وقع فى يدى منذ نحو عشر سنوات كتاب “مقدمة للشعر العربى” لأدونيس، وأخذت أقرأ فيه، لكننى اصطدمت بعدة أشياء نَفَّرَتْنى من المضىّ معه إلى آخر الشوط. وبين الحين والحين كنت أعود إلى الكتاب فلا أجد فيه ما يغرينى على الاستمرار فى قراءته إلى النهاية. لقد كان مملوءا بالمتناقضات، وكان يستخلص أغرب النتائج وأخطرها وأبعدها عن الحقيقة من جملة مقتطعة من بيت شعرى أو نصف جملة. وفى الفصل الخاص بالشعر الجاهلى استند الكلام من أول الفصل إلى آخره إلى بضعة أبيات ليس إلا ذكرها الكاتب فى الهوامش فى آخر الفصل، ولم يكلف نفسه إيرادها فى درج الفصل ذاته، مكتفيا بسَوْق جملة من بيت أو نصف جملة من بيت آخر. وهذه هى كل البضاعة التى اعتمد عليها فى تقرير ما قرره من نتائج خطيرة وغريبة. كذلك كان مما نفّرنى من الكاتب وكتابه أن كلامه فى معظم الأحيان يفتقر إلى المعنى، أو يدابر المنطق مدابرة مخزية، وكأن كاتبه قد حُرِم نعمة الإبانة والتفكير السليم تماما. كما وجدت من السهل الميسور العثور فى الشعر الجاهلى على ما ينسف ما يقوله أدونيس نسفا لا يبقى على شىء مما كتبه أو يذر.
وظل الحال هكذا كلما نويت أن أقرأ الكتاب كاملا، إذ كنت أعجز عن المضى فيه إلى خط النهاية… إلى أن صح منى الإصرار على أن أكتب عن أدونيس ومقدمته بعدما انتهيت من تأليف كتابى عن رب السيف والقلم محمود سامى البارودى، الذى ألفيت أدونيس فى كتابه: “الثابت والمتحول” ينفى عنه أية قيمة فنية حاصرا قيمته فى الناحية التاريخية. يقصد أن أشعار البارودى العملاق لا تساوى شيئا من الناحية الأدبية، لكنْ من الممكن التعامل معها بوصفها وثائق تاريخية تلقى بعض الضوء على وقائع الفترة التى عاش فيها الباوردى واشترك فى الثورة العرابية وما إلى ذلك. واستغربت أن يتطاول الأقزام على العمالقة العظام بهذه السهولة. فعندئذ نويت نية قوية هذه المرة أن أبدأ قراءة الكتاب قراءة من يعزم الكتابة عنه. وقد كدت أؤجل المشروع هذه المرة أيضا لولا أن نيتى كانت من القوة والإصرار بحيث لم أستسلم لهذا التردد، بل فتحت الكتاب وبدأت أسجل ملاحظاتى على ما كتبه الرجل أولا بأول، فكان هذا المقال الطويل نسبيا والذى خصصته للفصل الأول من الكتاب، وهو الفصل الذى يتعامل مع الشعر الجاهلى، واكتفيت به لأن أدونيس يكرر نفسه واقعا بطول الكتاب فى ذات العيوب القاتلة التى ارتكس فيها خلال ذلك الفصل، وأشفقت على القراء من تصديع أمخاخهم بثرثرته وشقلباظاته التى يحاول أن يخيِّل بها لهم أنهم أمام ناقد نحرير بكلامه المجعلص الذى لا يشتمل فى كثير من الأحيان على أى معنى والذى يترك الرجل لقلمه العنان أثناءه يقول أى كلام، والسلام.
وكنت أستغرب أن يكون عند أحد هذا الصبر الطويل الممل فى كتابة كلام لا معنى له، أو كلام يتناقض من سطر إلى آخر، أو كلام يخالف ما تقوله نصوص الشعر الجاهلى. ورغم ذلك فقد حسدت أدونيس! نعم حسدته على ذلك اللون من الصبر، الذى أثبت أنه عبقرى فى ميدانه. وكيف لا يكون عبقريا، وقد ألف كتابا ترك فيه لقلمه العِنَان يقول ما يخطر له على راحته، أى ما يخطر للقلم، والقلم كما تعرفون جماد لا يحس ولا يعقل ولا يفهم، فكان أمامنا كتاب كامل وإن كان صغير الحجم، لكنه على كل حال كتاب. ووجه حسدى لصاحب الكتاب أن مثلى لا يستطيع أن يكتب شيئا إلا بدليل، وأن يكون كلاما مفهوما تسنده النصوص الوثيقة، وألا يعج بالأخطاء التاريخية البلقاء التى لا يمكن إيجاد العذر لصاحبها. والآن مع الكتاب، أو بالأحرى: الكُتَيِّب! وقد نشرته دار العودة فى بيروت عام 1979م، ويقع فى نحو140 صفحة تبتدئ باستهلال، ثم ثلاثة فصول: واحد بعنوان “الماضى”، والثانى بعنوان “الحاضر وبدايات التحول”، والثالث والأخير بعنوان “آفاق المستقبل”.
والآن مع الكتيب حيث نجد أدونيس فى “الاستهلال” يدعو إلى تجاوز الأنواع الأدبية. ومعنى هذا أنه لم يعد هناك فى رأيه شىء يسمى: الشعر أو المقال أو القصة أو الرواية أو الرحلة… إلخ، بل الكتابة، والكتابة ليس إلا، إذ قال إن من أهدافه فى ذلك الكتيب “تجاوز الأنواع الأدبية (النثر، الشعر، القصة، المسرحية… إلخ) وصهرها كلها فى نوع واحد هو الكتابة”، وهذا نص كلامه بالحرف، لنفاجأ عقيب ذلك بقوله إن كُتَيِّبَه يعمل على وضع الإبداع والنتاج الشعريين العربيين فى منظور التجاوز الدائم وتقييمهما استنادا إلى هذا المنظور…[1]. وهو ما يعنى بمنتهى الوضوح أنه ما زال وسيظل يتعامل مع الشعر على أنه شعر، أى بوصفه لونا من الإبداع مستقلا، وليس مجرد كتابة غير محددة الجنس الأدبى. وهذا تناقض واضح يدل على أن أدونيس لم يحكم رأيه، ولا الأمور واضحة فى ذهنه، فهو يتناقض من سطر إلى السطر الذى يليه. فكيف يمكن الاطمئنان إلى فكر رجل مثله متمرد لا يعجبه العجب ولا الصيام فى رجب رغم أنه بهذه الدرجة من التسيب فى الرؤية والأفكار، ثم هو يريد ويريد الحواريون الذين يتبعونه اتباعا أعمى أن نأخذ كلامه مأخذ الجد وأن نتعامل معه بوصفه مجددا فى الرؤية النقدية والإبداع الشعرى جميعا؟ ما شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، الذى أنزل أدونيس إلى الدنيا عبقريا جاهزا مكتمل العبقرية، فهو عبقرى يوم وُلِد، وسيظل عبقريا إلى يوم أن يموت بعد عمر طويل طبعا، ثم إنه سوف يكون عبقريا كذلك يوم يُبْعَث حيا، فتكون له الريادة والسيادة والعمادة فى ميدان الشعر والنقد دنيا وأخرى! أما سائر الناس فلهم رب اسمه “الكريم”!
على أن الأمر لا يقف مرة أخرى عند هذا الحد رغم أننا لا نزال حتى الآن فى القول الأدونيسى السابق بل يتعداه إلى اعتبار آخر جديد فى ذلك القول الذى يؤكد فيه أدونيس أن أحد الأهداف الأخرى للكتاب هو “وضع الإبداع والنتاج الشعريين العربيين فى منظو ر التجاوز الدائم وتقييمهما استنادا إلى هذا المنظور”. وبهذا “لا تكون قيمة النتاج أو الإبداع فيما يعكسه من أبعاد الثورة المتحققة بقدر ما يكون فيما يختزنه من أبعادالثورة الآتية”[2]. وأنا، فى الحقيقة، لا أدرى كيف يكون ذلك إلا أن يهب الله النقاد المقدرة على معرفة الغيب، الذى لم يتحقق بعد، بالشَّم على ظهر أيديهم ليعرفوا أبعاد الثورة الآتية من خلال النظر إلى الثورة المتحققة. كذلك فهذا الكلام لا يعنى إلا أننا لن نرضى أبدا بما يبدعه أى شاعر. ذلك أننا سوف نظل مترقبين ما سوف يتحقق لا ما تحقق فعلا، وهو ما لن يقع فى أى يوم من الأيام لأننا حين نصل إلى ما سوف يتحقق فسوف يصير فى الحال شيئا قد تحقق وانتهى أمره، ولم يعد شيئا سوف يتحقق. وهو ما يذكرنا بالنكتة التى تقول إن أحد الحلاقين وضع لافتة على باب دكانه تبشر الناس الذين يريدون أن يحلقوا شعورهم وذقونهم مجانا بأن “الحلاقة غدا مجانا”! فكان كلما أتاه أحد يريد أن يحلق بالمجان قال له: انظر إلى اللافتة. إنها تقول: “غدا”، فهل جاء الغد؟ وعلى هذا فكل ما أنتجه أدونيس من شعرٍ، أو بالأحرى: من كتابةٍ، ليس شيئا ذا قيمة، إذ علينا أن ننتظر إلى أبعاد الثورة الآتية لا إلى الثورة المتحققة التى بين أيدينا. أليس هذا هو لازم كلام عبقرينا الذى ليس كمثله عبقرى بل ليس ثمة عبقرى سواه؟
فإذ انتقلنا إلى القسم الأول من الفصل الأول من الكتاب، وهو القسم الذى يخصصه عبقرينا للحديث عن شعراء الجاهلية وأشعارهم وموقفهم من الحياة وفلسفتهم فيها، وعنوانه: “القبول”، ألفيناه يستخلص هذه المواقف وتلك الفلسفة من بضع جُمَل أو أنصاف جُمَل مقتطَعة من بضعة أبيات شعرية منسوبة إلى شعراءَ ينتمون، حسب كلامه، إلى فترة ما قبل الإسلام ويمثلون النموذج الجاهلى المطلق هم الأفوه الأَوْدِىّ وكعب بن سعد الغَنَوِىّ وعَدِىّ بن زيد العِبَادِىّ وحاتم الطائى وجِرَان العَوْد النُّمَيْرى وبشر بن أبى خازم الأسدى والمهلهِل بن ربيعة التغلبى وعبد الله بن سَبُرَة الحبشى وزُفَر بن الحارث الكِلاَبى.
وقد لاحظت أن بعضا من هؤلاء الشعراء لم يكونوا جاهليين، بل مخضرمين: فجِرَان العَوْد مات سنة ثمان وستين للهجرة بعدما أسلم وظهر أثر القرآن فى شعره. أى أنه عاش بعد مجىء الإسلام أكثر من ثمانين عاما. ومعنى هذا أنه لا يمكن أن يكون قد قضى من عمره فى الجاهلية ما قضاه من عمره بعد الإسلام[3]. وبالمثل لم يكن أمية بن أبى الصَّلْت جاهليا بل مخضرما، إذ أدرك النبوة، بل طمع فى أن يكون نبيا. وفضلا عن هذا كان متأثرا بالكتب السماوية السابقة على القرآن، فكان يذكر الآخرة ويذكر الله فى شعره. ومن ثم لا يصلح الاستشهاد بشعره على رؤية الجاهليين للحياة والموت.
ومن بين من استشهد أدونيس بجملة أو نصف جملة من شعرهم عَدِىّ بن زيد العِبَادِىّ وحاتم الطائى: فأما بالنسبة لحاتم فكانت النصرانية منتشرة فى طيئ[4]، كما كان ابنه عدى نصرانيا، إذ جاء فى “البداية والنهاية” لابن كثير: “عن عدي بن حاتم كان يقول: … كنت امرءا شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع. وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي… فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت..: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام…”. وفى كتاب “التوحيد” لابن خزيمة عنه أيضا: “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فقال: يا قوم، هذا عدي بن حاتم. وكنت نصرانيا…”. وهناك من يقول بنصرانية حاتم، ففى ترجمة حاتم الطائى فى “الويكيبيديا”، فى نسختيها الإنجليزية والفرنسية، وكذلك فى “ويكى مصدر” أيضا، أنه كان نصرانيا.
وأما عدى بن زيد فلم يكن نصرانيا فقط، بل كان يدعو غيره إلى التنصر، ومنهم الملوك. ففى “الأغانى”: “خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد ومعه عدي بن زيد، فمروا بشجرةٍ، فقال له عدي بن زيد: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: لا. قال: تقول:
رُبَّ رَكْبٍٍ قد أناخوا عندنا * يشربون الخمر بالماء الزلال
عَصَفَ الدهرُ بهم فانقرضوا * وكذاك الدهرُ حالاً بعد حال
قال: ثم جاوز الشجرة فمر بمقبرةٍ، فقال له عدي: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه المقبرة؟ قال: لا. قال: تقول:
أيها الرَّكْب الـمُخِبُّو * ن على الأرض الـمُجِدُّون
فكما أنتم كنا * وكما نحن تكونون
فقال له النعمان: إن الشجرة والمقبرة لا تتكلمان. وقد علمتُ أنك إنما أردت عظتي. فما السبيل التي تُدْرَك بها النجاة؟ قال: تَدَع عبادة الأوثان، وتعبد الله وتدين بدين المسيح عيسى ابن مريم. قال: أَوَفِي هذا النجاة؟ قال: نعم. فتنصَّر يومئذ. وقد قيل: إن هذه الفصة كانت لعدي مع النعمان الأكبر بن المنذر، وإن النعمان الذي قتله هو ابن المنذر بن النعمان الأكبر الذي تنصر”. وتحدث كارلو نالينو عن نصرانية عدى بن زيد ووقف عند سمة الزهد فى شعره غير مستبعد أن يكون هذا الشعر هو الأنموذج الذى احتذاه شعراء الزهد الإسلامى كأبى العتاهية مثلا[5]. فكيف بالله يتخذ أدونيس من شعر هذا الرجل النصرانى شاهدا على الرؤية الجاهلية للحياة والموت؟ ألا إن لك لغريب. الحق أنه ما كان يصح له أن يستظهر بشعر أولئك الشعراء بوصفه معبرا عن النفسية الجاهلية الوثنية وموقفها من الحياة والموت.
