كتابة أدب الأطفال من أصعب الفنون للكبار في التوغل بعوالمهم وملامسة تفكيرهم وأحلامهم والتعبير عنها بشكلٍ مقنعٍ وحالم؛ لأن ذكاءهم حد فاصل لا يجامل في التقبل، فكيف إذا هم من يكتبون أدبهم وأفكارهم وخيالهم، كيف نمكنهم من أدوات ومفاتيح موهبتهم الأدبيَّة؟ ما الدعم المطلوب من الأهل والمدرسة والمؤسسات الثقافيَّة لمساندتهم في إظهار مواهبهم الأدبيَّة؟ لمَ ليس هناك أي مطبوعٍ فردي أو جماعي لهم كما في الوطن العربي والعالم الغربي؟ أسئلة نطرحها بين المختصين والموهوبين من الأطفال ضمن الآتي.
ليس كل الأحلام قصائد
الشاعر والصحافي عبد الرحمن الماجدي كانت له تجربة مهمة مع أدب الأطفال الموهوبين، إذ ترجم كتاب «ليس كل الأحلام قصائد» الذي تضمن ترجمة سبعين قصيدة من كتابة الأطفال اختارها من كتاب عنوانه «أحلام» الذي صدر عن مؤسسة «اليوم العالمي من أجل الأطفال والشعر» في هولندا برعاية اليونيسيف. يقول الماجدي في مقدمة الكتاب: «وللكتاب قصة.. إذ طلبت تلك المؤسسة من الأطفال من سن السادسة حتى سن الثانية عشرة كتابة قصائد من أحلامهم وإرسالها للمؤسسة عبر المدارس أو المكتبات العامَّة أو الأهل ليتمّ عرضها على لجنة تحكيم مكونة من أدباءٍ ونقادٍ ومربين قرأوا القصائد بإمعانٍ وجد.. نحو عشرة آلاف قصيدة اختاروا منها 150 قصيدة طبعت جميعاً في كتابٍ خاصٍ يحوي القصائد الفائزة بالجوائز الثلاث لكل فئة عمريَّة مع القصائد الأخرى المنوه عنها من قبل لجنة التحكيم».
فيا لها من تجربة مميزة، تُرى ما هي الصعوبات المقنعة التي تقف أمام تفعيل مثل هكذا تجربة كما فعلته هذه المؤسسة وما قام بترجمته الماجدي؟
البحث عن المواهب
تمهيداً لموضعي كنت قد وضعت في صفحتي على مواقع التواصل الاجتماعي تنويهاً لمن لديه أطفالٌ يمتلكون موهبة أدبيَّة في الشعر أو القصة وقد جاءتني ردودٌ كثيرة عربيَّة ومحليَّة. عربياً أرسلت لي من غزة نيسان (١٥ عاماً) كاتبة قصة قصيرة وعضو النادي الأدبي بمركز القطان للطفل في غزة وهي حاصلة على جائزة «أنا الراوي» المرتبة الرابعة على الوطن والوحيدة من قطاع غزة عام 2019 وليان (١٦ عاماً) حصلت على جوائز عدة في القصة القصيرة على مستوى قطاع غزة أيضاً، من مصر أرسل لي الطفل عبدالرحمن محمد حمدي الذي بدأ في سن الـ ٨ سنوات مع اشتراكه فى برنامج «رحلة تساؤل» ونتج عنه كتابة قصة: (الحكيم والفيروس) التي نشرت في مجلة غيمة تلتها قصة: الفجوة المضيئة. ونماذج عربيَّة كثيرة لا يسعني ذكرها جميعاً هنا.
أما محلياً فكانت الصعوبة كبيرة؛ لأنّنَي عندما أجد موهبة ما وأتحدث مباشرة معها وأبحث أجد للأسف أنَّ الأهل الأب أو الأم هم من يكتبون لهم وهم ضحايا لأمنياتٍ لم يحققها أهلهم في صغرهم أو كبرهم، لذلك َوجدت صعوبة في إيجاد موهبة خامٍ بحق دون من يكتب لها، الى أنْ وجدت الطفلة شمس محمد (عمرها ١١ سنة) وهي طفلة موهوبة بدأت موهبتها من عمر 8 سنوات تحدثت معها لأرى لغتها، أسلوبها ومفاتيح موهبتها وتفكيرها هكذا بدأت شمس حديثها: «أحب أدون تفاصيل يوميَّة تلفت انتباهي وأرويها لأهلي، أصدقائي الى أنْ شجعتني خالتي والأهل في تدوينها على الورق وليس قولها فقط وفعلاً بدأت في كتابتها على الورق ولكن بإضافة أحداثٍ من خيالي إليها أيضاً لتصبح قصَّة من الواقع ومن خيالي معاً.. هكذا بدأت أكتب القصصَ الى أنْ حالياً أكتب قصة تماماً من خيالي ولكنْ اللغة كانت مشكلتي فما بين العاميَّة والفصحى كنت أكتب بمزجٍ وصعوبة الى أنْ تعلمت من الإنشاء ودرس اللغة العربيَّة في المدرسة ومتابعة أهلي كيف أكتب بالفصحى بدأت أكتب قصصي».
