يوافق زمن كتابة رواية “أشياء تتداعى” للروائي النيجيري شينوا أتشيبي سنة 1959، وهي مرحلة الاستعمار في لحظاته الأخيرة، يمكن أن نتبين رغبة أتشيبي في استحضار ماضي الصدام بين ثقافته وثقافة المستعمر، فهو في متن الرواية يحيل على ثقافة الإيبو بتفاصيلها، وبتراثها الشفهي الغني الذي تحفل به صفحات الرواية، التي يبسط فيها يوميات حياة سكان القبيلة وخاصة البطل “أكونكو”، الذي جعل منه أتشيبي شخصية محورية ومتميزة في نشأته، وفي علاقته بسكان القرية وبالمستعمر، فأحداث الرواية تدور حول مأساة مزدوجة، يتصل أحد وجهيها بقرية أموفيا، والوجه الثاني بالبطل أكونكو، ومع أن حياة البطل يسيطر عليها خوف دائم من الفشل والضعف فقد كان يعمل عملا شاقا وبإصرار ليصبح ناجحا في حياته، ومحترما عند أهل قريته، فضلا عن كونه مقاتلا ومع أنه ليس مجبولا على القسوة، فهو يتصرف بقسوة وذلك بضربه لإحدى زوجاته في مناسبة يحرم فيها الضرب، ويطلق الرصاص على زوجة أخرى فيكاد يقتلها، بل قتل صبيا ثم يقتل أحد أبناء قبيلته برصاصة طائشة، ولهذا كله يعاقب أكونكو بالنفي سبع سنوات في قرية أخرى، ويقضي عقوبته راضيا، ومع أنه يحقق شيئا من النجاح والثراء في منفاه، فهو يشعر باليأس من وجوده، فقد كانت تتحكم في حياته أمور أخرى منها حلمه بأن يصبح أحد سادة القبيلة، وكان ذلك يمثل ربيع حياته وهو لم ينجز شيئا سواه ثم تحطم كل شيء، وخرج من قبيلته وهو “يلهث مثل سمكة أخرجت إلى شاطئ رملي جاف” ولكن السنين تمضي به، فيرى أول طلائع المبشرين المسيحيين في المنطقة، فلما تنقضي العقوبة ويعود إلى قريته يكتشف أن المبشرين أقاموا الكنائس وعسكروا داخل القرية، وعند ذلك يغضب ويثور ويحارب رجال الإدارة الاستعمارية، حتى يقتل رسولا بعث لإيقاف اجتماع القبيلة الذي دعا إليه أكونكو، ولكنه سرعان ما يجد نفسه وحيدا في هذا الصراع الجديد، فقد انقسم القرويون وتداعت الوشائج، وفي غمرة من الإحساس بالإحباط والفشل سيشنق نفسه.
وسنتناول في هذا المقال اللغة باعتبارها مكونا مهما من مكونات الهوية وعنصرا أساسيا في الكتابة التي تعتبر آلية ضرورية في تشكيل الرواية وذلك لأن اللغة الروائية “في حد ذاتها فن جمعي في التعبير، وتنطوي على عدد معين من العوامل الجمالية الصوتية، والإيقاعية والرمزية والصرفية، التي لا تشاركها بها تماما أية لغة أخرى”[i]، وذلك لاعتبارات خارجية مرتبطة بالسياقات، وبالدوافع المحيطة بالروائي، وداخلية مرتبطة بالأساس بشخصية المبدع وما يتشكل داخله من رؤى لفردانيته أولا، ولانتمائه الذي يرى أنه يضمه، كالانتماء العرقي والديني والوطني… وهذا ما يشكل وعي الروائي، ويظهر في ثنايا الإبداع، فهو يعكس قضايا مؤرقة وأسئلة راهنة أو قادمة تحتاج لقراءة واعية، وهنا تحضر الرواية كنوع واع من الحضور، الذي يمكن في حالات كثيرة أن يحقق للذات جماعية كانت أو فردية، وجودا تشكل صفحات السرد أحد معالمه أو أهمها، لأن أهم ما يميز الشخصية الزنجية هو حاجتها لامتلاك لغة البيض، أي الأداة التي ستتيح ل(الذات الزنجية) بأن تكون أكثر معرفة بالآخر في سياق تعتبر فيه الرسالة الأدبية أكثر عمقا في اختراق مساحات الصراع، عبر أداة اللغة التي لم تكن فقط خيارا بالنسبة للروائي، بل ضرورة أملتها نظرة واعية لموازين القوى وسياقات الصراع التي تفترض امتلاك سلاح لغوي في خدمة الذات، وهذا ما يؤكده الرجوع إلى النسخة الأصلية، وإلى تجربة أتشيبي ضمن ما يعرف بالنظرية الزنجية.