كذلك كان تميم بن مقبل جاهليا إسلاميا كما وصفه ابن قتيبة فى ترجمته له فى “الشعر والشعراء”، أى مخضرما لا جاهليا كما يريد أدونيس أن يكون. بل لقد عاش تميم إلى ما بعد وفاة عثمان بن عفان ورثاه. وقد أورد ابن قتيبة رثاءه لذى النورين رضى الله عنه. ومات الرجل سنة سبع وثلاثين للهجرة. ومع ذلك كان أحد الشعراء القلائل الذين ذكرهم أدونيس واستشهد بشعرهم مستخلصا من هذا الشعر فلسفة الجاهليين وموقفهم من الحياة. وهذا هو نصف الجملة الذى أورده أدونيس لذلك الشاعر: “لو أن الفتى حَجَرٌ”[6]، وهو مأخوذ من قصيدة تبتدئ بقوله:
وليْلَةٍ مِثْلِ لَوْنِ الفِيلِ غَيَّرهَا * طُمْسُ الكَوَاكِبِ والبِيدُ الدَّيَامِيمُ
ومنها قوله:
إِنْ يَنْقُصِ الدَّهْرُ مِنِّي فَالْفَتَى غَرَضٌ * لِلدَّهْرِ: مِنْ عُودِهِ وَافٍ ومَثْلُومُ
وإِنْ يَكُنْ ذَاكَ مِقْدَارًا أُصِبْتُ بِهِ * فَسِيرَةُ الدَّهْرِ تَعْوِيجُ وتَقْوِيمُ
مَا أَطْيَبَ العَيْشَ لَوْ أَنَّ الفَتَى حَجَرٌ* تَنْبُو الحَوادِثُ عَنْهُ وَهْوَ مَلْمُومُ
لاَ يُحْرِزُ المَرْءَ أَنْصَارٌ ورَابِيَةٌ * تَأْبَى الهَوَانَ إِذَا عُدَّ الجَرَاثِيمُ
لاَ تَمْنَعُ المَرْءَ أَحْجَاءُ البِلاَدِ ولاَ * تُبْنَى لَهُ في السَّمَواتِ السَّلاَلِيمُ
فَقَدْ أُكَثِّرُ لِلْمَوْلَى بِحَاجَتِهِ * وقَدْ أَرُدُّ عَلَيْهِ وَهْوَ مَظْلُومُ
حَتَّى يَنُوءَ بِمَا قَدَّمْتُ مِنْ حَسَنٍ * إِنَّ المَوَالِي مَحْمُودٌ ومَذْمُومُ
في دَارِ حَيٍّ يُهِينُونَ الِّلحَامَ، وهُمْ * لِلجَارِ والضَّيْفِ، يَغْشَاهُمْ مَكَارِيمُ
قَدْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَالَ المَرْءِ يَتْبَعُهُ * حَقٌّ عَلَى صَالِحِ الأَقْوَامِ مَعْلُومُ
وفى القصيدة مَعَانٍ إسلاميةٌ واضحةٌ، فلا تصلح من ثم للتدليل على موقف الجاهليين من الوجود، إذ هى فى الغالب قد نُظِمَتْ فى الإسلام: من ذلك كلام الشاعر عن المقدار، أى القَدَر، وكلامه عن السلالم التى لو صعد فيها الإنسان إلى السماء فلن تنجيه من الموت، وكلامه عما فى مال كل امرئ من حق معلوم يحرص الصالحون على إيصاله لأصحابه. قال تعالى: “وكل شىء عنده (أى عند الله) بمقدار”، “أينما تكونوا يدركْكم الموت ولو كنتم فى بروجٍ مُشَيَّدَة”، “فإن استطعتَ أن تبتغىَ نَفَقًا فى الأرض أو سُلَّمًا فى السماء فتأتيَهم بآية”، “والذين فى أموالهم حَقٌّ معلومٌ * للسائل والمحروم”. وما من أحد تقريبا من الصحابة مات إلا وقام مَنْ يرثيه من أهله معبرا عن حزنه وشديد لوعته. وكان ذلك الجيل قمة فى الإيمان بالبعث والحياة الآخرة، فما بالنا بمن أتى بعدهم منذ ذلك الحين حتى الآن، بل حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟
وفى الإصحاح الثانى من سفر “التكوين” فى العهد القديم نجد أن الموت عقوبة حتمية لا فكاك منها جزاء وفاقا على معصية آدم لربه إذ نهاه عن الأكل من الشجرة إلا أنه ضعف وأكل منها: “15وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. 16وَأَوْصَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ قَائِلاً: «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، 17وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ»”. وفى الكتاب المقدس لا يُذْكَر الموت إلا ذكرا حزينا. ولن أقف إلا عند الليلة التى يقول كتبة الأناجيل إن السيد المسيح كان يعرف أنه سوف يموت خلال ساعات منها، فماذا نرى؟ لقد تحدثت الأناجيل عن الحزن الأليم الذى غزا نفسه رغم أن تلك الأناجيل هى ذاتها التى قالت إنه، يوم القيامة، سوف يجلس عن يمين أبيه فى السماوات. أى أن التبشير بذلك المصير الجليل لم يمح من نفسه عليه السلام حزنه بسبب الموت. يقول الإصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى: “36حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ: اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ. 37ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. 38فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ…”.
أما عبد الله بن سَبُرَة الحرشى فشاعر إسلامى شارك فى فتوح العراق، وفى شعره غيرة على المبادئ الإسلامية. ورغم هذا يُدْرِجه أدونيس فى شعراء الجاهلية ممن كانوا يمثلون النفسية الوثنية التى يرعبها الموت لأنها لا تؤمن بحياة بعده. فتأمل، أيها القارئ، واعجب. ويبقى زُفَر بن الحارث الكلابى، وأمر أدونيس فيه أضل سبيلا، إذ هو تابعى مات فى خلافة عبد الملك بن مروان سنة سبعين ونيف للهجرة.
ولنفترض أن هؤلاء الشعراء كلهم جاهليون صميمو الجاهلية، فهل كان الجاهليون كلهم على بكرة أبيهم لونا اعتقاديا واحدا حتى نضعهم كلهم فى سلة واحدة؟ ترى بالله كيف نسوى بين الجاهلى الوثنى والجاهلى اليهودى والجاهلى النصرانى والجاهلى الحنيفى؟ وهل الجاهليون هم وحدهم الذين كانوا يَرَوْن الموت أمرا محتوما لا مَعْدَى عنه، ويكرهونه ولا يرتاحون إليه، ولا يجدون فى الحياة غبطة حقيقية؟ إن الناس كلهم يرون الموت أمرا حتميا. أم هناك من يرى عكس ذلك؟ فأَرِنَاه يا عم أدونيس، ولك المثوبة من رب العباد! كما أن النفور من الموت شعور فطرى مغروس فى أعماق نفوس البشر جميعا. يقول القرآن: “إنك ميت، وإنهم ميتون”، “كل من عليها فان”، “فلولا إن كنتم غير مَدِينِين * تَرْجِعونها (أى ترجعون الروح عند مفارقتها الجسد) إن كنتم صادقين؟”. وفى الحديث النبوى الكريم: “ما أنزل الله من داء إلا أنزل معه دواء: عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهِلَه من جَهِلَه، إلا السام. قيل: يا رسول الله: وما السام؟ قال: الموت”. وكثيرا ما كان الشعراء العرب فى مرثياتهم يذكرون الجبابرة كفرعون وعاد وثمود وتُبَّع مؤكدين أنهم قد خضعوا لما يخضع له البشر جميعا من الهلاك والموت، ولم يفلتوا من حتميته.
ولأمر ما كان مدخل إبليس إلى عقل آدم وقلبه حين أراد أن يغويه ويغريه بالمعصية التى انتهت به إلى الخروج من الفردوس هو أنه سوف يدله على شجرة الخلد. ولقد ورث أبناء آدم عن أبيهم آدم هذا الغرام بالخلود والنفور من الموت. ونحن المؤمنين بالآخرة نكره الموت: لنا أو لأحد من أحبابنا، وإذا ما نزل هادم اللذات ومفرق الجماعات بمن نحب تألمنا وحَزِنّا. ولقد سُمِّىَ العام الذى ماتت فيه خديجة وأبو طالب بـ”عام الحزن” لِمَا نزل بالنبى جَرَّاء موتهما من ألم وأسى. وعندما مات ابنه الصغير إبراهيم فى أخريات حياته بكى ألما. ولما مات صلى الله عليه وسلم لم يصدق بعض كبار الصحابة الأمر، وحزن الجميع حزنا شديدا، وكان حزن أمهات المؤمنين أشد.
إذن فقد طاشت رَمْيَة أدونيس فلم تصب الرَّمِيَّة. لو أنه قال مثلا إن الجاهليين الوثنيين لم يكونوا يجدون فى عقيدتهم الوثنية التى لا موضع فيها للإيمان بالعودة الأخروية ما يعزى قلوبهم ويخفف من أحزانهم فى مواجهة الموت لكان حريا أن يقترب من الصواب. أما ما قاله فيدل على اضطراب فى الفهم والرؤية وعجز عن التعبير السليم.
وبالنسبة للأفوه الأودى فإن نصف الجملة الذى استشهد به أدونيس له، وهو قوله: “ثوب مستعار”[7] للدلالة على أن الجاهليين كان يكربهم الموت لأنه لا وجود بعده بل فناء وضياع، نصف الجملة هذا موجود فى الأبيات التالية له[8]:
إنّما نعمةُ دنيا متعةٌ * وحياة المرء ثوبٌ مستعارُ
وصروف الدّهر في إطباقها * خِلْفَةٌ فيها ارتفاعٌ وانحدارُ
بينما الناس على عليائها * إذ هَوَوْا في هُوَّةٍ منها فغاروا
وهو شعر فيه مسحة إسلامية، لأن قول الشاعر: “إنما نعمة دنيا متعة” يذكّرنا بقوله تعالى: “فما أُوتِِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحيَاةِِ الدُّنْيَا، وما عِنْدَ اللهِ خيرٌ وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون”، “قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً”، “فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ”…، وإلا فهل كانت هناك متع أخرى يؤمن بها الجاهلى غير متع الدنيا تتصف بالاستمرارية دون انقطاع أو امتناع؟ أما إن قيل: وماذا فى ألا يكون ذلك الشاعر وثنيا؟ فالجواب: إذن فشعره لا ينبغى الاستشهاد به للدلالة على موقف الجاهليين، الذين كانوا يَرَوْن فى الموت نهاية للبشر ليس بعدها بعث وحياة أخرى. ومن ثم يكون أدونيس قد أخطأ حين تمثل بما تمثل به من تلك الأبيات لما يريد أن يقوله عن عقيدة الجاهليين. أليس كذلك؟ فمن الواضح إذن أن أدونيس يخبط خبط عشواء!
المهم أن أدونيس يرتّب على رؤية الجاهلى للموت (على النحو الذى رأيناه) الزعمَ بأنه كان يعيش حياته منفصلا عن العالم لا تربطه به آصرة، بل تفصل بينه وبين أشياء ذلك العالم هاوية تشعره بنقصه، وتجعله كئيبا معتزلا منتظرا متململا مغامرا[9]. والواقع أن كل ما قاله أدونيس إنما هو أوهام لا يستطيع أن يدلل عليها من التراث الشعرى الذى خَلَّفَه وراءهم الجاهليون. ترى كيف يفسر لنا أدونيس المتعة التى كان يجدها الجاهلى فى التفاخر بحسبه ونسبه وماله وما يقال فيه وفى قبيلته من أماديح يحس أنه لامس بها النجوم، أو فى التمدح بالخلق الكريم الذى يحجزه عن التعرض لجاراته فلا ينظر إليهن حين يمر بهن، أو فى شرب الخمر وما يساوره من أَرْيَحِيّة تخيِّل له أنه فريد زمانه لا يساميه أحد، أو فى التغزل بالمرأة بما ينبئ عن اهتمام شديد بها يملأ عليه حياته، أو بلعب الميسر والافتخار بتفريق ما يكسبه فيه من لحم على فقراء القبيلة، أو فى الرحلة راكبا على ظهر فرسه أو ناقته فاتحا عينيه بأقصى اتساعهما لكل ما يقابله من مناظر طبيعية، أو بشن الغارات على القبائل المعادية والاستيلاء على غنمها وإبلها، أو الكمون لعدوّه بغية إدراك ثأره منه إلى أن ينجح فى انتقامه وشفاء غيظ قلبه، أو فى نظم الشعر وإحساسه بنشوة الإبداع، ويا لها من نشوة، وبالامتياز على من حوله، إذ كان الجاهليون يعتقدون أن الشعر لون من العبقرية يأتى صاحبَه عن طريق ساكنى عبقر من الشياطين، أو التطلع فى غبطة إلى أولاده من حوله يُشْعِرونه بالقوة والعزة والمنعة، أو الوقوف بالأطلال بعد غياب وتذكر الأحباب الذين فرق الدهر بينهم وبينه، أو الاستماع إلى القَيْنَات يغنين فى مجالس الشراب أو فى اجتماعات القبيلة، أو الاشتراك فى مسابقة رياضية كالتى وقعت بين والد الخنساء وأخيها وسجلتها هى فى أبياتها الرائية الرائعة…؟
وطبعا ليست السعادة كلها من ذلك النوع، فهناك سعادات أخرى أبسط وأشيع يقدرها الرجل العادى، مثل سهره أمام باب الخيمة فى ليلة مقمرة يهب عليه فيها النسيم سَجْسَجًا بعد يوم قائظ، أو مشاهدته لشياهه وهى ترعى أمامه فى سفح الجبل فيما يستظل هو بصخرة من صخور ذلك الجبل أوشجرة من أشجاره تحميه من وهج الشمس ولفح حرارتها، أو عودته بصيد ثمين يذبحه ويأكله هو وأولاده بعد حرمان من اللحم فترة طويلة، أو سفره ضمن قافلة تجارية يمنِّى نفسه فى طريق الذهاب بأمانى الكسب والثراء، ويتعجل الوصول إلى أولاده وزوجته فى طريق العودة بما أحرز من مال، أو سمره مع أصدقائه يتبادلون الأخبار والحكايات الشائقة، أو شربه الماء على ظمإ فى مفازة مهلكة.
فهذه هى أسباب السعادة بالنسبة إلى جماهير الأمم والشعوب، تلك الجماهير التى لا تعرف شيئا من حذلقات أدونيس. وجماهير الشعب فى البلاد العربية الآن تهتم بمباراة كرة أكثر من اهتمامها بأى قضية ثقافية. بل إن كثيرا جدا منها لعلى استعداد أن يقاتل ويَقْتُل ويُقْتَل فى سبيل مثل تلك المباراة ولا يموت فى سبيل قضية نبيلة مما يستدعى حقا أن يموت الإنسان فى سبيل نصرته. صحيح أن النخبة قد يكون أمرها مختلفا، لكن ما نسبة تلك النخبة بالقياس إلى هذه الجماهير الغفيرة؟ وما المستوى الفكرى لتلك النخبة فى مجتمع كمجتمع العرب قبل الإسلام؟ على الباحث أن يكون حصيفا عاقلا فلا يترك العنان لخيالاته المضلة متصورا أن الخيال يمكن أن يغنى عن الحقائق، وما هو ِ بِمُغْنٍ عنها شيئا.
ومن الناحية الأخرى حاولت أن أجد فى الشعر الجاهلى ألفاظا كـ”السأم أو القلق أو الغربة أو الملل”، التى تدل على الضيق بالحياة كلها فلم أجد شيئا عن القلق، اللهم إلا قلق الوَضِين مثلا، أى تراخى عقدة الحزام حول بطن الناقة وتخلخله. وبالمثل لم أجد شيئا عن الغربة، اللهم إلا غربة السفر أو غربة النزول بقبيلة غير قبيلة الشخص، مما لا علاقة له بالغربة الروحية التى يزعمها أدونيس على الجاهليين. أما فى السأم فلم أجد إلا أبياتا جد قليلة تتحدث عن ضيق الصدر المعتاد، وليس السأم الفلسفى من الحياة، كقول زُهَيْر بن أبى سُلْمَى فى مدح هَرِم بن سِنَان:
مُوَرَّثُ المَجْدِ لا يَغْتالُ هِمَّتَهُ * عَنِ الرِياسَةِ لا عَجْزٌ وَلا سَأَمُ
أوقول ثعلبة المازنى عن سأم الحبيب من انتظار رضا حبيبته عنه دون جدوى:
سئِمَ الإقامة بَعدَ طولِ ثَوائِهِ * وَقَضى لُبانَتَهُ فَلَيسَ بِناظِرِ
مرة واحدة فحسب وجدتُ زهيرا يتحدث عن السأم من الحياة، لكنه ليس سأما من الحياة ذاتها، بل من طولها وكثرة أثقالها وشدة تكاليفها جراء طول العمر، إذ كان قد بلغ الثمانين. ولو كان زهير أقوى صحة وأصغر سنا وأقل مسؤوليات لما شعر بشىء من ذلك السأم:
سَئِمْتُ تَكاليفَ الحَياةِ، وَمَنْ يَعِشْ * ثَمانينَ حَوْلاً لا أَبا لَكَ يَسْأَمِ
وهذا كله برهان قوى على أن الجاهلى، وقد كان مُبَرَّأً من التنطع، لم يكن يشعر بشىء مما ادعاه عليه أدونيس، الذى راح يتصور أن أهل الجاهلية هم كبعض حداثيينا حين يتفلسفون ويتمارضون فكريا على سبيل التقليد القرودى لشعراء الغرب، الذين بَشِموا من رفاهية حضارتهم، على حين أنا لا نزال متخلفين تخلفا شديدا، ومع ذلك لا يستحى حداثيونا وأدونيسيونا من التظاهر بعدم الانسجام مع الحياة رغبة فى الإيعاز إلى الآخرين أنهم، كالغربيين، قد بشموا هم أيضا من الحضارة مع أن كل ما هم فيه يصرخ بأعلى صوته أنهم متخلفون أشد التخلف. لقد كان الجاهلى لا يعرف تعقيدات الحياة كما نعرفها اليوم، كما لم يكن يعرف ما يعرفه العربى منذ زمن غير قليل من هزيمة وانكسار وخضوع لأعدائه وأعداء دينه وأمته ووطنه، فلم يثقل شىءٌ روحَه من هذه الناحية مثلما يُثْقِل أرواحَنا نحن العرب هذه الأيام من تلك الناحية أشياءُ كثيرةٌ مزعجة. ولو كانت نفسية العرب الجاهليين على هذا النحو الذى يزعمه أدونيس لتفشى الانتحار بينهم. أما، ونحن لا نعرف أن الانتحار كان يشكل ظاهرة لافتة عندهم كما هو الحال فى بعض مجتمعات العصر الحديث، فمن الصعب جدا أن أقتنع بما يقوله أدونيس وأشباهه، بل أراه، فى ضوء ما توصلت إليه من خلال النصوص الشعرية الجاهلية، سخفا بالغا.