شمس ذات الـ١١ سنة سألتها عن أمنياتها في الكتابة وماذا تَتمنى من مدرستها؟ لتجيب: «كنت أتمنى أنْ يسألني شخصٌ ما هذا السؤال لأنَّه عالقٌ في ذهني لماذا لا توفر المدارس درساً خاصَّاً للمواهب، الفنيَّة والرياضة درسان أخذا منَّا في تكملة الدروس ولكني أتمنى أنْ يكون هناك درسٌ خاصٌّ لكل الموهوبين لتنميتها لمن لديه موهبة كتابة القصة أو الشعر أو التمثيل المسرحي لتقوية ما نكتب ونفعل… وأتمنى كذلك أنْ أصبحَ قاصَّة أو روائيَّة ذات يوم ويشار الى اسمي وقصصي».
بين الموهبة والأهل والتكنولوجيا
سلام موسى المتخصص في توثيق صحافة ومسرح الأطفال تحدث عن إمكانيَّة كتابة الأطفال للأدب بقوله: «من خلال نقلي لبدايات الأدباء ومن خلالهم مباشرة اتضح أنَّ توجههم الأدبي بدأ في المرحلة المتوسطة في جداريات مدرسيَّة، أما الكتابة الأدبيَّة فلم تثمر إلا في عمر الـ15 عاماً والسبب وراء اختيارهم الكتابة من دون الفنون، لوجود معلم لغة عربيَّة حبَّبَ إليهم الإنشاء والمطالعة أو وجود شخصٍ بالعائلة أكبر سناً كان يمتهنُ الأدب فتأثروا به في طفولتهم، قبل هذا العمر لم تمرّ تجربة الكتابة من الأطفال بالنسبة للعراق”. أما السؤال عن إمكانيَّة كتابة الأطفال فأقولها صراحة إنَّ “التطور التكنولوجي من انترنت وهاتف أضعف هذا الأمل علاوة على انحدار التربية والتعليم في العراق الى أدنى مستوى”. مضيفاً: “إنْ استبشرنا بوجود طفلة في العراق تكتب القصص فقد ثبت لنا أنَّ هنالك من يكتب بدلها وما هي إلا ناقلة للكلمات”.
الطفلُ متلقٍ خطير
الفنان والكاتب والأكاديمي أ.د. حسين علي هارف تحدث عن سؤالنا المطروح بقوله: «أدب الأطفال هو الأدب الموجه للأطفال بمختلف فئاتهم العمريَّة وأدب ينتجه أدباءٌ محترفون من شعراء ومسرحيين وقصاصين وروائيين خبروا فنون الأدب مثلما خبروا خصائص الطفولة واحتياجاتها النفسيَّة والاجتماعيَّة والجماليَّة.. وبهذا يكون هذا التوجه أمراً صعباً بل غاية في الصعوبة وقرار الذهاب باتجاهه مغامرة يجب أنْ تكون محسوبة ومدروسة؛ ذلك أنَّ الطفل متلقٍ خطيرٌ لا يجامل ولا يتفاعل إلا مع ما يشده ويقدم له المتعة والمرح ويتماهى مع حواسه ويلبي احتياجاته”.
ويضيف هارف “غير أنَّ هناك أدباً ينتجه الأطفال ذاتهم للتعبير عن أفكارهم وأحلامهم وتطلعاتهم ومعاناتهم، ولهذا النوع من الأدب خصوصيَّة أخرى مثلما له ضرورة جماليَّة وفنيَّة وسايكولوجيَّة، فالطفل واليافع ربما يمتلك القدرة على استكشاف معاناة الطفل وأفكاره، هو يعرف ما يحب ويكره وما يُضحك وما يُبكي أو يخيف.. إنَّ تحفيز الأطفال لولوج عالم الأدب ككتّاب من شأنه تنمية الجوانب الاجتماعيَّة لديهم فضلاً عن الذائقة الفنيَّة والجماليَّة، كما يمكن أنْ يكون ولوج عالم الكتابة الأدبيَّة من قبل الطفل نوعاً من العلاج النفسي والاجتماعي لهم.. فضلاً عن أنَّه يمكن أنْ يكون محطةً ترويحيَّة لهم لتجاوز حالات الملل والرتابة التي قد تنتابهم في الدراسة”. وأشار “أعتقد أننا عراقياً وعربياً بحاجة الى تكريس ظاهرة تشجيع الأطفال والأولاد على الكتابة الأدبيَّة ليكون نتاجهم تعضيداً لما ينتجه الأدباء الكبار لهم، ومن يدري؟ ربما سيكون بعضٌ من هؤلاء الأطفال المنتجين للأدب (السردي أو المسرحي) أدباء المستقبل، أو من متلقي ومتذوقي وجمهور الأدب في أقل تقدير”.