هنا نستحضر تجربة أتشيبي، في روايته أشياء تتداعى، حيث إن الروائي ينطلق من انتمائه باعتباره إفريقيا زنجيا، تمثل ذاته في ظل الاستعمار الغربي، وباعتباره مهمشا ضمن مهمشين آخرين، عانوا من الإمبريالية، وتركت في ذواتهم جروحا تنزف دون توقف، وخصوصية أتشيبي هنا تتمثل في نشاطه الثقافي، فهو مثقف نيجيري يدرج ضمن رواد الحركة الزنجية، التي كانت رد فعل على العدوان الغربي الحداثي، وهو حامل لفكر ما بعد كولونيالي متسام عن الفوارق الفيزيولوجية والابيستيمولوجية والتاريخية…. التي رسختها عقلية الغربي المعتدي، وهو أيضا مؤمن بضرورة الرد على الاعتداء بمثله ليس شكلا، لأن الفوارق التكنولوجية لا تسمح بهذه الإمكانية، بل الرد كتابة ومقابلة العنف برد مختلف شكلا ومضمونا.
وهنا نستحضر ما جاء به بيل اشكروفت، “كان الإصرار على الدور الاجتماعي للفن الإفريقي من أهم الملامح وأكثرها تمييزا لتأكيد وجود جماليات إفريقية متفردة”[ii]، ومن أجل الذات سيتحرك السرد ليرد على سنوات الاضطهاد، والسيطرة والظلم… عبر نصوص تعيد قراءة الفضاءات المستسلمة لإرادة القوي، وللأزمنة التي سردتها كتب التاريخ والإبداع وحددت المواقف من تجارب عاشها الإنسان ويعيشها.
الرد كتابة، نشاط مارسه رواد الزنجية الأفارقة، وواجهوا به جبروت المستعمر، وهيمنة الغربي التي ترجمت عبر تبشير يحول الزنوج إلى مسيحيين بالقوة، وهذا ما استقبل بانتفاض الشخصية الرئيسية في الرواية، تلك الشخصية التي لا تحدد من خلال خصائصها الذاتية، بل تتحدد أساسا عبر انتمائها إلى هذه الفئة أو تلك، وبعبارة أخرى، فإن السارد يقوم بإسقاط مجموعة من الخصائص الأخلاقية والسياسية والاجتماعية، التي تعود إلى طبقة اجتماعية ما على شخصياته”،[iii]حيث إن بطل الرواية “اكونكو” رفض التمسيح والتغريب وقاومه، فشكل الذات المقاومة بالفعل، فهو البطل المقاوم، الذات الحاضرة أو التي شكلت الحضور المطلوب رده على المعتدي، وهنا اللغة الروائية تصنع البطل المرغوب رغم النهاية المأساوية بالانتحار، وهي لغة “إنجليزية زنجية”، أي أنها شكل لغوي مقاوم لفظا عبر توظيف لغة العدو، لغة السيد المتحضر الذي يفتخر بذاته وتحضّره لكنه في تعامله مع الآخر، يتناسى الشعارات ليظهر على حقيقته مستغلا ونفعيا، وهي أيضا مقاومة عبر تشكل معانيها وصورها من الثقافة الإفريقية المحلية، فهؤلاء الزنوج، كانت لديهم ردود أفعال قديمة ومعقدة، تجاه تهميشهم من جانب الرؤية العالمية التي كانت تنطوي ضمنا على أساس اكتساب الانجليزية، وسواء حلت اللغة الانجليزية محل لغة الكاتب الأم أو قدمت ببساطة أداة وسيطة بديلة تضمن وجود انفصال بين إدراك العالم والتواصل معه.”[iv] إذن فاللغة تمثّل لشكل تعبيري يحكي اللقاء الصدامي بين المركز والهوامش، وهي شكل ثالث من اللغة فلا هي إنجليزية الشمال ولا هي افريقية، فهي تجمع بين النقيضين، الانتماء التاريخي للغرب والانتماء الذي تلا الاستعمار للدول المهمشة فهي غنيمة من غنائم حروب الأساطيل الإمبريالية، التي قدمت منذ القرن التاسع عشر بحثا عن العبيد والمواد الخام التي تحتاجها الصناعات الأوروبية.