الحق أنه منذ كتب فالتر براونه مقاله عن “الوجودية فى الجاهلية” عام 1963م وبعض نقادنا يرددون ما قاله ذلك المستشرق الألمانى كما هو أو مع بعض الإضافات أو التحويرات فرحين متباهين وكأنهم هم أصحاب تلك النظرية، فتراهم يقولون إن الوقوف على الطلل هو لون من التعبير عما يحسه الشاعر إحساسا مبهما من تناقضٍ وفناءٍ وتشاؤم وخوف من الوجود وما إلى ذلك من الكلام المجعلص الذى لو سمعه الرجل الجاهلى لازْوَرَّ عنه إعراضا ولَمُلِئَ اشمئزازا من سخف حذلقة حداثيينا، الذين لا يستطيعون أن يخلعوا عن أنفسهم رداء الشِّحَاتة أبدا، فهم يعيشون على مَدّ العقل، كما يمد الشحات فى الشوارع يده، يتسولون به ما فى عقول الغربيين. وها هو ذا السيد أدونيس يحطب فى حبل براونه فيظل يمطرنا بكلام إنشائى لا يعرفه الجاهلى ولا يمكن أن يعرفه لأنه ليس تعبيرا عن عقله ومشاعره، بل هو كلام يقوله أدونيس تقليدا لبراونه وغيره من الباحثين الأجانب الذين يَنْسَوْن أنهم يتحدثون عن عرب ما قبل الإسلام، وليس عن مثقفين أوربيين محدثين.
لكن هل كانت حياة الجاهليين صافية سعيدة على الدوام؟ لم أقل، ولا يمكن أن أقول، هذا، فالسعادة فى الدنيا لا تتحقق على هذا النحو لأى إنسان. وإذا كان المؤمنون، كما نعرف، لا ينعمون بسعادة دائمة ولا نقية هنا على الأرض أفيكون الجاهليون الوثنيون أحسن منهم حظا؟ كل الذى قلناه هو أن الصورة الروحية التى يرسمها أدونيس للجاهليين هى صورة مزيفة مفتعلة ولا تقنع أى ذى عقل. ذلك أن القول بأنه كانت تفصلهم عن العالم وأشيائه هاوية كبيرة لا تسمح بقيام أية وشيجة بين الطرفين هو مما لا أدرى كيف يكون. ولدينا موقف المشركين من الإسلام حين جاءهم النبى عليه الصلاة والسلام به. لقد وقفت غالبيتهم فى وجهه وأصروا على التمادى فى وثنيتهم ولم يسلموا إلا بعد اللتيا والتى، وبعد أن شبت بين الفريقين حروب وثارات. أَوَلَوْ كان الجاهليون يعانون كل تلك المعاناة التى يدعيها أدونيس أكانت غالبيتهم تصر على ما هم فيه من انفصام تام بينهم وبين الحياة على النحو الذى يصوره؟
لقد كانت حياة الجاهليين تجمع بين السعادة أحيانا والشقاء أحيانا والشعور العادى الذى ليس بسعادة ولا شقاء أحيانا ثالثة، ولا أظنهم أبدا كانوا يتفلسفون على النحو الذى يتخيله أدونيس، أو بالأحرى: على النحو الذى يريدنا أدونيس أن نتخيله بالإكراه مخالفين عقولنا وضمائرنا العلمية لا لشىء إلا لأنه يرضى نزعته الإنشائية الطنانة الرنانة ورغبته فى تسويد الصفحات بذلك الكلام الثخين الذى لا ظل له فى الواقع، والذى لا نعرف له رأسامن ذيل، والذى لو قُدِّر للجاهليين أن يُبْعَثوا ويسمعوه أو يقرأوه، إن استطاعوا القراءة، لأنكروه وسخروا من صاحبه وركبوه بكل ألوان التهكم المعروفة وغير المعروفة، بل لنظموا فيه القصائد الكاوية التى تجعل منه عظة ومثلا للأولين والآخرين، قصائد من ذلك الضرب من الشعر القابل للفهم لا من شعره هو وأمثاله مما يصدق عليه قولهم: يونانىٌّ فلا يُقْرَأ.
وطبقا لما كتبه أدونيس فإن هذا الوعى لدى الرجل الجاهلى بعبثية العالم وهشاشته وما ينتظره فى نهاية المطاف من موت قد طُبِع بطابع فاجع[10]، وكأنه هو وحده دون بقية عباد الله الصالحين والطالحين على السواء الذى سيموت، أما باقى الناس فمخلَّدون فى الدنيا أبد الآباد. أما كيف كان ذلك فلا أدرى، ولست إخال أننى فى يوم من الأيام سوف أدرى. ذلك أننى أنظر إلى حياة الجاهليين فأجدهم يقضون حياتهم دون أن يلطموا خدودهم أو يَحْثُوا التراب على رؤوسهم أو يولولوا أو ينتحروا تخلصا من هذا الطابع الأدونيسى الفاجع. يا للهول! الفاجع حتة واحدة؟ أليس هناك شىء آخر أقل من “فاجع” هذه؟ وهو يقول، فى هذا السياق “الفاجع”، إن الصحراء كانت للجاهلى عدوا، إذ لم تكن تعطيه شيئا بل كانت مكانا للتغير والغياب.
لكن هذه الصحراء نفسها، ياعم أدونيس، هى التى كان ينصب فيها الجاهلى خيمته، ويرعى فيها غنمه، ويصطاد منها صيده، ويزرع فيها نخله، ويقضى فيها وقت فراغه، ويمارس فيها هواياته، وينظم فيها الشعر، ويحارب دفاعا عنها، وينشأ فيها غرامه ببنت قبيلته، ويسهر فيها ليله، ويستمتع فيها بمشاهدة قمرها ونجومها، ويشرب من عيون مائها ومن آبارها، وينطلق فى أرجائها بحرية كاملة دون قيود من شرطة أو مكوس أو عساكر تحرس الحدود، ويقف فيها على ما تحتويه من أطلال ورسوم ذارفا الدموع، مستعيدا الذكريات، متمنيا الأمانى. وهى هى نفسها الصحراء التى كثيرا ما حن إليها وألف الأشعار فى ذلك الحنين حين أخذته فتوح الإسلام بعيدا عنها إلى بلاد الزروع والأنهار…
والغريب أن أدونيس، الذى يقول بانفصال الشاعر الجاهلى عن العالم من حوله وعن أشياء ذلك العالم، بما فيها الأرض طبعا، الغريب أنه يعود للتو واللحظة فيقول إن ذلك الشاعر الجاهلى ذاته كان يعمل جاهدا على الإخلاص للصحراء، والصحراء هى الأرض بالنسبة له. أما كيف يكون الشاعر الجاهلى منفصلا عن العالم من حوله بما فيها الأرض ثم يعمل على الإخلاص لها والسيطرة عليها، فأرجوك أيها القارئ الكريم ألا تُعَنِّىَ نفسك به لأنك لن تصل فى النهاية إلى شىء. إنما هو كلام يقوله الرجل تنفيسا عن شىء فى النفس، ولكنه لا يعنى شيئا بالمرة وراء ذلك. ثم إننا، بعد هذا، نراه ينخرط كعادته فى الثرثرة فيقول كلاما كثيرا مؤداه أن حياة الشاعر الجاهلى كانت بؤرة نفسية يتلاقى فيها المكان والزمان. الله أكبر! ما كل هذه العبقرية؟ وهل حيوات الناس الآخرين الذين ليسوا بشعراء جاهليين لا يتلاقى فيها الزمان والمكان، أو يتلاقى فيها شىء آخر غير الزمان والمكان؟ إن المخلوقات جميعا محصورون داخل الزمان والمكان، سواء كانت بشرا أو بقرا أو حميرا أو جبالا أو سحابا أو فراشات أو سمكا أو ديدانا أو شجرا أو نباتا أو صخرا أو ماء أو أفكارا، وسواء كان الناس شعراء أو نثراء (أقول: “نثراء” على الإتباع ليس إلا)، وسواء كانوا جاهليين أو إسلاميين أو أمويين أو عباسيين أو مصريين أو سوريين أو إنجليزا أو فرنسيين، كلهم كلهم كلهم يخضعون للزمان والمكان، أو إذا أردنا الرطانة الأدونسية: يتلاقى فى حياتهم الزمان والمكان. فما الجديد الذى أتى به أدونيس؟ لا شىء. نعم لا شىء سوى الإنشائيات التى لا تقدم ولا تؤخر وليس لها من جدوى على الإطلاق، اللهم إلا أنها ضيعت وقتنا، وصدعت رؤوسنا. أعوذ بالله!
كذلك يقول الرجل إن للمكان عند الشاعر الجاهلى وجهين: وجها يجذب لأنه فى المكان وحده ترتسم تحققات الفروسية وأبعاد الفارس، ووجها يخيف لأنه من المكان وحده تأتى مفاجآت السقوط. ثم ينتقل أدونيس من هذا إلى شىء آخر قائلا إن مكان الشاعر الجاهلى مكان زمان، كما أنه هو المكان المتاه. وتبحث هنا وهاهنا عن السبب الذى حدا بالرجل إلى التلفظ بكل هذه الهلاوس فلا تجد شيئا، ومن ثم لا تملك مثلى إلا أن تضرب كفا بكف تعجبا من بعض خلق الله الذين يَأْبَوْنَ أن يقولوا شيئا مفيدا، أو على الأقل: شيئا له معنى. المهم أنه يمضى فيقول إن المكان فى حياة الشاعر الجاهلى لا يتيح أى شىء إلا بالقوة. عظيم! وهل هناك مكان يمكن أن يتيح لمن يسكنه الحصول على أى شىء إلا بالقوة؟ بل هل يمكن أن ينجز البشر شيئا دون أن يستعملوا القوة؟ ترى متى كان الضعف أو العجز وسيلة لعمل أى شىء مهما تكن تفاهته؟ القوة أو القدرة هى السبيل الوحيد أمام أى كائن للحصول على ما يريد مع التنبه إلى أن القوة أنواع وضروب: فمنها القوة الجسدية، ومنها القوة العقلية، ومنها القوة النفسية، ومنها القدرة على المكر والخداع، ومنها القدرة على التمثيل والتظاهر… إلخ. ومن كلامه أيضا فى هذا السياق أن من يملك الشجاعة ليجابه خطر المكان هو وحده الذى يعرف كيف يكون سيد مصيره. مرة أخرى عظيم، ولكن هل هذا هو وضع الشاعر الجاهلى وحده من دون الخلق جميعا؟
أما كلامه عن أنه فى المكان وحده ترتسم تحققات الفروسية وأبعاد الفارس فهذا ما سوف أنفجر غيظا أمامه. أترى هناك شيئا فى الدنيا ترتسم تحققاته (برطانة أدونيس) دون أن يكون هناك مكان، وزمان أيضا فوق البيعة؟ أرنى، يا عم أدونيس، أين يمكن أن يقع هذا. ولاحظ، أيها القارئ، كيف استخدمتُ فى السؤال عن ذلك كلمة “أين”، التى تدل على المكان بما يبين أبلغ بيان أننا لا يمكن أن ننفك عن المكان أبدا. ثم كيف كان شعراء الجاهلية فرسانا كلهم على بَكْرَة أبيهم وبَكْر أمهم أيضا؟ لا شك أن بعضهم كان فارسا، ولا شك أن بعضهم كانت به أخلاق الفرسان حتى لو لم يكن فارسا. نقصد بأخلاق الفرسان الشجاعة والنبل والصراحة والتعفف عما يسىء إلى كرامة الشخص: كرامته هو وكرامة الغير… إلى آخر ما يقصد الناس بكلمة الفروسية. لكن القول بأن شعراء الجاهليين كلهم كانوا فرسانا أو ذوى فروسية هو مما لا يمكن أن يكون، فهؤلاء الشعراء هم بشر من البشر: فيهم الفارس، وفيهم الراعى، وفيهم التاجر، وفيهم الجزار، وفيهم الزعيم، وفيهم التابع، وفيهم الخمار، وفيهم النخاس، وفيهم العبد، وفيهم السيد، وفيهم الملك، وفيهم الشريف، وفيهم الوضيع، وفيهم الماكر الخبيث، وفيهم الواضح الصريح، وفيهم اللص، وفيهم قاطع الطريق، وفيهم الكريم، وفيهم البخيل، وفيهم الشجاع، وفيهم الجبان، وفيهم الكاهن، وفيهم الحاذى، وفيهم الفقير، وفيهم الغنى، وفيهم المرأة، وفيهم الصبى، والمرأة والصبى لا يمكن أن يكونا فارسين أو فروسيين. فكيف يتغافل أدونيس عن هذا كله بوضع الشعراء الجاهليين كلهم أجمعين فى كفة وأحدة، وكأنهم شروة طماطم تُشْتَرَى كما هى بعُجَرها وبُجَرها وصحيحها وفاسدها؟
ثم لا يكتفى الرجل بأن يجعل منهم كلهم بربطة المعلم فرسانا أو فروسيين، بل يجعل منهم كلهم أيضا أبطالا بطولتهم تطهر الحياة (بماذا؟ بديتول مثلا أو بكحول أو ببيتادين؟). كلام، كلام، كلام، وليس على الكلام جمارك! ليس ذلك فقط، إذ البطولة عنده لا تطهر الحياة فقط، بل تصعّدها وتعيد لها زهوها وامتلاءها، كما تتغير صورة العالم ليصبح الوجود انعكاسا للذات فى مثالية شخصية، ويصبح العالم عندئذ حركة اقتحام وفروسية، ويستسلم العالم فى البطولة كما يستسلم فى الحلم، فيتحد بالبطل وتزول إذ ذاك الحدود بينه وبين الإنسان، بين المظهر والجوهر[11]. رحمك الله يا دكتور طه حسين! لقد ركبك الغضب وأنت تقرأ كتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس: “فى الثقافة المصرية”، الذى ظنا أنهما سوف يقلبان الأدب العربى به رأسا على عقب، فلم تفهم منه شيئا كما قلتَ مشتكيا فى مقال لك مشهور عن تلك المسألة. فما بالك لو كان قُدِّر لك أن تقرأ كتاب أدونيس؟ إن الطامة فيه لأكبر وأشد.