«أوكة» والمواهب
انطلاق محمد الرسامة والناشطة لا تمل ولا تمل عن نشر ثقافة الطفل كتبت لنا قائلة: «برأيي الشخصي يكتب الأطفال واليافعون في الحالات التالية:
الحالة الأولى: الطفل العبقري أو الموهوب وأفكاره التي يكتبها تبهر الكبار وبالذات المختصين بمجال أدب الطفل، وتكون فوق تصورهم. وهذا يحصل في كل الأزمان والظروف.
الحالة الثانية: عند توفير فرصة حقيقيَّة لأطفالنا من خلال ورشٍ يقدمها أهل الخبرة عن معرفة بما يجب أنْ يقدم للطفل، خلالها يتعلم كيف يثق بنفسه ويعبر عن أفكاره ليجسدها في الكتابة كما يحب وعلى فطرته من دون أنْ نمسخه ليكون نسخة عنا نحن الكبار. وممكن تكون ثمار هذه الورشة فوق ما نتصور.
وقد حصل شبيهٌ لهذا الأمر ولكنْ في مجال الرسم نهاية 2018 بداية 2019 عندما دعوت الأطفال من سن شهور الى 10 أعوام للمشاركة برسم شخصيَّة “أوكة” التي لا نعرف لها وجوداً إلا في خيال الأطفال طبعاً ضمن ضوابط وتوجيهات. فكانت النتيجة خلال 20 يوماً على صفحتي بالفيسبوك أنْ شارك 240 طفلاً وطفلة من 16 دولة عربيَّة منها العراق رسموا 864 شخصيَّة أوكة من خيالهم.
الحالة الثالثة: وجوده في وسط فيه معرفة وثقافة وكتب واهتمام حقيقي به كإنسان وما يقدم له لينمو به بالشكل الصحيح والسليم. مثال: عندما تهاجر أسرة من دولٍ ظروفها صعبة ومعقدة لتستقر في إحدى الدول المتقدمة التي تولي الأطفال اهتماماً بالغاً نلاحظ تغير الطفل خلال مدة عام إلى إنسان آخر واثقٍ من نفسه وواعٍ لما حوله ويعرف حقوقه ويحترم نفسه والآخر المختلف عنه ويتذوق الأدب والفن، والمعرفة والكتاب يكونان حاضرين في حياته بشكلٍ فاعلٍ. هنا سيكون ما يكتبه مختلفاً تماماً ونتلمس منه آثار تلك الرعاية.
اتحاد الأدباء والاهتمام بالمواهب
توجهنا بسؤالنا للاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق خاصة مع اطلاعنا على وجود ورشاتٍ كانت لتعليم الأطفال الموهوبين على كيفيَّة الكتابة وتنمية مهارتهم الأدبيَّة، لكنَّ السؤال كان لماذا إذن لم تكن هناك أي مطبوعات لهم مشتركة أو بشكل فردي لتشجيعهم. منذر عبد الحر أمين الشؤون الثقافيَّة في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق أجاب قائلاً: «مِن أولويات العمل الثقافي للاتحاد الاهتمام بالمواهب الجديدة والطاقات الشابة، وهناك مشروعاتٌ وورشٌ تعنى بهذا الأمر، منها ورش تعليم الفتيان والفتيات الكتابة للأطفال، وكذلك ورش كتابة القصة القصيرة، ونقرن هذه الممارسة العمليَّة بتشجيع من يقدم منهم أنموذجاً مقنعاً بالنشر في الصحف التابعة للاتحاد، وكذلك بإشراكهم في الفعاليات التي يقيمها الاتحاد وبالذات «مهرجان جواهريون» المعني بالتجارب الشابة».
وأضاف «إنَّ تشجيع الأطفال على القراءة والكتابة وتنمية المواهب لديهم، قضيَّة جوهريَّة لأنها تعدُّ أساساً لبناء جيلٍ يعتمدُ الأسسَ الصحيحة في الكتابة، وأشير هنا الى عددٍ من النشاطات والفعاليات التي أقامها نادي أدب الطفل في الاتحاد، وهو يراعي الأسس العلميَّة السليمة في التعامل مع جميع المواهب القادرة على الكتابة في هذا المجال الإبداعي الذي هو من أصعب فنون الكتابة الأدبيَّة، فاللغة التي يخاطب بها الطفل لها مواصفات خاصة، والموضوعات التي يتناولها الكاتب يجب أنْ تكون شيقة مقبولة وأيضاً خاضعة لرؤية تربويَّة عميقة، وإضافة إلى نادي أدب الطفل، هناك فعاليات خاصة وسعيٌ لإقامة مؤتمرٍ واسعٍ يخصُّ أدبَ الطفل، ويشجعُ الشباب على الكتابة ضمن ميدانه».
ولفت «على الرغم من نشاطنا المتفاني في هذا المجال الحيوي، يبقى الأمل معقوداً على الجهات والمؤسسات المعنيَّة لأخذ دورها بجديَّة ودعم هذا الفعل الإبداعي الثقافي المهم بما يناسب أهميته وحساسيته وطموحنا للنهوض به».