاستفهام البلاغي، وقد أسعفه كثيرا في توليد دلالة الكشف والمكاشفة، فالحقيقة لم تعد تتحمل التخفي، وأسعفه في إثارة الذات العربية عامة ودعوتها لأن تخرج من ضبابية الرؤيا وتكشف بنفسها هول ما تواجهه من خداع وأهوال…: (كَمْ رِيحاً صِرْتَ تُقاوِمُ يَا سِيزِيفُ، وَفِي مِجْدَافِكَ تَسْكُنُ قَاصِمَةُ الأعْمَاقِ، وَلَعْنَتُهَا تَدْعُوكَ لِقَصْرٍ مِنْ صَدَفَاتٍ بَارِقَةٍ؟ ـ كَمْ صَخْرًا صِرْتَ تُقاوِمُ يَا سِيزِيفُ، ولَمْ تَسْقُطْ؟)
ألبير كامو Albert Camus في قراءته لأسطورة سيزيف، لم يربطها بالمحنة ولا بالعبث، بل بالمواجهة والتحدي. وفي قصيدة “لا شيء تغير يا سيزيف” لا يقف عبد الله فراجي عند دلالة العذاب والمحنة، بل يربطها بالمقاومة كقدر مسلط على رقبة الإنسان العربي، كل الجبهات مفتوحة أمامه: الأزمات المتتالية والتمزق والصراعات… لكنه لم يسقط ولم يستسلم فليس أمامه إلا المواجهة والنضال بلا كلل، وهو ما يحيلنا عليه تكرار لفظة “تقاوم” ثلاث مرات في المقطع الثاني، وأكثر من ذلك في القصيدة ككل، إضافة إلى معجم مرتبط بدلالتها: (لم تسقط ـ الحسناء العربية مازالت تراقب ـ تقاوم … بلا كلل ..)، يقول الشاعر:
كَمْ رِيحاً صِرْتَ تُقاوِمُ يَا سِيزِيفُ، وَفِي مِجْدَافِكَ تَسْكُنُ قَاصِمَةُ الأعْمَاقِ، وَلَعْنَتُهَا تَدْعُوكَ لِقَصْرٍ مِنْ صَدَفَاتٍ بَارِقَةٍ؟
كَمْ صَخْرًا صِرْتَ تُقاوِمُ يَا سِيزِيفُ، ولَمْ تَسْقُطْ؟
كَمْ وَهْمًا أَغْشَى لَيْلَكَ حِينَ حَلَمْتَ بِطَلْعَتِهَا؟
اَلْحَسْنَاءُ الْعَربيَّة مَازَالَتْ خَلْفَ الشُّبّاكِ تُرَاقِبُ بَعْدَ رَحِيلِكَ
مَوْجَ الْبَحْرِ،
وَفِي عَيْنَيْهَا تَنْكَسِرُ الأضْوَاءُ وَتَخْبُو…!
كَمْ مَوْجاً صِرْتَ تُقَاوِمُ فَوْقَ رَصِيفِ الْعُمْرِ بِلَا كَلَلٍ؟
لا خيار آخر غير المقاومة حتى لو كانت أبدية وشاقة كما هو قدر سيزيف، المقاومة في حد ذاتها هي إيمان بقضية الكينونة والوجود واستشراف المستقبل، إنها الصراع من أجل الخروج من بحر المآسي، بحر الفساد والعنف والدمار إلى حياة جديدة يسود فيها الأمن والسلام والكرامة.
لكن المرحلة التاريخية في الوطن العربي دقيقة وشائكة ومعقدة, تعرقل المقاومة وتعسر الولادة من جديد وتقابل الرحلة بالإحباط والعجز. ويرى الشاعر أن أسباب نجاح الرحلة معطلة وفاسدة وخادعة، فالسفن رمز الحياة ووسيلة النجاة تسير إلى وجهة غير آمنة، تسير إلى شطآن الموت، والليل هنا ليس ليلا للسكينة والمتع، وإنما هو ليل ممتد طويل لا آخر له ولا بوادر فيه لصبح مشرق، ليل الصراع والاغتراب والعذاب والعقم والموت، ففيه كل الأشجار الوثنية عقيمة لم تثمر، وفيه تحرق كل الأشرعة البيضاء التي ترمز لأسباب النجاة، وتهرب الأحلام وتضيع، يقول الشاعر:
وَالرِّحْلةُ يَا سِيزيفُ تَسيرُ بِهَا السُّفُنُ الرَّعْنَاءُ إِلَى شُطْآنِ الْـمَوْتِ
جِمَارًا حَارِقَةً…!