ثم يذهب الرجل مرة أخرى فى فاصل إنشائى مما لا يؤكّل عيشا حافيا فيتكلم عن المغامرة التى لابد منها كى نحظى بنفوسنا[12]. يقصد بذلك بطولة الشاعر الجاهلى ومغامراته، مع أن الشاعر الجاهلى فى معظم الأحيان رجل غلبان مثل العبد لله. قد يكون بعض الشعراء آنذاك أبطالا فعلا، كما أن بعضهم، وهم الصعاليك، كانوا مغامرين. بيد أن نسبة الأبطال والمغامرين بينهم نسبة ضئيلة لا تخول لأدونيس ولا لغير أدونيس أن يحاول استغفالنا وإيهامنا أن كل شعراء الجاهلية كانوا أبطالا مغامرين. ترى هل كانت على رأسهم ريشة لم تكن على رأس أحد آخر؟ فأين هذه الريشة؟ أمامكم الشعر الجاهلى كله، وفوقه كتاب د. جواد على، الذى جمع كل شىء عن العصر الجاهلى فأوعى، فهاتوه وابحثوا فيه عن تلك الريشة، وأنا زعيم أنكم لن تجدوا لا فى هذا ولا فى ذاك شيئا عن تلك الريشة. قرأت مرة لأحد المفاليك الصعاليك الذين يطمعون أن يكونوا نقادا رغم أنهم لا تتوفر لهم أية صفة من صفات الناقد يقول إن الكتاب، أى كتاب، يكمن كله فى أول حرف فيه. وقد رددت على هذا التنطع بأن ملايين الكتب تبدأ كلها بذات الحرف رغم اختلافها فى المؤلف والموضوع والروح والأسلوب والغاية والعصر والفهرست. فكيف يتسق هذا مع ما يقوله؟
ولنمض خطوة أخرى مع أدونيس، الذى يستمر قائلا إن البطولة تعبر عن نفسها بلغة ساحرة متحركة تخاطب الأعصاب والجلد والعضلات والحواس، أما الروح فتسحرها. ثم يضيف بعد قليل أن لغة الشاعر الجاهلى تعتمد على الغلو فى التصوير والتعبير لأنه لا يقدر أن يقبل العالم أو يراه إلا فى مستوى البطولة والمغامرة بحيث تجرى فى الأشياء كذلك دماء الفروسية[13]. أى أن أدونيس لا يكتفى بفروسية البشر، بل يشرك معهم فيها الأشياء أيضا. ولم لا؟ وهل سندفع شيئا من جيوبنا؟ وهذه أول مرة أسمع أن فى الأشياء فروسية! ولكن بالله عليكم، أيها القراء، هل كان كل الشعراء الجاهليين يبالغون تلك المبالغة التى يتحدث عنها أدونيس؟ وهل الشعر الجاهلى هو وحده الذى يعرف المبالغة؟ إن شعراء الجاهلية بوجه عام، على ما هو معروف لدارسيهم، أقل من غيرهم من ناحية المبالغات. لقد زادت المبالغات فى العصر العباسى مثلا زيادة فاحشة حتى وجدنا من يخلع على البشر صفات الله ذاته كما هو الحال لدى ابن هانئ الأندلسى فى مدحه للمعز لدين الله الفاطمى.
ثم أين البطولة والفروسية فى معلقة امرئ القيس وهو يدخل على عُنَيْزَة الخِدْر ومال الغبيط بهما معا فوق بعيرها فتشهق خشية الفضيحة والعار، وتأمره أن ينزل ويتركها لحال سبيلها؟ أو أين البطولة والفروسية وهو يفاخر بمجامعته امرأة أثناء إرضاعها طفلها؟ أو أين البطولة والفروسية فى أن يقتحم بيت معشوقته بالليل متلصصا فتأمره المرأة بالخروج والعودة من حيث جاء درءا للفضائح فيرد عليها هازئا بأنه لن يبرح مكانه حتى لو قطعوا رأسه ومزقوا أوصاله؟ أو أين البطولة والفروسية فى معلقة طرفة المتمردة دون عقل وبلا تبصر؟ أو أين البطولة والفروسية فى تكسب بعض الشعراء آنذاك بأشعارهم كالأعشى والنابغة؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر النابغة فى المتجردة زوجة النعمان إن كان هذا الشعر له، ولم يكن منحولا عليه؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر جليلة بنت مرة؟ أو أين البطولة والفروسية فى رثاء عبد يغوث لنفسه؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر الصعاليك قاطعى الطريق؟ أو أين البطولة والفروسية فى أشعار الهجاء؟ أو أين البطولة والفروسية فى الوقوف على الأطلال والبكاء فى الرسوم؟ أو أين البطولة والفروسية فى وصف الطبيعة من سحاب أو مطر أو بَرَد؟ أو أين البطولة والفروسية فى أشعار ورقة بن نوفل وقُسّ بن ساعدة وأمثالهما؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر الغزل؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر التفجع على ذهاب الشباب والتقدم فى العمر؟ وما حكاية “البطولة”، التى تعبر عن نفسها بلغة ساحرة متحركة تخاطب الأعصاب والجلد والعضلات والحواس كما يقول سيدنا أدونيس؟ هذا كلام يطير لا برجا واحدا فقط من الرأس، بل الأبراج جميعا. هذا كلام خارج عن حدود العقل والمنطق. وهذا هو النقد الجديد الذى أتانا به عبقرى العصر أدونيس.
ثم ما هذه الصرعة الجديدة التى يصدع بها بعض النقاد أدمغتنا فى زماننا هذا العجيب إذ يقولون إن وظيفة الشعر هى أن يغير العالم، مما يدخل فيه زعم أدونيس أن الشاعر الجاهلى كان يسعى إلى إخضاع هذا العالم. أفهم أن بعض الشعراء قد ينظمون شعرا يستحثون به الجماهير فيقومون بثورة تغير البلاد مثلا، لكن أدونيس لا يقصد هذا اللون من الشعر، أو لا يقصر هذه الدعوى على هذا اللون من الشعر، بل يعممها بحيث تشمل كل ألوان الشعر، وتغير كل شىء فى الدنيا. ولكن ها هو ذا العالم كما هو لم يتغير فيه شىء رغم جبال الأوراق ومحيطات الأحبار التى استهلكت فى كتابة أشعار الشعراء منذ كان هناك شعر إلى اللحظة الحاضرة، ولا تزال الشمس تطلع من الشرق وتغيب فى الغرب، ولا تزال تشرق نهارا، والقمر يبزغ ليلا، وما زالت الناس تتنفس من أنوفها وتبصر بعينيها وتسمع بأذنيها وتأكل من فمها وتمضع بأسنانها… إلخ، فأين هذا التغيير يا ترى؟ أم هو كلام نملأ به الصفحات، ودمتم؟
لكنى أعود فأقول: دعوهم يخرّفون، فتخريفاتهم مضحكة تزيح الهم قليلا عن القلب ولو إلى حين. نعم، الشاعر يبدع ويمتع ويأخذنا إلى النجوم ويبالغ ويصور الكون تصويرارائعا بارعا، وننتشى معه كما انتشى هو من قبل حين كان يبدع هذاالشعر العجيب، لكننا ما إن نخرج من تلك النشوة مغادرين سماء الأحلام، وعائدين إلى أرض الواقع حتى نرى كل شىء من حولنا باقيا على حالته التى تركناها قبل أن نصعد مع شاعرنا إلى النجوم. أقول هذا كيلا يظن أحد أننا نحقر من شأن الشعر، فهو إحدى نعم الحياة، بل لأبين للقراء زيف بعض النقاد من أصحاب الكلام الطويل العريض وتنطعهم فى الكتابة حتى ليصدق على الواحد منهم أنه “أبو لمعة” النقد! ذلك أن الشعر فى حد ذاته لا يغنى من فقر، ولا يطعم من جوع، ولا يروى من عطش، ولا يؤمن من خوف، ولكن إذا كان له جمهور يشترى دواوينه فإنه قد يكون مصدرا للدخل بالنسبة للشاعر، وهذا كل ما هنالك، وإن كان المال الذى يمكن فى هذه الحالة أن يجلبه الشعر لصاحبه هزيلا كما هو معروف.
ويقول أدونيس إن فروسية الشاعر الجاهلى تعبر عن نفسها لا ببطش أعمى، بل بشهامة تحتضن حتى الأعداء. فالمرأة التى تُسْبَى لا تُذَلّ، بل تبقى امرأة حرة “تُخْلَط بخير النساء” على حد تعبير حاتم الطائى. وليس القتل غاية بل دفاعا وجزءا من سياق الظَّفَر والتفوق، إذ لم يكن الفارس يقتل شخصا أعزل أو مستسلما أو طالبا للعون، بل فارسا مثله يحاربه وقد تدجج بسلاحه، فضلا عن قوته ونِدِّيَّته له، إلى جانب حرص الفارس المنتصر على تمجيد خصمه القتيل وامتداح صبره على الموت وعدم استكانته أمامه أو جزعه منه[14]. وكالشِّنْشِنَة التى نعرفها من أدونيس نراه لا يورد من الشواهد، إن أورد، سوى جملة أو نصف جملة كما رأينا من قبل. ونستطيع نحن أن نورد كثيرا من الشواهد تنقض ما قال. ذلك أن الأمر لا يُحْسَم بشاهد أو اثنين، بل لا بد من التدليل بشواهد متعددة على ما نقول، وإلا كان الأمر مجرد تصيد منا لما يعضد كلامنا مهما يكن الدليل المعضِّد ضعيفا متهافتا لا يثبت صدق كلامنا.
ذلك أنه ليس كل الآسرين حاتما مثلما لا يشبهه كل الميسورين فى كرمه وأريحية نفسه وإهانته المال فى مساعدة المحتاجين. كذلك ليس كل المعطين قد قال الرسول فيهم، كما جاء فى “الأغانى” للأصفهانى، و”البداية والنهاية” لابن كثير، ما قاله فى حاتم حين أثنى عليه أمام ابنته قائلا إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله سبحانه يحب مكارم الأخلاق، وإن صفاته هى صفات المؤمن، وإنه لو كان مسلما لترحَّم عليه. ثم لماذا كان العرب يَسْبُون النساء إذا كانوا يُبْقُون عليهن حُرَّاتٍ مُكَرَّمَاتٍ كما قال حاتم فى بعض شعره؟ وأخبار السبايا عند العرب كثيرة، وهى تتحدث عن التمتع بهن ما لم يستطع أهلوهن أن يخلصوهن بطريقة أو بأخرى كالحرب أو المفاداة بالمال أو التماس التكرم بإطلاقهن أو مطاردتهم للسابى مَرْجِعَه من المعركة وتخليصهم إياهن منه فى نفس اليوم قبل أن يقربهن. يقول زهير بن جناب مفتخرا باسترقاق نساء تغلب بعدما أغار عليهم وهزمهم واستاق نساءهم أمامه فى نهاية المعركة:
تَبًّا لتغلبَ أن تساق نساؤهم * سَوْق الإماء إلى المواسم عطلا
وقال أيضا يعير بني تغلب بهذه الواقعة:
أين أين الفرار من حذر المو * ت وإذ يتقون بالأسلابِ
إذ أسرنا مهلهلا وأخاه * وابن عمرو في القِدِّ وابن شهابِ
وسبينا من تغلب كل بيضا * ء رَقُود الضحى بَرُود الرِّضابِ؟
ويقول أعرابى من بنى ذبيان يهجو أعداءه ويحقر منهم ويعمل على إذلالهم:
رأَسْتُكُمُ، وما منكم رئيسلإ * أذُود، وليس فيكم من يذُودُ
تُفدِّيني نساؤُكم، ومُهْري * يكرُّ، وأنتم عُصَبٌ شهودُ
وقال حاجز بن عوف الزدى يخاطب ضمرة بن ماعز بعدما هجم على قبيلته وسبى نساءها انتقاما لما فعلته قبيلة ضمرة بقبيلته من قبل:
يا ضمر، هل نلناكمُ بدمائنا؟ * أم هل حَذَوْنا نعلكم بمثالِ؟
نبكي لقَتْلَى من فقيمٍ قُتِّلوا * فاليوم تبكي صادقا لهلالِ
ولقد شفاني أن رأيت نساءكم * يبكين مُرْدَفَةً على الأكفالِ
وقال بشر بن أبى خازم يبكت أعداء قبيلته:
بني عامِرٍ، إِنّا تَرَكْنَا نِسَاءَكمْ * مِن الشَلِّ والإيجافِ تَدْمَى عُجُوبُها
عَضَارِيطُنا مُسْتَبْطِنو البِيضِ كالدُّمَى * مُضَرَّجَةً بالزَّعْفرانِ جُيُوبُهَا
تَبِيتُ النِّساءُ المُرْضِعاتُ برَهْوَةٍ * تَفَزَّعُ من خَوْفِ الجَنَانِ قُلوبُهَا
وأما بالنسبة إلى مقارعة الأقران بعضهم بعضا فى معركة صريحة لا غدر فيها ولا تآمر، فهأنذا أسوق خبرا عن عنترة بن شداد يدل على أنه كان يلجأ إلى الحيلة والخداع فى معاركه مع أقرانه، وهو من هو فروسيةً وشجاعةً وكرمًا. فإذا كان عنترة الفارس الشهم الشجاع يلجأ إلى الحيلة والخداع فى الانتصار على عدوه، فما بالنا بغيره؟ يقول لويس شيخو صاحب “مجانى الأدب فى حدائق العرب”: “قيل لعنترة أنت أشجع العرب؟ قال: لا. قال: فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أُقْدِم إذا رأيتُ الإقدام عزما، وأُحْجِم إذا رأيتُ الإحجام حزما، ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا. وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأُثَنِّي عليه فأقتله”.
كذلك كانت الغيلة معروفة بين العرب. ومن ذلك على سبيل التمثيل، وغيره كثير، ما جاء فى ترجمة قيس بن الخطيم من كتاب “الأغانى” من أن قيسا، وهو من فرسان العرب وشعرائهم، “لما بلغ مبلغ الرجال وعرف أخبار قومه وأن أباه وجده قبله ماتا مقتولين لم يزل يلتمس غِرّةً من قاتل أبيه وجده في المواسم حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، وظفر بقاتل جده بذي المجاز. فلما أصابه وَجَدَه في رَكْبٍ عظيمٍ من قومه، ولم يكن معه إلا رَهْطٌ من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدار الفزاري، فاستنجده فلم ينجده. فأتى خداش بن زهير، فنهض معه ببني عامر حتى أَتَوْا قاتل عدي، فإذا هو واقف على راحلته في السوق، فطعنه قيس بحرية فقتله، ثم استمر. فأراده رهط الرجل، فحالت بنو عامر دونه، فقال في ذلك قيس بن الخطيم:
ثأرتُ عَدِيًّا والخطيمَ فلم أُضِعْ * ولاية أشياخ جُعِلْتُ إزاءها”
وبطبيعة الحال لم يُقْتَل أبوه ولا جده أيضا فى حرب، وإلا لشنت القبيلة على قاتليْه حربا ولم يلجأ قيس إلى الاغتيال لِدَرْك ثأره.
