شكري البكري شاعر وإعلامي مغربي بدأ مشواره المهني عام 1991 صحفيا بالتلفزة المغربية، ثم اشتغل بكل من القناة الثانية واذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية Medi1.
صدر له ديوان” هياج الريح” بالاسبانية، منشورات كلية الآداب بفاس ضمن أشغال المؤتمر الدولي الأول للكتاب المغاربة بالاسبانية، 1994.
“الغواية البيضاء وبعض أسمائها”، نصوص سردية، الرباط 1988 (تنويه جائزة اتحاد طتاب المغرب للشباب في دورة 1996).
“فواصل الغياب”، قصائد ، الدار البيضاء 2009.
“موجز الفصيح في الدارج اليومي” في جزأين، منشورات السليكي أخوين بطنجة.
الديوان الشعري “الشرفة 48” نشر بدعم من وزارة الثقافة، منشوراتː سليكي أخوين-طنجة، الطبعةː الأولى-فبراير 2017.
يقع الديوان في اثنتين وسبعين صفحة، يطوي بين دفتيه، قصيدة طويلةː بعنوان شرفة الطابق الرابع، وضمن القصيدة نفسها، تلفي عنوانين فرعيينːالأولːأوجاع شريدة، أطل من طابقي الرابع ، وأراني- والثانيː أوجاع شاردة بين قوسين ليس إلا.
وأنت تقف على ضفاف نهر شعر شكري البكري، تحس أن صور العالم تنكتب بحبر القلب، وأن مرايا الأكوان، التي يرسمها، إنما يشكلها من فرشاة الوجدان، و يستر فدها من أصباغ الفكر، ويصلها بألوان العقل. الكلمات في الديوان تكاد تكون أغلبها، موحية شفيفة، تغمر القارئ بومض، ينزوي به في أفق هادئ ساكن، يسمح له، أن يتـأمل الوجود بوجوم، يغلب عليه جو شاعري فائض، ويغشاه بدفق يطغى فيه طقس تخييلي غامر، تكاد تسمع له صدى في خلدك، ويوشك رنينه يتصادى في دواخلك، فيجلجل سناه، في عمرك الالتماعات، والرؤى، والمشاهد، فيروق لك أن تتابع خيوطها الرقيقة، وتقفو حيواتها الدافئة، بحب عارم، وشغف جامحː
وليل لا يمالي
وخلفه بقايا شمس
وأجساد تلملم جمرة اليوم
وتنفض ما تأتى لها من رمل
وبلل المد
تطرق عيني، تقفو الأقدام يمحوها الخطو ص 8 (شرفة الطابق الرابع).
تنصت لصدى الكلمات، فتحس باشتعالها يوقظ فيك لواعج الحياة، ويمخر في روحك عباب الاستيقاظ، وتشق في وجدانك أمواج الصحو، لارتشاف كؤوس نخوة الأحلام، واحتساء أكواب النشوة واللذة النابعين من فيض الكلمات، وإيحاءاتها الفنية الزاخرة بالخيالات المدهشة، والمفعمة بالظلال الوارفةː
غرفتي في الطبق الرابع تجنح
وعين تسرح في رسوم الشبه وكان فعلا
يشبهني هذا الجزر
فيه من القصيد ما لا يشتد له المد
ومن الدهشة
ما يملأ جوف الليل ويسبي وحشة المفازات..ص 16.
تصيخ السمع لما يتردد في الديوان من مواضع، فتجدها قريبة إليك، تنبع من واقع معيش، مواكب للعصر، ومساير للحاضر، تراه العين بمجهر دقيق، يجري في بوتقة الحياة، لكن بنظرة شعرية رقيقة، ومسحة وجدانية نافذة،
غرفتي في الطابق الرابع
وفوق المركز التجاري الذي بين الشارعين
عمارة حمراء يسمونها (إيمان)
تقضي فيها العابرات أوطار العابرين
ويتركن عوازل عابرهن تحت الأسرة
وبين الملاءات…. ص 21.
إنه نقل حرفي، ووصف دقيق لما يحدث في بقعة ما من الحياة، لكن الشاعر يمزجه برؤيته الخاصة، ويمحصه بوجدانه الشعري، فينجلي كالضوء، ويتمثل كالومض، في مساحة الرؤية، وبقعة المشاهدة.