إن المقاومة تمرد على وضع بلغ قمة الانفجار، فالأنا ترفض الآخر وشكل وجوده، وتبحث عن مخرج للوضع المزعج، فكان الزنجي عبر تجربة مريرة من الظلم الطويل، يتمثل تاريخه مسترجعا ذاته الماضية المستغلة، ذاته الجماعية السليبة لأنها منذ الاستعمار لم تعد كما كانت، ولن تعود أبدا كما كانت،لأن الحضارة الغربية فرضت عليه انحرافا وجوديا[v] لكن هذه الذات الجماعية التي تبدو في الرواية مستسلمة ومتداعية، تشكل الكائن الجبان، الذي رغم ضعفه يخرج من داخله فرد يرفض الأوضاع ويجابه الفعل برد الفعل، يرفض التبشير ويرفض كل ما ينتمي لذاك الأبيض، الذي خلخل كل شيء، هنا يعود الصراع بين فرد ممثل لثقافة الذات الجماعية، أسطورة ودينا ومعتقدات ونشاطات يومية…وبين ذوات غربية، تحفر في ثقافة الزنجي يوميا وتدفعها نحو التداعي والسقوط، وتداعي الأشياء في الرواية تذكير للمعتدي باعتدائه وجريمته، وعبر لغته، ومن خلال معان تزعزع ثوابت وشعارات، ظل يرددها الكتاب الغربيون، وسردهم الذي حقق الشهرة والعالمية عبر فرض منظورهم للأشياء والعالم، هذا المنظور الذي لم يجد ردا، إلا تشكيلا سرديا مماثلا قادما من هوامش العالم، والذي يتيح إمكانية الهروب من سياسات الهيمنة والتبعية”[vi]سرد مواز بحروف تحمل ثقافة، من ظل تحت السيطرة، وظل بدون صوت، ولم يتحقق له الوجود، ولو كتابة، إلا بعد أن برزت مرجعيات مابعد حداثية، تبنتها نخب ثقافية تنتمي لبلدان الهامش، و دفعت في اتجاه الرد بالكتابة بعد أن كانت حركات التحرير تقاوم بالسلاح، تحول السلاح سردا لا يقبل وضع الخضوع، ويدافع عن حياة احتفظت بخصوصياتها لأزمنة طويلة، إلا أن الحال تغير مع قدوم جحافل الجيوش الغربية.
إن التأكيد على دور المثقف في المجتمع، وفي تشكيل منظور مميز للأشياء والكيانات، أهم ما يمكن أن يقوم به، باعتباره دورا واجبا تفرضه حقيقة التجاذب الثقافي، والصراعات المحتدمة على طول العصور المعيشة، وفعل يساهم في الحفاظ على متانة الروابط المجتمعية، على اعتبار قدرته على رؤية خاصة، تستفيد من رصيد معرفي واع يتمثل هوية الذات وقيمها التي لا تقبل التفريط فيها، ولا يمكن أن تشكل مجرد سلوكيات ومعالم شكلية يجوز القفز عليها، فالصراعات الثنائية التي أفرزتها النزاعات السياسية والحروب العسكرية، دفعت المثقف للصفوف الأمامية في صدام الهويات المتنازعة والمتناحرة، ومن المهام المنوطة بهذا المثقف، “انه يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل مابين البشر”[vii].وأتشيبي في روايته، يصرح بل يدق ناقوس الخطر محذرا من نهاية مرتقبة لهوية الزنجي، بحكم حالة عدم الثبات التي خلفتها مرحلة الاستعمار، فالروائي يستفيد من الإبداع الروائي لانتزاع حق ضائع، وتقديم منظور جديد لغة وقيما، يقوم على تأكيد الحق في الاختلاف والحق في الوجود، والاحتفاظ بثوابت الهوية المحلية، وتقويض الخطابات التي رأت فيها شكلا دونيا من الوجود، وتعبيرا بشريا بدائيا، يجب تجاوزه عبر تبني النموذج “الأفضل”، النموذج الغربي بما يحويه من أشكال الاعتقادات التي تسقط في الذاتية الاقصائية والمتعالية، وجاءت لإفريقيا وآسيا لتستغل المهمشين، وتضعهم في موقف التابع الذي يتتبع مسار الشكل الأوروبي والانتقال من خصوصية وجود، إلى نمط ينتج نسخا غربية غريبة، والمثقف الزنجي في هذا السياق المعقد، سعى لأخذ موقف عضوي، وهذا ما شكلته رواية أشياء تتداعى فكانت لغتها موقفا جماليا، وموقفا سياسيا، ورد فعل يعبر عن أحقية التابع في التكلم والكتابة، لأن السرد فيها أخذ تميزه من كونه يرد بشكل يحيي ماضي الإمبريالية، ويوجه أصابع الاتهام لمن هدم ثقافة الزنوج الشفهية، ودوّن سرده الخاص الذي حطم سلام وجود لم يكن ذنبه إلا سلميته.