فِي لَيْلِكَ كُلُّ الأشْجَارِ الْوَثنِيَّةِ لَمْ تُثْمِرْ،
فِي لَيْلِكَ تُحْرَقُ كُلُّ الأشْرِعَةِ الْبَيْضاءِ،
وَتَهْرُبُ مِنْكَ الأحْلاَمُ الْوَرْدِيَّةُ كُلَّ صَبَاحٍ،
تَسْقُطُ فِي بَغْدَادَ وقَبْضَةُ “مَسْرُورٍ” لاَ تُخْطِيءُ ضَرْبَتَهَا.
في المقطع الثالث يكشف الشاعر عبد الله فراجي وجها آخر من أوجه محنة الوطن العربي، هو فشل الثورات العربية التي كان يُؤمل منها الإصلاح والتغيير للأفضل، فحدث أن تجدد سيزيف كرمز أسطوري دال على العذاب في كل أرجاء الوطن العربي الكبير، معلنا عن خيبة الأمل والضياع، فبدل أن يجني ثمارها، اكتوى بجمرها فأصبح مهانا، منبوذا، وجزعا، يواجه المحن والأشواك والأدغال والصحاري تائها ممزقا.
ولكي يجسد الشاعر عبد الله فراجي واقع هذه المأساة الطارئة على العالم العربي، استحضر رمز المسيح والصلب، رمز التضحية والمعاناة والفداء، فقد استحال الإنسان في الأوطان العربية مسيحا صليبا في بؤر التوتر والحروب والاقتتال والمآمرة.. يتجرع ألوانا من العذاب والمحن: فهو يتمرد في بحر العرب، يتشرد في عدن، تجره آلهة النهرين إلى نجران بلا نعش، يصرخ في صحراء النيل، لكن صوته لا يُسمع، صوته مقموع..، يقول الشاعر:
سِيزِيفُ الـمُتَجَدّدُ فِي وَطَنِي،
يَا سِيزِيفُ الْمُتَمرِّدُ في شَجَنِي،
مُلْتاعًا تَعْبُرُ فِي جَمْرِ الثَّوْرَاتِ
مُهَانًا،
مَنْبُوذًا،
جَزِعًا..
فِي غَاباتٍ مُتَشابِكةِ الأَشْواكِ – أَيَا سِيزِيفُ – أَرَاكَ مَسِيحاً تُصْلَبُ فِي صَخَبِ الأَحْزَانِ، وَتُشْنَقُ أشْجارُ الدِّفْلَى مِنْ حَوْلِكَ فِي صَمْتٍ،
تَتَمَرَّدُ في بَحْرِ الْعَرَبِ..
تَتَشَرَّدُ في عَدَنٍ..
وَتَجُرُّكَ آلِهَةُ النَّهْرَيْنِ إِلَى نَجْرَانَ بِلاَ نَعْشٍ،
وَتَجُرُّكَ كَالْمُومْيَاءِ عَلَى أَرْضٍ جَرْدَاءَ،
وَتَصْرُخُ.. تَصْرُخُ في صَحْرَاءِ النِّيلِ،
وَصَوْتُكَ يُخْرِسُهُ العَسَسُ..