وفى النص التالى يصف صاحب “الأغانى” الطريقة التى اتبعها قيس فى اغتيال قاتلى أبيه وجده مستعينا بالتخطيط والمكر والمباغتة والخداع، إذ ذهب إلى صديق أبيه خُدَاش بن زهير و”سأله أن يعينه وأن يشير عليه في أمره، فرحب به خداش وذكر نعمة أبيه عنده، وقال: إن هذا الأمر مازلت أتوقعه منك منذ حينٍ. فأما قاتل جدك فهو ابن عم لي، وأنا أعينك عليه. فإذا اجتمعنا في نادينا جلستُ إلى جنبه وتحدثتُ معه. فإذا ضربتُ فخذه فثِبْ إليه فاقتله. فقال قيس: فأقبلتُ معه نحوه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش. فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له: ذو الخرصين. فثار إليَّ القوم ليقتلوني، فحال خداش بينهم وبيني وقال: دَعُوه، فإنه والله ما قَتَل إلا قاتلَ جده. ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه، وانطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه، حتى إذا كانا قريبا من هَجَر أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه، فإذا دُلَّ عليه قال له: إن لصا من لصوص قومك عارضني فأخذ متاعا لي، فسألتُ: مَنْ سيد قومه؟ فدُلِلْتُ عليك. فانطلقْ معي حتى تأخذ متاعي منه. فإن اتبعك وحده فستنال ما تريد منه، وإن أخرج معه غيره فاضحك، فإن سألك: مِمَّ ضحكتَ؟ فقل: إن الشريف عندنا لا يصنع كما صنعتَ إذا دُعِيَ إلى اللص من قوم. إنما يخرج وحده بسوطه دون سيفه. فإذا رآه اللص أعطى كل شيء أخذ هيبةً له. فإنْ أَمَرَ أصحابه بالرجوع فسبيل ذلك، وإن أبى إلا أن يمضوا معه فأتني به، فإني أرجو أن تقتله وتقتل أصحابه. ونزل خداش تحت ظل شجرة، وخرج قيس حتى أتى العبدي فقال له ما أمره خداش فأَحْفَظَه، فأمر أصحابه فرجعوا ومضى مع قيس. فلما طلع على خداش قال له: اختر يا قيس إما أن أعينك وإما أن أكفيك. قال: لا أريد واحدة منهما، ولكن إنْ قتلني فلا يفلتنك. ثم ثار إليه فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر، فمات مكانه. فلما فرغ منه قال له خداش: إنا إنْ فررنا الآن طَلَبَنا قومُه. ولكن ادخل بنا مكانا قريبا من مقتله، فإن قومه لا يظنون أنك قتلته وأقمت قريبا منه. ولكنهم إذا افتقدوه اقْتَفَوْا أثره. فإذا وجدوه قتيلا خرجوا في طلبنا في كل وجه، فإذا يئسوا رجعوا. قال: فدخلا في دارات من رمال هناك، وفقد العبديَّ قومُه، فاقتفَوْا أثره فوجدوه قتيلاً، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا. فكان من أمرهم ما قال خداش. وأقاما مكانهما أياما ثم خرجا فلم يتكلما حتى أتيا منزل خداش، ففارقه عنده قيس بن الخطيم ورجع الى أهله”.
ثم إن قيسا مات بنفس الطريقة، إذ اغتاله أهل أحد مقتوليه، لينهض للأخذ بثأره رجل من قبيلته فيغتال رجلا من قبيلة القاتل، إذ نقرأ فى “الأغانى” أن “حرب الأوس والخزرج لما هدأت تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته فيهم، فتوامروا وتواعدو قتله. فخرج عشية من منزله في ملاءتين يريد مالاً له بالشوط حتى مر بأُطُم بني حارثة، فرُمِيَ من الأطم بثلاثة أسهم، فوقع أحدها في صدره، فصاح صيحة سمعها رهطه، فجاؤوا فحملوه الى منزله، فلم يروا له كفئا إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مدرك النجاري، فاندس إليه رجل حتى اغتاله في منزله، فضرب عنقه واشتمل على رأسه، فأتى به قيسا وهو بآخر رمق، فألقاه بين يديه وقال: يا قيس، قد أدركتُ بثأرك. فقال: عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة! فقال: هو أبو صعصعة. وأراه الرأس، فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات”.
على أن المسرحية الفروسية لما تنته فصولا، إذ لا يزال فيها فصل عن النساء يرينا أن الأمر لم يكن كله فروسية كما يتخيل أدونيس وهو جالس إلى مكتبه يؤلف من دماغه رأسا دون أن يتعب نفسه قليلا ليتيقن من صحة ما يكتب. فها هو ذا قيس بن الخطيم وحسان بن ثابت فى الجاهلية يتهاجيان بالنساء، فيتغزل حسان بليلى بنت الخطيم أخت قيس بعد أن احتك بها فى الطريق وأهانها، ويرد قيس التحية بأسوأ منها فيتغزل بزوجته عَمْرَة. يقول صاحب “الأغانى”: “مر حسان بن ثابت بليلى بنت الخطيم، وقيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريش، فقال لها حسان: اظعني فالحقي بالحي، فقد ظعنوا. وليت شعري ما خَلَّفَك؟ وما شأنك؟ أقَلَّ ناصِرُك أم راثَ رافِدُك؟ فلم تكلمه، وشتمه نساؤها. فذكرها في شعره في يوم الربيع الذي يقول فيه:
لقد هاج نفسَك أشجانُها * وعاودها اليومَ أديانُها
تذكرتُ ليلى، وأَنَّي بها * إذا قطعت منك أقرانُها
وحَجَّل في الدار غربانها * وخف من الدار سكانُها
وغَيَّرها مُعْصِراتُ الرياح * وسَحُّ الجنوب وتهتانُها؟
مهاة من العِين تمشي بها * وتتبعها ثَمَّ غزلانها
وقفت عليها فساءلتها * وقد ظعن الحي: ما شأنها؟
فعَيَّتْ، وجاوبني دونها * بما راع قلبيَ أعوانُها
وهي طويلة. فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أولها:
“أجد بعمرة غنيانها”، وفخر فيها بيوم الربيع، وكان لهم، فقال:
ونحن الفوارس يوم الربيـــــــــــ*ـــــــــــع قد علموا كيف فرسانُها
حسان الوجوه، حداد السيو * ف، يبتدر المجد شبانُها
وهي أيضا طويلة”.
ثم هذه قصة أخرى من قصص الغدر. ففى “الأغانى” أن “رجلاً من بني مازن بن النجار يقال له: كعب بن عمروـ تزوج امرأةً من بني سالم بن عوفـ فكان يختلف إليها. فقعد له رهط من بني جحجبى بمرصد، فضربوه حتى قتلوه أو كادوا، فأدركه القوافل فاستنقذوه. فلما بلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو خرج، وخرج معه بنو النجار، وخرج أُحَيْحَة بن الـجُلاَح ببني عمرو بن عوف، فالْتَقَوْا بالرحابة، فاقتلوا قتالاً شديدًا، فقتل أخا عاصم يومئذ أحيحةُ بن الجلاح، وكان يُكْنَى: أبا وحوحة، فأصابه في أصحابه حين انهزموا. وطلب عاصم أحيحة حتى انتهى إلى البيوت، فأدركه عاصم عند باب داره فزجه بالرمح، ودخل أحيحة الباب، ووقع الرمح في الباب، ورجع عاصم وأصحابه فمكث أيامًا. ثم إن عاصما طلب أحيحة ليلاً ليقتله في داره، فبلغ ذلك أحيحة، وقيل له: إن عاصما قد رُئِيَ البارحة عند الضَّحْيَان والغابة، وهي أرض لأحيحة، والضَّحْيَان أطم له. وكان أحيحة إذ ذاك سيد قومه من الأوس، وكان رجلاً صَنَعًا للمال، شحيحًا عليه، يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم. وكان له تسع وتسعون بعيرا كلها ينضح عليها. وكان له بالجرف أصوار من نخل قَلَّ يومٌ يمر به إلا يطلع فيه. وكان له أُطُمان: أُطُمٌ في قومه يقال له: المستظل، وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تُبَّعًا أسعد أبا كرب الحميري، وأُطُمُه: “الضَّحْيَان” بالعصبة في أرضه التي يقال لها: الغابة، بناه بحجارة سود وبنى عليه نبرةً بيضاء مثل الفضة، ثم جعل عليها مثلها يراها الراكب من مسيرة يوم أو نحوه. وكانت الآطام هي عزهم ومنعتهم وحصونهم التي يتحرزون فيها من عدوهم. ويزعمون أنه لما بناه أشرف هو وغلام له، ثم قال: لقد بنيتُ حصنا حصينا ما بنى مثلَه رجلٌ من العرب أمنع ولا أكرم. ولقد عرفتُ موضع حجر منه لو نُزِع لوقع جميعا! فقال غلامه: أنا أعرفه. فقال: فأرنيه يابني. قال: هو هذا. وصرف إليه رأسه. فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات. وإنما قتله إرادة ألا يعرف ذلك الحجر أحد. ولما بناه قال:
بنيتُ بعد مستظلٍّ ضاحيا * بنيتُه بعصبة من ماليا
والسر مما يتبع القواصيا * أخشى ركيبًا أو رُجَيْلاً عاديا
وكان أحيحة إذا أمسى جلس بحذاء حصنه: “الضَّحْيَان”، ثم أرسل كلابا له تنبح دونه على من يأتيه ممن لايعرف، حذرًا أن يأتيه عدو يصيب منه غرة. فأقبل عاصم بن عمرو يريده في مجلسه ذلك ليقتله بأخيه، وقد أخذ معه تمرا. فلما نبحته الكلاب حين دنا منه ألقى لها التمر فوقفت. فلما رآها أحيحة قد سكنت حَذِر فقام فدخل حصنه، ورماه عاصم بسهم فأحرزه من الباب، فوقع السهم بالباب. فلما سمع أحيحة وقع السهم صرخ في قومه، فخرج عاصم بن عمرو فأعجزهم حتى أتى قومه. ثم إن أحيحة جمع لبني النجار، فأراد أن يغترَّهم فواعدهم وقومه لذلك. وكانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى نساء بني عدي بن النجار، له منها عمرو بن أحيحة… وكانت امرأةً شريفة لا تنكح الرجال إلا وأمرها بيدها، إذا كرهت من رجل شيئا تركته. فزعم ابن إسحاق أنه حدثه أيوب بن عبد الرحمن، وهو أحد رهطها، قال: حدثني شيخ منا أن أحيحة لما أجمع بالغارة على قومها ومعها ابنها عمرو بن أحيحة، وهو يومئذ فَطِيمٌ أو دون الفطيم، وهو مع أحيحة في حصنه، عمدت إلى ابنها فربطته بخيط، حتى إذا أوجعت الصبي تركته فبات يبكي، وهي تحمله، وبات أحيحة معها ساهرا يقول: ويحك! ما لابني؟ فتقول: والله ما أدري ماله. حتى إذا ذهب الليل أطلقت الخيط عن الصبي فنام… فلما هدأ الصبي قالت: وارأساه! فقال أحيحة: هذا والله ما لقيتِ من سهر هذه الليلة. فبات يعصب لها رأسها ويقول: ليس بك بأس. حتى إذا لم يبق من الليل إلا أقله قالت له: قُمْ فَنَمْ، فإني أجدني صالحة قد ذهب عني ماكنت أجده. وإنما فعلتْ به ذلك ليثقل رأسه، وليشتد نومه على طول السهر. فلما نام قامت وأخذت حبلاً شديدًا وأوثقته برأس الحصن، ثم تدلت منه وانطلقت إلى قومها، فأنذرتهم وأخبرتهم بالذي أجمع هو وقومه من ذلك، فحذر القوم وأعدوا واجتمعوا. فأقبل أحيحة في قومه فوجد القوم على حذر قد استعدوا، فلم يكن بينهم كبير قتال. ثم رجع أحيحة فرجعوا عنه. وقد فقدها أحيحة حين أصبح. فلما رأى القوم على حذر قال: هذا عمل سلمى! خدعتْني حتى بلغتْ ما أرادت. وسماها قومها: المتدلية، لتدليها من رأس الحصن. فقال في ذلك أحيحة وذكر ما صنعت به سلمى:
تفهَّمْ أيها الرجل الجهولُ * ولا يذهبْ بك الرأي الوبيلُ
فإن الجهل محمله خفيفٌ * وإن الحِلْم محمله ثقيلُ”
وفى أخبار الفِنْد الزِّمّاني فى “الأغانى” أيضا، وكان فارسا شاعرا، نقرأ ما يلى: “أرسلتْ بنو شيبان في محاربتهم بني تغلب إلى بني حنيفة يستنجدونهم، فوجهوا إليهم بالفند الزماني في سبعين رجلاً، وأرسلوا إليهم: إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل. وقال ابن الكلبي: لما كان يوم التحالق أقبل الفِنْد الزِّمَّانِيّ إلى بني شيبان، وهو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة، ومعه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس، فكشفت إحداهما عنها وتجردت، وجعلت تصيح ببني شيبان ومن معهم من بني بكر:
وعا وعا وعا وعا
حرَّ الجوادُ والتظى
وملئت منه الربا
يا حبذا يا حبذا
الملحقون بالضحى
ثم تجردت الأخرى وأقبلت تقول:
إن تُقْبِلوا نعانقْ * ونفرش النمارقْ
أو تُدْبِروا نفارقْ * فِرَاقَ غَيْرِ وامقْ
قال: والتقى الناس يومئذ، فأصعد عوفد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، ابنته على جمل له في ثنية قضة، حتى إذا توسطها ضرب عرقوبي الجمل ثم نادى:
أنا البرك أنا البرك
أنزل حيث أدرك
ثم نادى: ومحلوفه لا يمر بي رجل من بكر بن وائل إلا ضربته بسيفي هذا. أفي كل يوم تفرّون فيعطف القوم؟ فقاتلوا حتى ظفروا فانهزمت تغلب”. فكما نرى لم يكن الأمر دائما مع النساء على النحو الذى ذكر حاتم الطائى أنه يعامل به أسيرات قومه. فإن بِنْتَىِ الفِنْد الزِّمّانِىّ قد تصرفتا تصرفا يناقض تلك الصورة الكريمة، ولم ينكر عليهما أبوهما فى شىء مما أتتاه. فما بالنا لو أنه كان عليه أن يتعامل مع أسيرات أعدائه؟
وقد تناول عبد الله عفيفى فى كتابه: “نساء العرب فى الجاهلية والإسلام” هذا الموضوع فقال تحت عنوان “السِّبَاء والوَأْد” ذاكرا الحالين: “أما بعد، فإنا لا نخدع التاريخ في ماضيه، فنمثله زهرا لا أشواك فيه. فلئن كان من الحب ما يُمضُّ ويؤذي، ومن الصداقة ما يضر ويؤلم، لقد أصيبت المرأة العربية في سبيل إعزازها والحرص عليها بلواذع بلغت في بعض المواطن حبة قلبها ومستقرّ حياتها. فمن ذلك السباء. وذلك أن العرب كانوا يُعْقِبون صفوف القتال بنسائهم وذوات أرحامهم تثبيتا لأنفسهم، وتشديدا لعزائمهم. وربما أُحِيط بهم، وغُلِبوا على أمرهم، فيكون هَمّ الظافر أن يتخذ نساء المقهور سبايا يسوقهن إلى بيته، ويتحكم فيهن كما يتحكم في ماله، لا لحاجته إليهن، بل ليقطع باستلابهن آخر عرق ينبض من قلب عدوه فيعيش ذليل الناصية، مُقَنَّع الوجه أمد الحياة. على أنهم، وإن غلظت إلى هذا الحد أكبادهم على أعدائهم، فهم يعرفون لسباياهم منازلهم بين قومهن فيخلطونهن بأنفسهم، إلا قليلا ممن أرّث الحقد صدورهم، وملكت الضغينة منازع الرحمة من قلوبهم. وفي أولى الحالتين يقول حاتم بن عبد الله الطائي:
فما أنكحونا طائعين بناتِهِم * ولكن خطبناها بأسيافنا قَسْرا
فما زادها فينا السِّبَاء مذلةً * ولا كُلَِّفَتْ خَبْزًا ولا طبختْ قِدْرا
ولكنْ خلطناها بخير نسائنا * فجاءت بهم بِيضًا وجوهُهمُ زُهْرا
وكائِنْ ترى فينا من ابن سَبِيَّةٍ * إذا لقي الأبطال يطعنهم عذْرا
ويأخذ رايات الطعان بكفه * فيوردها بِيضًا، ويُصدرُها حمرا
كريم إذا اعتز اللئيم تخاله * إذا ما سرى الدجى قمرا بدرا
وهنالك الكثير من سادات العرب وذوي زعامتهم انكشفت عنهم السبايا، فلم يَضَعْ ذلك من منازلهم أو يُهَجَّنْ من أحسابهم. ومن بين أولئك دُرَيدُ بن الصَمَةِ حكيم العرب وشاعر فرسانهم وفارس شعرائهم، وأمُّهُ ريحانة بنت معد يكرب. أسرها الصّمَّةُ بن عبد الله وتزوجها فأنجبت دُرَيْدًا وإخوته. وهي التي يقول عمرو في حديث إسارِها:
أمن ريحانة الداعي السَّميعُ * يُؤرَّقُني وأصحابي هُجُوعُ؟
سباها الصَّمَّةُ الْجُشَمِيُّ غَصْبًا * كأن بياض غُرّتها صديعُ
وحالت دونها فرسان قيسٍ * تَكَشَّفُ عن سواعدها الدروعُ
إذا لم تستطع شيئا فدَعْهُ * وجاوِزْه إلى ما تستطيعُ”
وفى حوادث يوم أوارة الثانى قَتَل الملك الحيرى عمرو بن هند امرأةً وهى حامل فبَقَرَ بطنها. ثم أحرق تسعة وتسعين رجلا من قبيلة “البراجم”، وأكمل المائة بواحدة من نسائهم لقاء اعتزازها بزوجها ووقوفها فى وجه الملك متماسكةً لا تخاف[15].