إن استحضار السرد عبر نموذج رواية أشياء تتداعى، هو استرجاع لحدث حفر ندوبا عميقة في هوية من كان موضوعا للهيمنة والسيطرة، لقد أحالت الإمبريالية الزنجي إلى كائن مريض، إلى عصابي يحاول تأكيد وجود مستقل عن أضرار اللقاء مع الغربي القادم من أجل أسبابه الخاصة، التي شكلت منظورا يتخذ الآخرين ذواتا ثانوية، يتلخص دورها في الدوران في فلك المركز الأوروبي، وأتشيبي تعمد توظيف لغته، لضرورة إبداعية وهي منحها إمكانية تسويقية كبيرة تفتح أبواب العالمية، ولضرورة تستقي أهميتها من قوة الإبداع في تبليغ الرسائل المباشرة والغير مباشرة، وفي الحالتين، تتشكل قنطرة تفاعلية تحقق وجودا معرفيا وتأكيدا لذاتية تصر على التمسك بخصوصيتها، وكتابة تاريخ مواز، تاريخ مقاوم لأمواج السرود الغربية التي احتلت الساحة الثقافية العالمية، فكانت لغة أتشيبي عملية واعية حركت المياه الراكدة، وجعلت القراء يعيدون استرجاع معاناة طوتها صفحات التاريخ، وساهم رواد الحركة الزنجية على اختلاف مواقفهم من الوقوف أمام الواقع الظالم، وقول الحقيقة في وجه الساسة والمبدعين، وتحقيق عالمية مقاومة، تسعف في إيقاف التداعي وبعث أمل في عودة، و في رجوع للذات وإعادة الاعتبار لها.
تعد اللغة الإنجليزية عند أتشيبي، الأداة والوسيلة التي تساعد على تجاوز الهوة الثقافية بين الذات المتخلفة والآخر المتقدم، هي اللغة التي شكلت الرد المناسب لذلك المستعمر العدواني، فكانت لغة تحاور المحليين الزنوج لتذكرهم بذواتهم السابقة، وبهويتهم ذات الجذور العريقة التي تحولت لشكل ناسخ لثقافة الآخر، فكانت “الأشياء تتداعى”، أكثر من رواية وأوسع من تأريخ لفعل هيمنة وسيطرة، فهي سرد يرد بالمعاني والألفاظ، ويرسم تاريخا جديدا بإنجليزية تحتفظ بالخصوصية وتبحث عن العالمية، وهي عالمية بلغها أتشيبي لأنه وعى بذاته وبالآخر، وبتفاصيل العلاقة التاريخية والثقافية والتي سطرتها صفحات العمل الروائي.
الهوامش
1- إدوارد سابير وآخرون: اللغة والخطاب الأدبي (مقالات في الأدب)،ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي بيروت، ط.1 1993 ص33
[1]-بيل اشكروفت، الرد بالكتابة،النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة،ترجمة شهرت العالم، الطبعة الأولى،بيروت مارس2006، ص208.
-[1]سعيد بنكراد: سيميولوجية الشخصيات “رواية الشارع والعاصفة لحنا مينا نموذجا دار مجدلاوي الطبعة الأولى، ص113
[1]- بيل اشكروفت، مرجع سابق، ص52
[1]- فرانز فانون، بشرة سوداء أقنعة بيضاء تعريب احمد خليل، دار الفارابي الدار البيضاء2004، ص12
[1]- بيل اشكروفت، مرجع سابق، ص12
[1]- إدوارد سعيد،المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني الطبعة الأولى، ص12.