في المقطع الرابع يكمل الشاعر صورة رحلة التغيير المعقدة في الوطن العربي، حيث أُجْهِضت المقاومة والثورات العربية، وانحرفت عن مسار النجاح وسقطت في مهاوي الفشل القاهر، الشيء الذي ولد الإحباط والتذمر والاستكانة وموت الأحلام في النفوس، وغدا سيزيف/ الإنسان العربي ممزقا تائها مهانا مرتبكا… يصوره الشاعر كما يراه في بؤر التوتر العربية على سبيل الاستعارة وقد وهنت فيه الأحلام على أبواب دمشق الجريحة ذليلا منكسرا، ولم يعد يحلم بالحرية والانتصار، ويراه في بابل/ العراق/ رمز الحضارة في صورة الزهر المحترق للتعبير عن الضياع والمأساة، يقول الشاعر:
وَأَرَاكَ وَقَدْ وَهَنَتْ فِيكَ الأَحْلاَمُ عَلَى أَبْوابِ دِمَشْقَ ذَلِيلاً
مُنْكَسِرًا،
فِي بَابِلَ زَهْرًا مُحْتَرِقًا،
الشاعر عبد الله فراجي لا يقف عند تصوير المأساة والسقوط، وإنما يبحث في عمقها ويكشف الأسباب التي أجهضت الثورات العربية، ويجد أن مقاومة الإنسان العربي ضعيفة، مرتبكة غير موجهة والخصم غير محدد فهو يقاوم السراب، ويواجه عراقيل كبيرة لا قبل له بمجابهتها.
يعيش المقاوم العربي حالة اغتراب وتمزق ووهن، فاقدا للقدرة والسيطرة على الموقف، عاجزا عن تحقيق النصر وإنجاح المهمة التي انخرط فيها وهي التغيير. يقول الشاعر:
وَأَرَاكَ تُقَاوِمُ كَالمَخْبُولِ سَرَاباً مُنْتَشِراً،
يَتَمَرَّدُ فِيكَ الرَّيْحَانُ الْمُتَصَلِّبُ أَنْتَ الْمَنْبُوذُ الأَبَدِيُّ،
وَأَرَاكَ وَقَدْ وَهَنَتْ فِيكَ الذِّكْرَى،
فِي خَارِطَةِ الوَجَعِ الرَّعْنَاءِ تَسِيرُ بِلاَ أَقْدَامٍ،
تَجْلِدُك الأَيَّامُ وَعُمْرُكَ مُرْتَهَنٌ،
أَحْلاَمُكَ تَسْقُطُ فِي الإِسْفَلْتِ البَارِدِ بَعْدَ رَبِيعٍ لَمْ يُرْبِعْ،
وَأَوْرَاقُكَ تَسْقُطُ بَعْدَ رَحِيلِ الشَّمْسِ،
وَتَغْزِلُ فِي الأحْزَانِ رَمَاداً أَسْوَدَ يَنْتَهِكُ الأَشْجَارَ،
وَيَخْتَرِقُ الأَنْهَارَ،
وَبَعْدَ سُكُونِ الْمَوْجِ أَرَاهُ الآنَ يُدَنّسُهَا.
في المقطع الخامس من قصيدة “لا شيء تغير يا سيزيف”، يعود الشاعر عبد الله فراجي بعد أن جال في الوطن العرب الكبير وكشف ووصف ونقل صور واقعه الفظيع بعد الثورات العربية وأسباب فشلها، ليستنتج ويؤكد بما لا يقبل الشك أن لا شيء تغير في تاريخ هذا الوطن، النتيجة المأمولة غائبة والواقع بشع بما يسود فيه من قهر وتمزق ورماد وموت.. وأن ولادة جديدة بعيدة وصعبة التحقق فالعنقاء وهي رمز الولادة لم يثمر رمادها بعد الاحتراق شرنقة عنقاء جديدة، ولم تشرق شمس في صبح ليالي الخوف والقهر والمآسي، ولم تتفتح أزهار المدن الثكلى، لم تلد أبناء آخرين يحملون المشعل.
إن الثورات التي عقدنا عليها آمالا كبيرة، ما هي إلا وهم وسراب، أما التغيير والولادة من جديد فلا بوادر لهما في أفق ما حدث من دمار وتقتيل وتنكيل بالأوطان، يقول الشاعر:
لا َشَيْءَ تَغَيَّرَ يَا سِيزِيفُ عَلَى طُرُقاتِ الْقَهْرِ..