ويذكر المرزبانى فى “أشعار النساء” أنه فى يوم العداب أغار بنو عبد مناة بن أد بن طابخة على بني عِجْل وحنيفة بالأراكة من أرض جو اليمامة، وسُبِيَتْ حسينة بنت جابر بن بجير العجلي أخت أبجر بن جابر، وكانت تحت تمّام بن سوادة مُعْرِسًا بها. وكان الذى سباها هو عَمْرو بن الحارث بن أقيش العُكْلِيّ. ثم إن زوجها وأباه أتياها ليفادياها، فاختارت عَمْرو بن الحارث، وقالت تعيّر زوجها:
تمَّامُ، قد أسلمتَني لرماحهم * وخرجتَ تركض في عَجَاج القَسْطَلِ
وتلومني ألا أَكُرَّ عليكمُ * هيهات ذلك مِنْكُمُ. لا أفعلُ
إني وجدتُكُمُ تكون نساؤكم * يوم اللقاء لمن أتاكم أَوَّلُ
ثم إن أخاها أبجر بن جابر أتاها بعدما ردت تمّامًا وأباه، فلامها على اختيارها على قومها، فرَضِيَتْ بالرجوع مع أخيها، ففاداها بمائة من الإبل وخمسة أفراس. وسار معها عمرو بن الحارث حتى أرض بني تميم، وقال في ذلك:
وخَيَّرْنا حُسَيْنةَ إذْ أتاها * سوادةُ ضارعًا مَعَهُ الفِداء
فقالت: إن رجعتُ إلى لُجَيْمٍ * مخايَرَةً، فقد ذهب الحياء
فما صبروا ولا عطفوا علينا * وندعوهم، فما سُمِعَ النداء
وكنتُ مَهِيرةً فيكم، فأُمْسِي * ومَهْرِي فيكمُ الأسَلُ الظِمَاء
وكانَتْ صفوتي من سَبْيِ عِجْلٍ * حُسَيْنَةُ من كواعِبَ كالظباء
وهبناها لأَبْجَرَ إذْ أتانا * وفينا غَيْرَها منهم نساء
وفى “الأغانى” لأبى الفرج: “كان عروة (بن الورد) قد سبى امرأة من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها: ليلى بنت شعواء، فمكثت عنده زمانا وهي معجبة له تريه أنها تحبه. ثم استزارته أهلها فحملها حتى أتاهم بها. فلما أراد الرجوع أبت أن ترجع معه، وتوعده قومها بالقتل فانصرف عنهم، وأقبل عليها فقال لها: يا ليلى، خبري صواحبك عني كيف أنا. فقالت: ما أرى لك عقلاً! أتراني قد اخترت عليك وتقول: خبري عني؟ فقال يخاطب نفسه ويخاطبها:
تحنّ إلى ليلى بجوّ بلادها * وأنتَ عليها بالملاَ كنتَ أَقْدَرا؟
وكيف تُرَجّيها وقد حيل دونها * وقد جاوزتْ حَيًّا بتيماءَ منكرا؟
لعلكِ يومًا أن تُسِرِّي ندامةً * عليَّ بما جَشَّمْتِني يوم غضْوَرا
… ثم إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها: أسماء. فما لبثت عندهم إلا يوما حتى استنقذها قومها. فبلغ عروةَ أن عامر بن الطفيل فخَر بذلك وذكر أخذه إياها، فقال عروة يعيرهم بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية:
إن تأخذوا أسماءَ موقفَ ساعةٍ * فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب
لبسنا زمانا حسنَها وشبابَها * ورُدَّتْ إلى شعواءَ والرأس أشيبُ
كمأخذنا حسناءَ كَرْهًا ودمعها * غداة اللوي معصوية يتصبب”
كان المجتمع الجاهلى إذن يعرف الإماء. لكن لا بد أن نضيف أن السِّباء لم يكن شأنًا خاصًّا بالعرب، بل كان يمارَس من قِبَل الأمم الأخرى كما هو معلوم. ومع ذلك كان الشعوبيون يلمزون العرب من هذه الناحية يريدون الإيهام بأنهم هم وحدهم الذين كانت نساؤهم تُسْبَى. فمن ذلك ما جاء فى كتاب “العِقْد الفَرِيد” لابن عبد ربه نقلا عن الشعوبية على النحو التالى مما يمكن الرد عليه، وإن كنا لا ننكر وجود السباء عند العرب، شأنهم فى ذلك شأن الأمم كلها فى العصور القديمة من يونان وفرس ورومان وزنوج وعبريين وصينيين وهنود. قالت الشعوبية: “ما الذي تَفْخر به العَرب على العجم، وإنما هي كالذّئاب العادية، والوُحوش النَّافرة، يَأْكل بعضُها بعضًا، ويُغِير بعضها على بَعْض. فرجالُها مَوْثوقون في حَلَق الأسْر، ونساؤها سَبَايا مُرْدَفات على حَقائب الإبلِ، فإذا أدركهنَّ الصَّرِيخ فاستُنْقِذن بالعشيّ، وقد وُطِئْن كما تُوطَأ الطَّريقُ المَهيْع، فَخَر بذلك الشاعر فقال:
وأَلْحَقُ رَكْب الـمُرْدَفات عَشِيّةً
فقيل له: وَيْحك! وأيّ فَخْر لك في أن تَلْحقهن بالعشى، وقد نُكِحْن وامْتُهِنَّ؟
وقال جَرِير يعيّر بني دارم بغَلَبَةِ قَيْسٍ عليهم يومَ رَحْرَحَان:
وبَرحْرحانَ غَدَاةَ كُبِّل مَعْبدُ * نُكِحت نِساؤُكم بغير مُهُورِ
وقال عَنترة لامرأته:
إنَّ الرِّجال لهم إليكِ وَسيلةٌ * إِنْ يَأخذُوك تَكحَّلي وتَخضَّبِي
وأنا امرؤ إن يَأخذُوني عَنْوَةً * أُقْرَنْ إلى سَيْر الرِّكاب وأُجْنَبِ
ويكونُ مَرْكبَك القَعُودُ ورحلُه * وابن النَّعامة عند ذلك مَرْكبي
أراد بابن النعامة: باطنَ القَدم. وسَبَى ابنُ هَبُولة الغَسَّاني امرأةَ الحارث بن عَمْرو الكِنْديّ، فَلحِقه الحارث فَقَتله وارتَجع المرأة، وقد كان نالَ منها. فقال لها: هل كان أصابَك؟ قالت: نعم واللّه، فما اشتملت النِّساء على مِثْله. فأوْثقَها بين فَرَسين، ثم استَحْضَرَهما حيث قَطّعاها، وقال في ذلك:
كل أنْثى، وإنْ بدَا لك مِنها * آيةُ الوُدِّ، عَهدُها خَيْتَعُورُ
إنَّ مَن غَرَّه النساءُ بوُدٍّ * بعد هِنْد لجاهلٌ مَغْرُورُ
وسَبَت بنو سليم ريحانة أختَ عمرو بن مَعْدِ يكرب فارس العَرب، فقال فيها عمرو:
أَمِنْ رَيْحانةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ * يُؤرِّقني وأصْحابي هُجُوعُ؟
وفيها يقول:
إذا لم تَسْتَطع أمرًا فَدَعْهُ * وَجَاوِزْه إلى ما تَسْتَطِيعُ
وأغار الحَوْفزان على بَنِي سَعْد بن زَيْد مَناة، فاحتمل الزرْقاءَ من بَني ربيع بن الحارث فأعْجبته وأعجبها، فوَقع بها. ثم لَحِقَه قَيْس بن عاصم، فاستَنْقَذها ورَدّها إلى أهلها بعد أن وقع بها”.
ولقد علقت على هذا فى كتابى: “هوامش على “تاريخ العرب” لفيليب حِتِّى” فقلت ما نصه: “أما ما قَرَفَ به الشعوبيون أعراضَ العرب مدعين أن السَّبِيّة العربية فى الجاهلية كان سُبَاتُها ينتهكون عرضها فى الطريق، ثم إذا ما استخلصها زوجها من أيدى الآسرين شرع يطنطن بأنه قد حمى عرضه وأنقذه من التلوث بعد أن يكون الآسرون قد اعتدَوْا على عرضه وانتهى الأمر، فهو زعم لا يصمد للتحليل. إذ من المفهوم أن الزوج فى هذه الحالة لا يضيع وقتا بل يهب لساعته مطاردا من خطفوا زوجته، ومعه بعض أفراد قبيلته بطبيعة الحال. وفى مثل تلك الظروف لا يكون هناك وقت أمام الخاطف كى ينزل عن ناقته أو فرسه فى الطريق ويستمتع بأسيرته، بل يعمل بكل طاقته على الاستمرار فى الهرب حتى لا يدركه الزوج المطارِد، بل لا تكون عنده فى الحقيقة أية رغبة سوى النجاة بنفسه وبخطيفته. ثم إنه ليس من المعقول أن تمكنه السبيّة من نفسها دون أية مقاومة. ذاك شىء يخالف الفِطَر. وعلى ذلك فما قاله العائبون على العرب فى هذه النقطة هو كلام فى الهواء غالبا، فلا يُلْتَفَت إليه. وإلا فلو كان ذلك الكلام صحيحا أكان يجد العربى فى نفسه الرغبة فى الافتخار بإنقاذ زوجته، بينما هو يعلم، وكذلك الجميع يعلمون، وأولهم الخاطف، أن العدوان على العِرْض قد وقع، أو كان يسكت عنه خصوم القبيلة فلا يردوا عليه ويسخروا منه ومن أوهامه وطنطناته التى لا تسمن ولا تغنى من جوع؟
أما الحكاية التى تقول إن ابن هَبُولة الغَسَّاني قد سبى امرأةَ الحارث بن عَمْرو الكِنْديّ، فَلحِقه الحارث فَقَتله وارتَجع المرأة، وقد كان نالَ منها، فقال لها: “هل كان أصابَك؟”، قالت: “نعم واللّه، فما اشتملت النِّساء على مِثْله”، فهو كلام لا يدخل العقل، إذ أين هى الزوجة التى تردّ بهذا الرد على زوجها فى ظروف كهذه؟ ودعك من معرفتها أن مصيرها حينئذ هو القتل الوَحِىّ. إنما هى حكاية ملفقة للإساءة إلى زوجها.
كذلك هل يمكن أن تكون صحيحة تلك الحكاية التى تقول إن بنى سليم قد سَبَوْا ريحانةَ أختَ عمرو بن مَعْدِيكَرِب فارس العرب، فاكتفى عمرو بنظم بضعة أبيات يفضح نفسه وأخته وبيته بل قبيلته كلها، وكان الله يحب المحسنين، ثم مضى فتغزل فى سلمى متدلها فى حسنها، متذكرا لهوه فى شبابه بأمثالها، بدلا من أن يكفأ على الخبر ماجورا ويكفى نفسه الخزى والعار؟ بالله أهذا وقت غزل واستعادة ذكريات وافتخار بلهو الشباب؟ أم هل من المعقول أن يكون هذا هو كل ما فعله الشاعر حين سُبِيَتْ أخته، لينساها بعد ذلك إلى الأبد فلا ثأر ولا محاولة لاستعادتها كرة أخرى؟
على أن التفسير الذى يصحب هذه الأبيات يتحدث عن زواج دريد بن الصمة لريحانة لا اعتدائه على عِرْضها غَصْبًا كما يقول الشعوبيون. وهناك تفسير آخر للأبيات يختلف عن هذا ويَفْضُله فى الإقناع، ولا صلة بينه وبين سَبْى أخت الشاعر بحال من الأحوال، إذ يتحدث عن زوجة للشاعر طلقها بتأثير بعض المخادعين، ثم لما استبان له أنه وقع ضحية للخداع أنشأ القصيدة المذكورة”[16].
لكن ليس معنى ردى على هذا السخف الشعوبى أن العرب لم يكن عندهم سِبَاء، بل كان هذا جزءا من نظامهم الاجتماعى كباقى الأمم الأخرى فى تلك الأعصر القديمة. فهل يُعْقَل أن العرب جميعا كانوا يعاملون الأسيرات عندهم دائما أبدا بالاحترام الذى افتخر حاتم الطائى بأنه كان يعامل به أسيراته من القبائل المعادية؟ بكل يقين هم لم يكونوا ملائكة مبرأين من كل مأخذ.
ومثلُ ذلك القولُ بأن كل انتصارات العرب كانت فى معارك واضحة صريحة لا خداع فيها ولا غدر ولا تضليل. ذلك مما لا يشاكل طبائع البشر. والحرب خدعة كما يعرف الناس جميعا. بل إن القبائل كان يُغِير بعضها على بعض ويُبَيِّت بعضهم بعضا، والغارة والتبييت عبارة عن هجوم مباغت، فلا صراحة فيه ولا وضوح. ثم إن الحروب لم تكن كلها سيوفا ورماحا حتى تكون المواجهة مباشرة دائما، بل هناك أيضا السهام مثلا، وهو سلاح يصوَّب من بعيد، ومن ثم لا اعتبار للمساواة بين القِرْنين، ولا مجال للفروسية وأخلاقها. بل لقد كان الملوك أنفسهم لا يتنزهون عن الغدر، فما بالنا بغير الملوك؟ ففى “الأغانى” أن تُبَّعًا استدعى أُحَيْحَة بن الجلاح من يثرب ومعه بعض رجال قومه، فظنوا أنه يريد أن يملّكهم على يثرب بلدهم. إلا أن أحيحة أكد لهم أنه إنما يريد الغدر بهم واغتيالهم ومصادرة ممتلكاتهم، وهو ما كاد أن يقع لولا أنه كان قد أخذ حذره لذلك مسبقا، وهرب من تبع قبل أن يضع يده عليه، إذ ترك قَيْنَته وفر راجعا يحتمى بأُطُمٍ لأهله بعدما لقن القينة كيف تتصرف عقب فراره حتى تشغل رجال تبع فلا يستطيعوا اللحاق به. وهذا كله، وهو مجرد عينة ضئيلة مما كان يقع فى الجاهلية، يبين لنا بقوةٍ أن الأمر على غير ما وصفه لنا أدونيس، الذى لم يكن يوثِّق ما يقول أو يستوثق منه، بل ينطلق فى كلام إنشائى يسود به الصفحات ليس له فى العلم كبير قيمة.