غرفتي في الطابق الرابع، وغضب مثل الرذاذ يرتادني
الآن. أشعل سيجارة ثانية وأقول إن أفضل ما أفعله
هو أن أكتب. سأكتب رسالة لأحدهم. لكنني أتذكر
بألا أحد يملك اليوم عنوانا بريديا وألا أحد يملك وقتا
لقراءة رسالة…
وبأنني أحاول كتابة قصيدة وليس رسالة. ص 28.
نقل واقع ذات الشاعر، وهو يحترق لوحده في غرفته الوحيدة، يرغب في أن يكاشف عن ما يشعر به من معاناة، وما يقاسيه من وحشة وكآبة وحزن وفراغ، فيلجأ إلى الحرف، بزخارفه الجمالية، وفسيفسائه الفنية، ليفجر هذه الغيوم الجاثمة على صدره، ويسترسل في البوح، والتقاط ما يطفو على سطح الواقع من صور، وما يمور فيه من مشاهد.
ليس في المرآة
غيري
والجبة اليوم
للبوديفيل وعضو البرلمان
ومن لم يرحم ربك بإحسان. ص 51.
صورة قاتمة لواقع مريض مرير، يحتاج إلى رصد اختلالا ته، والصد لأمراضه الوخيمة، والشاعر هنا، يشير ويلمح، وهو بذلك يطلق شرارة، تندلع في مساحات الوجود كرصاصة مدوية، تقتل وتحبس أنفاس السافلين والساقطين الأنذال في مهاوي سحيقة، لا قعر لها.
تقف على ضفاف الديوان، فترى منعطفات فنية، مرة تصادفك الأساليب الخبرية، التي يلقيها الشاعر خالية من أدوات التوكيد، ذلك لأن حال المخاطب خال الذهن من مضمون الخبر، لذلك لم ير الشاعر حاجة إلى توكيد الكلام الخبري.
أسند رأسي إلى شرفة الصمت
وتدمدم الريح/ قربي
بلوا عج الاشتعال ص 13.
يعود الليل لينتاب ليلي
وحموضة ترتاد النهار في
بذات الملل وسأم النظارتين ص 33.
وأحيانا نادرة جدا، يلقيها بمؤكد أو مؤكدين، ذلك لأن حال المخاطب له إلمام قليل بالكلام الخبري، يمتزج بالشك والريبة، لذلك يضطر الشاعر إلى أن يسوقه بمسحة من اليقين، ويؤلفه بأثر واضح من الثبات والتأكيد، تجلو له الأمر، وتدفع عنه الشبهة.
وقد يشبهني هذا الجزر
قبل تكرار الاشتهاء ص 17.
وإنه لا للسلو ولا للغو ولا للحب ص 26.
ومرة تلاقيك الأساليب الإنشائية، بنوعيه ː الطلبي وغير الطلبي، ترشف من رحيق جمالها، السحر والماء الزلال، وتحتسي من مسك فنها، العطر والنبع العذب. فتغدق عليك خصب المشاعر، ورواء الوجدان، بما تحققه لك من متعة وبهجة وانفعال، وما تسبغه عليك من لذة وتسلية ودهشة.
كم من طريق كان يلزم
-ببهت الشامات والافتراء-
حتى يفيق الوقت ؟ ص 25.
لعلها تستعمل اسما مستعارا. ص 29.
يا لهف نفسي ابن الريب ص 37.
هل صدق اللص مرآتي ؟ ص55.
تحسس الهواء بين يديك اذ تتداعى
الكثبان دون اكتراث. ص63.
أيتها المرأة التي
لا تجيد الكذب بين يدي ص65.
يتشكل العالم التخييلي للشاعر شكري البكري من صور فنية زاخرة، بالانزياح المتجدد، والخرق المبتكر، وبلغة لماحة مثيرة، تفيض بالمتعة الجمالية الأخاذة، وبأسلوب قوي شفاف، متنوع متباين، ينطوي على حرارة وتوقد، معبر عن واقع خصب، ورؤيا شعرية موسومة بالعمق والتنوع والاستبصار والتوهج والإبداع.
إنصات لتجربة الشاعر شكري البكري لديوانه الشعري “الشرفة 48 ” إنصات لعالم غني، مصطخب بالحياة، وضاج بالرؤى والغوايات.
ينبغي أن نرافق الشاعر وهو يطل من غرفته في الطابع الرابع
ورقمها ثمانية وأربعون
لنصيخ السمع لنبض قلبه المفعم بالأحلام والآمال والحياة، في انفتاح غامر على الواقع بكل تناقضاته، وتشظياته، وانكساراته..وأيضا بكل طموحاته وهواجسه وخواطره..