وَفِي أَمْوَاجِ الْمَوْتِ شَظَايَا مِنْ وَطَنِي،
فِي أَشْلاءِ الْعَنْقَاءِ جُنُونٌ مُلْتَهِبٌ،
وَرَمَادٌ مُنْفَجِر،
وَلَهِيبُ الرَّعْشَةِ لَمْ يَتَشَكَّلْ مِنْ جَمَرَاتٍ خَامِدَةٍ،
وَحَبِيبَتُكَ الْمُتَمَرِّدَةُ الآنَ انْتَحَرَتْ فِي مِحْرابِ الحجَّاجِ،
وَلَمْ تُشْرِقْ شَمْسٌ فِي صُبْح اللَّيْلَةِ بَعْدَ الأَلْفِ،
وَلَمْ تَتَفَتَّحْ أَزْهَارُ الْمُدُنِ الثَّكْلَى..
في المقطع السادس والأخير من القصيدة لم تتغير نبرة الحزن والأسى في صوت الشاعر، وإنما استمر يعبر عن إحساسه العميق بالتذمر وألمه الكظيم من طول رحلة المعاناة وامتداد الليل وبحر الظلمات رمزي الضياع والسقوط، ولا شيء سوى عجز الذات العربية عن تحقيق تطلعاتها، وغرقها في بحر الظلمات، يقول الشاعر:
لَمْ تُثْمِرْ بَعْدَكَ دِمْنَتُكَ الْمَهْجُورَةُ،
وَانْدَثَرَتْ،
وَالرِّحْلَةُ طَالَتْ يَا سِيزيفُ،
وَتَاهَتْ فِي بَحْرِ الظُّلُمَاتِ،
كل شيء في هذا العالم العربي فقد قيمته ومعانيه، حتى الكلمات والأصوات الضرورية للإنسان في تواصله ومقاومته، لم يعد لها صدى ووجود، فقدت وقعها وعنفوانها، انكسرت وتعفنت ولحق بها العجز والموت:
وَخَلْفَ مَقَابِرَ لِلْكَلِمَاتِ مَرَافِئُهَا انْفَجَرَتْ،
وَتَعَفَّنَتِ الْكَلِمَاتُ
تَعَفَّنَتِ الأَصْوَاتُ،
وساد الانكسار والانحسار:
تَكَسَّرَتِ الأَمْوَاج عَلَى رَمْلِ الشُّطْآنِ السّاخِنِ،
وَانْحَسَرَتْ،
يعود الشاعر ليقدم صورة عن الواقع أشد مأساوية بتوظيف رمزي الطوفان والصليب، لقد علا منسوب مياه الطوفان، وأثخن الجسد المصوب جراحا:
يَا سِيزِيفُ الْمُتَجَدِّدُ فِي جَبَلٍ،
اَلصَّخْرَةُ جَرْجَرَهَا الطُّوفَانُ وَلَمْ تُكْسَرْ..
يَا سِيزِيفُ الرَّيْحَانُ النَّابِضُ فِي وَهَجِ الأَحْزَانِ،
وَفِي نَزْفِ الْجَسَدِ الْمَصْلُوبِ عَلَى لَوْحِ الْمِحَنِ..
ويؤكد الشاعر بعد الكشف السابق أن الغرق في بحر المآسي والضربات هو الثابت في الحياة العربية، أما النصر والتغيير المنشودين لا شعاع لهما بعد في الأفق.
ولم يجد الشاعر في هذا الواقع من أمل يوشح به صدر قصيدته، فختمها بمقطع لم تتغير نبرة القلق واليأس فيه، بل سادت اللغة التراجيدية كما في المقاطع السابقة وكما في الحياة.
لقد وصل الفساد والطغيان إلى أن امتد كالطوفان يجرف كل شيء في طريقه، فضاعت المدينة وصارت خرابا وفقدت أبناءها، والقلعة التي ترمز للنجاة وبر الأمان دمرها الطوفان، وصارت عجفاء عقيمة تملؤها الأشباح والليل طويل فظيع لا آخر له، وسيزيف غارق في بحرٍ أمواجه لا تحصى. لقد آلت الرحلة إلى مأساة وخراب ودمار وموت:
لاَ شَيْءَ تَغَيَّرَ يَا سِيزِيفُ الْعَاشِقُ،
يَا سِيزِيفُ الْمَلاَّحُ الْمُتَمَرِّدُ فِي صَمْتِ الآهَاتِ،
وَفِي أَحْضَانِ مَدِينَتِكَ الْحُبْلَى..