وبالنسبة للحب يذكر أدونيس أن تلك العاطفة عند العربى كانت تنطلق من الجسد، وأن العيد الأول فى حياة العربى هو عيد الجسد حيث تتوحد الشهوة واللذة والنشوة[17]. لكن أدونيس لا يتركنا نهدأ، بل سرعان ما يضيف أن هناك، إلى جانب هذاالنوع من الحب، الذى جعله هو الحب الوحيد كما رأينا، حبا عذريا[18]. ولو كان دقيق الفكر والعبارة لقال منذ البداية إن هناك لونين من الحب. لكن لأنه مندفع لا يبالى أين يقع كلامه وجدناه يقول بجسدانية الحب العربى، وهو ما يدل على إيمانه بأنه هو اللون الوحيد من الحب لديهم، لنفاجأ كعادتنا مع ما يكتبه أدونيس أن هناك نوعا آخر من الحب هو الحب العذرى. وهذا تناقض سببه عدم الدقة فى الكلام بل عدم الدقة فى التفكير. وهناك عيب آخر فى أدونيس ظهر أثناء تناوله لهذه القضية أيضا هو أنه يلجأ إلى العبارات المهوشة التى لا يحصِّل منها القارئ شيئا، فأدونيس مغرم بالكلام المجعلص الذى يصدع الدماغ ثم لا يخرج الإنسان منه بطائل، فمعظم ما كتبه فى الموضوع الذى نحن بصدده هو، فى الواقع، قشر لا وظيفة له.
ومن كلام أدونيس الإنشائى الذى يكذبه الواقع أيضا قوله إن “العالم بالنسبة إلى الشاعر العذرى صورة شفافة لحبيبته. كل شىء فيه يصير على مثال حبه: يصفو، يتلألأ، يخلع ثوبه الكثيف المعتم ويصير روحا”. وبعد عدد من الشقلباظات البهلوانية التى لا نخرج منها بشىء يضيف قائلا إن الشاعر العذرى “يدرك بفطرته الميل الغريزى عند المرأة للمعذَّبين الذين صعقهم القدر، وبالتالى لمواساتهم والتخفيف من آلامهم. لهذا كان يقدم نفسه لحبيبته فى حركة من التعاطف الأولى، ويصور نفسه جريحا معذبا ويدعوها إلى أن تبادله حبه ليتم شفاؤه. إنه بذلك يصور لها أعماقها، فهى بغريزتها لا تريد أن ترى فى العالم إلا الطفولة التى لا يجوز لها أن تعذَّب أوتشوَّه”. ثم يعود أدونيس بعد هذه الأسطر، التى استطعت أن أستخلصها من بين كثير من الجمل التى لا أحقق لها معنى، إلى ما كان فيه من شقلباظات بهلوانية.
ولكن هل الأمر كما صوره أدونيس؟ هل عند المرأة، المرأة بإطلاق، أى بـ”ألف ولام” الماهية، ميل غريزى للمعذبين الذين يصعقهم القدر تواسيهم وتخفف آلامهم… إلى آخر ما قاله؟ فمن إذن يا ترى كان يعذب هؤلاء الشعراء العذريين؟ إنها المرأة. لو أن أدونيس قال إن لدى بعض النساء هذا الميل المشار إليه لكان مصيبا، أما أن يعمم هذا على كل النساء فهو مصيبة. وفرق بين أن يكون الإنسان مصيبا وبين أن يكون مصيبة بل كارثة. ولو ذهبنا نستقصى أخبار العذريين لوجدناهم فى الأغلب الأعم يحبون من طرف واحد ولا تبادلهم حبيباتهم حبا بحب، فهن لا يهتممن بهم ولا يلتفتن إلى صراخهم ولا يبالين بهم أوبالنيران المشبوبة فى قلوبهم، تلك التى تحول حياتهم إلى سعير، بل يتزوجن رجالا آخرين غيرهم. والمرأة، فيما يبدو، تميل إلى الرجل المقتحم لا الذى يبقى فى مكانه يولول وينظم الشعر فى التعبير عن هيامه بها تاركا الآخرين يفوزون بها قبله.
ولو كان المحبون يفوزون بقلوب حبائبهم بسبب ما يقولونه لهن من كلام جميل رائع فى التعلق بهن والثناء على حسنهن لكان الشعراء العذريون أول الناجحين فى دنيا الغرام. لكن الواقع غير ذلك. فكم من امرأة نظم عاشقها أشعارا ملتهبة فيها لكنها لم تستجب له، بل ربما زادتها تلك الأشعار نفورا منه على نفور. وفى أحسن الأحوال قد تفرح، زَهْوًا منها وتِيهًا على بنات جنسها، بما ينظم من شعر يعبر عن تعلقه العنيف بها، ثم لا شىء بعد ذلك. ذلك أن الحب ليس هو الناحية النفسية وحدها تلك التى يركز عليها الشعراء العذريون، بل الناحيتين: النفسية والجسدية. أما الحب النفسى وحده فحب ناقص لا يلبى نداء الطبيعة البشرية كما ينبغى أن تكون التلبية.
وأذكر أن الشاعر كامل الشناوى كان مغرما بإحدى المطربات، ثم رآها ذات مرة مع قَصّاص فى مكان بعيد عن العيون يناجيها وتناجيه، ويمسك بيدها ويميل عليها وما إلى ذلك مما يفعله بعض العشاق فى الخلوات أو شبه الخلوات، فانصرف متألما غاية الألم ونظم قصيدة رائعة يعبر فيها عن لهيب الحب الذى يقاسى نيرانه وما صنعته تلك المطربة بقلبه جراء ما فعلته مع القصاص الذئب. ثم زاد فأعطاها القصيدة كى تقرأها فتفهم ما يجنه قلبه لها من وله، فما كان منها بعدما قرأت القصيدة الجميلة إلا أن أبدت إعجابها بها ورغبتها فى غنائها، وهو ما كان، ثم لم تنوّله قلبها رغم هذا، بل بقيت العلاقة بينهما كما كانت قبلا: هى تعطى قلبها لسواه، أما هو فللشعر والحرمان والآلام.
هذا، ولا ينبغى أبدا أن يغيب عن بالنا أنه متى ما نال الشخص قلب حبيبته وصار مطمئنا من جانبها فإن الحب يهدأ عنده، وقد يخبو. ومن هنا لا نجد، إلا فى الشذوذ الذى لا يقاس عليه، حبا ملتهبا ولا شعرا مولها بين الأزواج، اللهم إلا أن تكون الزوجة قاسية لا تبذل قلبها، أو لا تبذله بما فيه الكفاية، لزوجها. وكثيرا ما أقول: لو أن ابن زيدون مثلا كُتِبَ له أن يحصل على ولادة ويتزوجها لخبت نيران ذلك الحب العبقرى الذى كان وراء نونيته العجيبة التى لا يوجد مِثْلَها كثير من الشعر إبداعا فنيا وتوهجا عاطفيا وروعة أسلوبية. ومن ثم فإن القصائد التى ينظمها العذريون هى أكبر دليل على نقيض ما يقوله أدونيس، إذ لو كانت المرأة التى يقع العذرى فى هواها تعطف عليه لانتهى عذابه فى الحال. وأخيرا هل كان هناك شعراء “عذريون” (بهذا الاسم) جاهليون خالصو الجاهلية؟ إن الدارسين يقولون إن أولئك الشعراء إنما ظهروا فى عصر بنى أمية، ولم يكن منهم قبل ذلك إلا عروة بن حزام، كما هو الحال لدى د. طه حسين فى الجزء الأول من كتابه: “حديث الأربعاء”. وقد مات عروة سنة30 للهجرة، فهو إذن مخضرم لا جاهلى. أما صاحب “الأغانى” فقد وصفه (فى الفصل الخاص بأخباره) بأنه أحد “المتيَّمين”، مَثَلُه فى ذلك مَثَلُ المرقّش الأكبر وعبد الله بن العجلان، وإن كان قد جعله إسلاميا لا مخضرما، كما نص على أنه من قبيلة بنى عُذْرة. لكنْ هناك فى المقابل د. يوسف خليف، الذى يرى أن الجاهلية عرفت شعراء يشبهون الشعراء العذريين يسمَّوْن: “المتيَّمين”[19]، وهو ما وجدناه عند الأصفهانى. إلا أننا حتى لو قلنا بما يقوله د. خليف لقد كان أحرى بأدونيس أن يعرف أن مصطلح “العذريين” لم يكن معروفا فى الجاهلية، ومن ثم لم يكن ينبغى أن يتحدث عن حب عذرى ولا محبين عذريين قبل الإسلام، بل عن “متيَّمين”. فهو، فى أحسن الأحوال، قد استعمل مصطلح “العذريين” فى غير موضعه ولا سياقه الصحيح. وبالمناسبة فإننا لا نذهب مذهب د. طه حسين، الذى يؤكد أن الشعراء العذريين ليس لهم وجود أصلا[20]. وقد سبق أن رددت عليه فى كتابى: “من قضايا الدراسة الأدبية المقارنة” فى الفصل الخاص بقصة مجنون ليلى وانتقالها من الأدب العربى إلى غيره من الآداب كالأدب الفارسى والأدب الأوردى والأدب التركى.
وبعدكل هذا الذى قاله أدونيس فى موضوعنا الحالى يعود فيقول إن فى الجسدية، شأن العذرية، بعدا روحيا ونارا سحرية تدفئ وتضىء. ثم يعود مرة أخرى فيقول إن الحب الجسدى هو إله يُعْبَد، وإن كان إلها ملعونا. ثم يقفز قفزة أخرى من قفزاته البهلوانية قائلا إن المرأة هى، بالنسبة إلى الشاعر الجاهلى، مكان يتصالح فيه مع الزمان والموت. أما كيف ذلك فهو كلام، والسلام. وإذا كنا قد قرأنا عند أدونيس أن الشاعر الجاهلى كان يعيش حياته منفصلا عن العالم لا تربطه به آصرة، بل تفصل بينه وبين العالم وأشيائه هاوية تشعره بنقصه، وتجعله كئيبا معتزلا منتظرا متململا مغامرا، فها هو ذا أدونيس نفسه لا أحدٌ آخرُ يعود فيقول إن غاية الشاعر الجاهلى هى التحدث مع الواقع ووصفه والشهادة له دون أية محاولة من جانبه أن يرى فى ذلك الواقع أكثر مما فيه فعلا. ثم يضيف أنه كان بريئا أمام الطبيعة، واقعيا غنائيا صافيا، يشهد للأشياء المحيطة به بروح التعاطف، ويغنى للفرح والمأساة، وللغبطة والكآبة، وللحب والكراهية، وللتمرد والرضا، وللرجاء واليأس[21]. ولا أدرى فى الواقع كيف يتسق هذا الذى يقوله الآن مع ذاك الذى قاله قبلا! أما قوله عقب ذلك إن الشاعر الجاهلى كان يريد أن يتشيأ فيكون خيمة وامتدادا صحراويا وليلا فهذا ليس نقدا ولا علما، بل هو بهلوانيات، ولا داعى لأن أقول شيئا آخر.
ثم يعود مرة ثالثة ليقول إن الشاعر الجاهلى، لكونه يرى الأشياء تعبر كالغيم وسرعان ما تضيع، كان يتشبث بالحاضر ويملأ المسافة بينه وبين العالم فيشعر بالسيادة على الطبيعة بعد أن يثأر منها. ثم يقول كذلك إن الصحراء فضاء متشابه أو يكاد لا يتغير، فما نراه أمس نراه اليوم، وسوف نراه غدا[22]. وكما يرى القارئ الكريم لا يستقر أدونيس على كلام واحد، إنما هى خطرات من وساوسه تنشأ ثم تذهب لتعقبها خطرات أو وساوس أخرى تنشأ ثم تذهب… وهكذا دواليك. أما قوله إن الصحراء[23] من حول الشاعر الجاهلى كانت ثابتة لا تتغير أو لا تكاد، فهو كلام غير صحيح، إذ التغير فى الصحراء أسرع منه فى الحضر. كيف؟ إن الرياح تحمل الرمال من مكان إلى آخر، والسيول تجرف أمامها كل شىء، والكثيب الذى كان موجودا أمس فى هذا المكان أو ذاك سرعان ما يزول متى ما هبت الريح أو هطلت السيول ولا يعود هناك، فتتغير معالم الصحراء سريعا. وهذا يفسر لنا الشكوى التى نسمعها من ذلك الشاعر حين يمر على مضارب قبيلة حبيبته فيجدها قد تغيرت بسبب الريح والأمطار، ويصير من الصعب عليه أن يتعرفها. لنستمع إلى النابغة الذبيانى إذ يقول:
أَهاجَكَ مِن سُعداكَ مَغْنَى المَعاهِدِ * بِرَوْضَةِ نُعْمِيٍّ فَذاتِ الأَساوِد؟ِ
تَعاوَرَها الأَرْواحُ يَنسِفنَ تُرْبَها * وَكُلُّ مُلِثٍّ ذي أَهاضيبَ راعِدِ
بِها كُلُّ ذَيّالٍ وَخَنساءَ تَرعَوي * إِلى كُلِّ رَجّافٍ مِنَ الرَملِ فارِدِ
أو إلى زهير بن أبى سلمى:
قِفْ بِالدِّيارِ الَّتي لَم يَعْفُها القِدَمُ * بَلَى، وَغَيَّرَها الأَرْواحُ وَالدِّيَمُ
أو إلى طرفة بن العبد:
أَشَجاكَ الرَّبْعُ أَم قِدَمُه * أَمْ رَمادٌ دارِسٌ حُمَمُه
كَسُطُورِ الرّقِّ رَقَّشَهُ * بِالضُّحَى مُرَقِّشٌ يَشِمُه
لَعِبَت بَعْدِيَ السُّيُولُ بِهِ * وَجَرَى في رَيِّقٍ رِهَمُه
أو إلى لبيد بن ربيعة (وهو، رغم خضرمته، يصح الاستشهاد به فى هذا السياق لأننا نتحدث عن ظاهرة مستمرة لم تنته بانتهاء العصر الجاهلى):
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها * بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُها فَرِجَامُها
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها * خَلَقًا كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهدِ أَنيسِها * حِجَجٌ خَلَونَ: حَلالُها وَحَرامُها
رُزِقَت مَرابيعَ النُجومِ وَصابَها * وَدقُ الرَواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها
مِن كُلِّ سارِيَةٍ وَغادٍ مُدْجِنٍ * وَعَشيَّةٍ مُتَجاوِبٍ إِرزامُها
فَعَلا فُرُوع الأَيهُقانِ، وَأَطفَلَت * بِالجَهْلَتَينِ ظِباؤها وَنَعامُها
وَالعِينُ ساكِنَةٌ عَلى أَطلائِها * عُوذًا تَأَجَّلُ بِالفَضاءِ بِهامُها
وَجَلا السُيولُ عَنِ الطُلولِ كَأَنَّها * زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أَقلامُها
أَو رَجْعُ واشِمَةٍ أُسِفَّ نُؤُورُها * كِفَفًا تَعَرَّضَ فَوقَهُنَّ وِشامُها
ومن يقرأ معلقة امرئ القيس مثلا يَرَ كيف جرفت السيول أمامها كل شىء، واقتلعت الأشجار الضخام وأغرقت الحيوانات الوحشية فبدت “كأنها أنابيش عُنْصُل”… إلخ:
أَحارِ، تَرَى بَرْقًا أُريكَ وَميضَهُ * كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضيءُ سَناهُ أَو مَصابيحَ راهِبٍ * أَهانَ السَّلِيطَ في الذُّبَالِ المُفَتَّلِ
قَعَدْتُ لَهُ وَصُحْبَتي بَينَ حامِرٍ * وَبَينَ إِكامٍ. بُعْدَ ما مُتَأَمَّلِ!
وَأَضْحَى يَسُحُّ الماءُ عَن كُلِّ فِيقَةٍ * يَكُبُّ عَلى الأَذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ
وَتَيْماءَ لَم يَتْرُك بِها جِذْعَ نَخْلَةٍ * وَلا أُطُمًا إِلا مَشِيدًا بِجَنْدَلِ
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً * مِنَ السَّيْلِ وَالغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
كَأَنَّ أَبانًا في أَفانينِ وَدْقِهِ * كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وَأَلْقَى بِصَحْراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ * نُزُولَ اليَمَانِي ذي العِيَابِ المُخَوَّلِ
كَأَنَّ سِباعًا فيهِ غَرْقَى غُدَيَّةً * بِأَرجائِهِ القُصْوَى أَنابيشُ عُنْصُلِ
عَلى قَطَنٍ بِالشَيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ * وَأَيْسَرُهُ عَلى السِّتارِ فَيَذْبُلِ
وَأَلقى بِبَيْسانٍ مَعَ اللَيلِ بَرْكَهُ * فَأَنزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْزِلِ
ثم إن العرب المتبدِّين لا يسكنون الصحارى القاحلة التى ليس فيها عشب ولا ماء، بل ينزلون الأماكن المعشبة التى توجد فيها آبار المياه كى تأكل ماشيتهم وتشرب. حتى إذا جفت الآبار وأتت الإبل والأغنام على الأعشاب رحلوا عنها وخلَّفوها إلى غيرها حيث يوجد العشب والماء. فالبدو إذن لا يسكنون بيئة ثابتة لا يعتريها أى تغير كما يتصور بعض الناس. أما فى القرى والمدن فالمبانى والشوارع والمعالم ثابتة إلى حد بعيد، ولا تتغير إلا بعد مرور وقت طويل، وبالتدريج، بحيث لا يحس الإنسان بذلك التغيير. ولهذا لا نسمع أن رجلا قد ضل الطريق وضاع فى الحضر، بخلاف ما يقع كثيرا فى الصحراء من تَيَهَان الكثيرين وضياعهم وهلاكهم ما لم تتداركهم رحمة الله، فعندئذ تُكْتَب لهم حياة جديدة. وعلى هذا فإننى لا أستطيع أن أفهم أدونيس، الذى يبدو وكأنه يتعمد مدابرة المنطق والحكمة فى كل ما يكتب.
ومرة أخرى كعادة أدونيس فى الاندفاع الأهوج نحو إصدار الأحكام نراه يؤكد أن شعور الجاهلى بالقوة الخارقة للدهر التى لا يمكن مقاومتها، إذ تأخذ كل شىء وتغير كل شىء[24]، قد أدى إلى انغراس الكآبة فى الروح العربية والشعر العربى حتى لقد صارت الكآبة فطرة فيها وطبيعة، إذ ثمة حسرة فى الشعر الجاهلى تبطِّن حتى الفرح[25]. وكعادة أدونيس أيضا لا يحاول أن يسوق ولو دليلا واحدا من ذلك الشعر الذى يدعى عليه الدعاوى. لقد بذل الرجل ما فى وسعه فأورد بضع جمل وأنصاف جمل فى بداية الفصل حسمت الأمر بالضربة القاضية، وانتهى الأمر. وكل ما علينا بعد ذلك أن نتجرع ما يقوله دون أية محاولة للتحقق أو المراجعة، إذ يكفى أن يقوله أدونيس حتى نصدقه من فورنا مهما تكن مناطحته لواقع الحياة. ترى أين الكآبة فى الشعر العربى؟ لاحظ أنه يتحدث عن الروح العربية والشعر العربى كله لا الشعر الجاهلى وحده. أما محاولة إقناعنا أن العربى حتى فى أشد لحظات الفرح يظل كئيبا فلا أدرى كيف تدخل العقل. نعم، كيف يكون الإنسان فرحا، وفى ذات الوقت مكتئبا؟ وحتى لو قصرنا هذا الحكم المضحك على الشعر الجاهلى وحده، فأين الدليل يا ترى؟ أمن الممكن أن يكون الاكتئاب هو سمة عصر بكامله؟ فكيف يا ترى؟ هل كان الجاهليون كلهم، ودعنا من بقية عصور التاريخ العربى، يمضون حياتهم جمعاء فى الحزن والصمت واليأس قد وضعوا أيديهم على خدودهم وغرقوا فى آبار أنفسهم منسحبين من الحياة كما هو حال المكتئبين؟ أَوَكانوا، حتى حين يقامرون ويمارسون الجنس ويشربون الخمر ويتعاركون وينتقمون ويتفاخرون ويمدون يد العون للمستضعفين والمكسورين وينظمون الشعر ويخطبون ويرعَوْن ماشيتهم ويسافرون ويتاجرون، حزانى مكتئبين لا يضحكون ولا تَفْتَرّ شفاههم عن أسنانهم ولو ببصيص ابتسامة؟ لقد رأينا أدونيس قبل قليل يؤكد أن الشاعر الجاهلى كان يشهد الأشياء المحيطة به بروح التعاطف، ويغنى للفرح والمأساة، وللغبطة والكآبة، وللحب والكراهية، وللتمرد والرضا، وللرجاء واليأس. فكيف يتسق هذا مع ما قاله عن الاكتئاب المزمن عند ذلك الشاعر؟ والغريب أن أدونيس بعد ذلك كله يزعم أن حس الفروسية الجاهلية هو حس الكفاح ضد الدهر[26]. أى كفاح يا ترى بعدما جَعَلْتَ الكآبة والخنوع لحوادث الدهر سمتين من سمات الشخصية العربية آنذاك؟
ثم بعد بضع شقلباظات أدونيسية أخرى ينتهى إلى القول بأن حس الجاهلى بالدهر يتضمن حس التقطع، فقد كان الشاعر قبل الإسلام إنسانا متقطع الحياة والحساسية، فاللحظات التى يعيها متفتتة مبعثرة تجهل سآمة اللذة الطويلة، ولا تعرف غير شرارها المفاجئ والسريع التلاشى فى آن. كما أنه كان يجهل النظام جهلا تاما سواء كان هذا النظام عقليا أو اجتماعيا. هذا ما قاله أدونيس، ولا أريد أن أدخل فى مناقشة كلامه هذا، وإلا ما انتهيت. لكنى أريد أن أناقش ما سوف يقوله عقب ذلك، وهو أن هذا الوضع الوجودى قد انعكس فى شكل الشعر آنذاك، إذ كيف “يتأتى لشاعرٍ هذه حياته أن ينصرف إلى بناء القصيدة والمؤالفة بين أجزائها؟ هكذا كانت القصيدة الجاهلية دون تأليف: لا تلاحم فى أجزائها، وليس لها إطار بنائى. إنها قصيدة متحركة تتبع منحى انفعاليا، وتمضى حيث يحملها شعور دائم التغير. إن تفكيكها الخارجى طبيعى إذن. هو رداء الشعور المتحرك الداخلى. إنها قصيدة ترسم أيام القلب. إنها صورة بالكلمات عن المكان- المتاه، المكان- الصحراء. أعنى أنها أشكال واحدة رتيبة، لكن الرتابة هنا طريفة، وتمكن تسميتها: رتابة التنوع”…”[27].
ولقد سبق أن قلنا إن الصحراء لم تكن ثابتة على النحو الذى يتوهمه، بل كانت تخضع للتغير، وإن الجاهليين على كل حال لم يكونوا يسكنون المناطق الرملية القاحلة، وإلا لماتوا هم وأنعامهم، إذ من أين لهم أو لحيواناتهم بالطعام والشراب فى مثل هذه الرمال التى تخلو من الكلإ والماء؟ لقد كانوا ينزلون حيث يتوفر الماء والكلأ لا وسط الرمال الجافة. ثم هل كان العربى فى الجاهلية يجهل النظام جهلا تاما؟ ألم يكن يخضع للنظام القبلى بعاداته وتقاليده وأعرافه ودينه وكاهنه وشيخ قبيلته؟ ألم يكن مصيره الخلع من القبيلة إذا خرج على هذا النظام؟ لقد كان عرب الجاهلية يعرفون النظام فى حياتهم، لكنه نظام مختلف عن النظام الذى نعرفه نحن. إلا أن هذا الاختلاف لا يسوغ لنا الزعم بأن حياتهم كانت تفتقر إلى النظام. ولنفترض أنهم لم يكونوا يعرفون النظام فعلا، ألم يعرفه العرب بعدما جاء الإسلام وأسسوا دولة لها حكومة وشريعة؟ فكيف يفسر أدونيس استمرار الشعراء العرب حتى أوائل العصر الحديث فى تعديد موضوعات قصائدهم فى بعض الأحيان؟ بل كيف يفسر لنا أدونيس تفكك شعره هو نفسه لا بتعدد موضوعاته، بل بانفصال كل كلمة فيه عن جارتها بحيث يستحيل فى كثير من الأحيان الخروج بشىء من قصائده رغم أنه لا يعيش فى العصر الجاهلى، بل يعيش فى عصرنا وفى فرنسا؟ وكيف يا ترى يفسر أدونيس تفكك أفكاره على النحو الذى استبان لنا فى كتابه هذا فلا تؤدى فكرة فيه إلى ما يليها، إذ كثير منها لا يزيد عن أن يكون مجرد شقلباظات فى دنيا الفكر، أوبالأحرى: فى دنيا اللافكر؟ ثم هل كانت القصائد فى الجاهلية كلها متعددة الأغراض؟ صحيح أن بعض القصائد كانت تشتمل على عدة موضوعات، لكنْ صحيح أيضا أن بعض القصائد الأخرى لم تكن تعرف هذا التعدد. وقد استمر الأمر على هذا الوضع طوال تاريخ الشعر العربى حتى بدايات العصر الحديث.
أما قوله بعد ذلك بقليل إن “القصيدة الجاهلية خيمة. هى كذلك مليئة بأصوات النهار وأشباح الليل، بالسكون والحركة، بالحسرة وانتظار الوعد. هى شىء يحيط به الفضاء من كل جانب، ملىء بالتجاويف، يتخلل ويترنح، ويجلس فى الحرارة الشاغرة. إنها فضاء الشاعر إلى جانب الفضاء الآخر المحيط”[28]، أما قوله هذا فقد أوردتُه فقط لتسلية القراء والترفيه عنهم، فهو كلام لا معنى له، ومن هنا كان مضحكا مسليا. إنه هلوسات كهلوسات المحموم حين يذهب فى غيبوبة لا يدرى فيها ما يقول. ثم يضيف أن “الشعر الجاهلى صورة الحياة الجاهلية: حِسِّىٌّ غَنِىٌّ بالتشابيه والصور المادية”[29]. فهل هناك شعر بدون تشابيه وصور مادية؟ ثم ما المقصود بالحسية هنا؟ أتراه يقصد أن الجاهليين لم تكن لهم اهتمامات عاطفية وفكرية وأخلاقية؟ لكن هل هناك بشر ليس لهم عواطف ولا أفكار ولا أخلاق؟ ألم يكن الجاهليون يحبون ويسعدون لهذا الحب إذا أقبلت عليهم حبائبهم، ويتألمون إذا هجرنهم وغدرن بهم؟ ألم تقل أنت نفسك يا أدونيس إنهم كانوا ذوى موقف وجودى من الحياة؟ ألم تكن لهم قيمهم الأخلاقية التى يحرصون أشد الحرص على احترامها والانصياع لها؟ فكيف يقال عنهم إنهم كانوا حسيين تامى الحسية؟ كذلك نرى أدونيس يؤكد أن القصيدة الجاهلية لم تكن تحاول خلق الواقع بل تكتفى بالتحدث عنه دون أن يفكر صاحبها فى تغيير حياته[30]. ترى كيف نسى بهذه السرعة ما قاله قبلا من أن الشاعر الجاهلى كان يسعى إلى إخضاع هذا العالم؟
ويختم أدونيس فصله هذا عن الشعر الجاهلى بقوله إن الحياة، بالنسبة للشاعر الجاهلى، “فرح مقبول سلفا، وإيمان يوجه الحياة والحساسية. الوضع أولا، ثم يأتى الشعر فيثبته ويغنيه ويمجده ويهلل له. الشعر الجاهلى سهم مرشوق لا ينظر إلا أمامه: لا يحيد ولا يلتفت إلى الوراء”[31]. فأما أن الشعر الجاهلى سهم مرشوق… إلخ، وإن كنت لا أدرى أين بالضبط تم رشقه، فأرجو من القراء أن يُعَدّوا عنه لأنه كلام لا معنى له مما يبرع فيه أدونيس وأمثاله من أصحاب الكلام المجعلص الذى لا يشير إلى شىء. وأما أن الحياة بالنسبة للشاعر الجاهلى فرح مقبول سلفا وإيمان يوجه الحياة والحساسية فمن الواضح أنه لا يمكن أن يستقيم مع القول بأن الشاعر الجاهلى كان فى حالة اكتئاب. وهذا تناقض آخر من تناقضات أدونيس، الذى يكتب من وحى اللحظة ولا يفكر فيما سبق ولا فيما هو آت من كلامه. إنه يكتب كتابة مفتتة لا يتصل بها ببعض، كتابةً ذَرِّيّة، أى مكونة من ذرات متناثرة غير متماسكة، كل ذرة منها تمضى فى اتجاهها الخاص لا تربطها بالذرات الأخرى أية وشيجة. والمصيبة أن الرجل يتكلم جادا، والمصيبة الأشد أن هناك حواريين له يَرَوْن فى هذا الكلام الفارغ فكرا تقدميا حداثيا ينبغى الأخذ به لتغيير وجه العالم إلى الأفضل. أَىّ “أفضل”، والحكاية من أولها لا تطمئن ولا تنبئ بخير؟
الهوامش
[1] انظر “مقدمة للشعر العربى”/ 11- 12.
[2] ص12.
[3] ينسبه كاتب ترجمته فى “ُEncyclopedia. of Arabic Literature” (تحرير Julie Scott Meisami & Paul Starkey)، وهو المستشرق باور (T. Bauer)، إلى العصر الإسلامى المبكر أو الأموى: “a poet from early Islamic or Umayyad times”
[4] انظر تاريخ اليعقوبى/ برِلْ/ ليدن/ 1883م/ 1/ 298، و د. جواد على/ المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام/ ط2/ 1413هـ- 1993م/ 6/ 590، ود. شوقى ضيف/ العصر الجاهلى/ ط24/ دار المعارف/ 2003م/ 100.
[5] انظر كارلو نلينو/ تاريخ الآداب العربية من الجاهلية لعصر بنى أمية/ ط2/ دار المعارف/ 1970م/ 90- 92.
[6] ص13.
[7] ص13.
[8] أوردها الثعالبى للأفوه فى كتابه: “التمثيل والمحاضرة”.
[9] انظر ص14.
[10] انظر ص14.
[11] ص16.
[12] نفس الصفحة.
[13] نفس الصفحة.
[14] ص16- 17.
[15] انظر محمد أحمد جاد المولى وعلى محمد البجاوى ومحمد أبو الفضل إبراهيم/ أيام العرب فى الجاهلية/ المكتبة العصرية/ بيروت/ 102 وما بعدها.
[16] د.إبراهيم عوض/ هوامش على”تاريخ العرب” لفيليب حتى”/ دار الفردوس/ 1433هـ- 2012م/ 65- 66.
[17] ص19- 20.
[18] ص20- 21.
[19] انظر د. يوسف خليف/ الحب المثالى عند العرب/ دار قباء/ 7- 9.
[20] انظر د. طه حسين/ حديث الأربعاء/ ط14/ دار المعارف/ 1/ 173 وما بعدها على مدار صفحات كثيرة فى الفصول التى وضع لها عنوان “الغزلون”.
[21] ص24.
[22] انظر ص27- 28.
[23] يتصور أدونيس أن العرب جميعا كانوا يسكنون الصحراء، غافلا أنه كانت هناك واحات ومدن غير قليلة كمكة والحيرة وبصرى ويثرب والطائف وهَجَر… إلخ
[24] لاحظ أنه قبل قليل قد أكد أن الصحراء لا تعرف التغيير، إذ يبقى كل شىء على حاله، والآن ها هو ذا يلعق كلامه السابق ويقول العكس مؤكدا أن الدهر يغير كل شىء.
[25] ص28.
[26] انظر ص29.
[27] ص29- 30.
[28] ص31- 32.
[29] ص32.
[30] ص33- 33.
[31] ص33
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”