اَلْقَلْعَةُ دَمَّرَهَا الطُّوفَانُ..
وَقَدْ صَارَتْ عَجْفَاءَ بِلاَ خِصْبٍ،
عَبَرْتْ فِيهَا الأَشْبَاحُ بِلَيْلٍ
يَبْدُو أَطْوَلُ،
أَفْظَعَ،
يَا سِيزِيفُ الْغَارِقُ فِي بَحْرٍ أَمْوَاجُهُ لاَ تُحْصَى..
تتميز قصيدة “لا شيء تغير يا سيزيف” على المستوى الفني بحضور الأسطورة كوسيلة أسلوبية قوية في خلق لغة الشاعر الخاصة وفي التعبير عما لا تستطيع اللغة المتداولة التعبير عنه. لقد أسعفته في نقل صورة محنة الوطن العربي، وتقديم إدانة صارخة لواقع السكون والثبات والمذلة والهوان والخيانة في ظل سياسات قهرية رجعية لا تتقدم بأوطانها بقدر ما تعمق جراحهم وتكثف عذاباتهم.
وأعطى الشاعر لأسطورة سيزيف بعدا جديدا نابعا من رؤياه للواقع والأحداث من حوله، وعززها بتوظيف مجموعة من الرموز المختلفة المصادر، الطبيعية (الليل ـ الظلمة ـ البحر ـ ذئاب ـ الريح ـ الصخر ـ الضوء ـ موج البحر ـ الأمواج ـ غابات ـ الزهر ـ الريحان ـ الشمس ـ الرماد ـ الأشجار ـ الأنهار…) وأسطورية (سيزيف ـ العنقاء ـ لهيب…) والدينية (المسيح ـ الصليب…) والحكائية (سندباد ـ القلعة ـ شهرزاد ـ الأمواج…) لتعميق معاني القصيدة، وإضفاء أبعاد جمالية عليها والتأثير في المتلقي تأثيرا خاصا وعميقا.
وللغة القصيدة ملمح تراجيدي، تمكن القارئ من أن يتلقى حقيقة فشل رحلة التغيير ومأساوية الواقع العربي، وتجسد عمق تذمر الشاعر مما حدث. وقد تمثلت من خلال معجم تراجيدي: (أحزان ـ جراح ـ الدوامة ـ أنفاس صاخبة متفجرة ـ سرداب ـ الموج المتجاسر ـ الظلمة ـ ذئاب كاسرة ـ قاصمة الأعماق ـ شطآن الموت ـ تحرق كل الأشرعة البيضاء ـ تتشرد ـ تصرخ ـ زهرا محترقا ـ ذليلا منكسرا تسير بلا أقدام ـ طرقات القهر ـ أمواج الموت ـ لهيب ـ انتحرت ـ الحجاج ـ المدن الثكلى ـ تاهت في بحر الظلمات ـ الجسد المصلوب على لوح المحن)…
ولم تقتصر مقومات الإبداع عند الشاعر عبد الله فراجي على آليات التصوير الشعري، واللغة التراجيدية، وإنما شملت البنية الإيقاعية، بما فيها الإيقاع الخارجي القائم على تفعيلة بحر الخبب، والإيقاع الداخلي المتمثل في التكرار والتوازي.
وختاما، إن الشاعر عبد الله فراجي يجعل من الواقع المأساوي في الوطن العربي وتعثر رحلته نحو مستقبل متجدد قضيته الذاتية، يصورها شعريا، ويعمق حولها البحث فكريا ويقلبها على أكثر من وجه بهدف فهمها وكشف الحقيقة بكامل خطورتها أمام المتلقين. ويقدم من خلال ذلك إدانة صارخة لهذا الواقع المأزوم، وهاجسه نجاح المقاومة من أجل استمرار الوجود العربي قويا متجددا منتصرا.
وتمكن بمهارة إبداعية من توظيف أسطورة سيزيف وعدد من الرموز الطبيعية والدينية والتراثية، وصهرها عضويا مع بناء قصيدته، وأسعفته دلاليا في التوغل عميقا في رحلة الوجود العربي، ومنحت القصيدة عمقا في المعاني ومتعة جمالية في الجانب الفني.