مَالَ الظَّلاَم يَلُفُّ أنحَاءَ الرُّبَا |
فكأنّهُ ثَاوٍ بهَا لا يَرْحَلُ |
وحِكايةُ الأمسِ الجميلِ تبدّلَتْ |
مَن ذا يُعيدُ ضِياءَها.. مَن يُكمِلُ |
ضاقت بِيَ الرُّحْبُ الفسيحةُ كُلُهَّا |
حتى ظننتُ الحزنَ لا يَتَبَدّلُ |
وَبَدَا الصباحُ على مشارِفِ رَوضَتِي |
فنزلتُ في ساحاتها أترَجَّلُ |
أطَأُ الثّرَى بِالرَّاحِ في أرجائِهَا |
وأهِيمُ في جَنَبَاتِهَا أتجَوَّلُ |
مُتعَجِّلٌ مَن رَامَهَا في خَطْوِهِ |
وإذا انثنى عنها فلا يتعجَّلُ |
وتسابقتْ نحوَ العُلاَ أغصَانُهَا |
فوَجَدْتُنِي مِن حُسنِهَا أتبَتَّلُ |
ذِي دَارُ خُلْدٍ للعِبَادِ تَكَشّفَتْ |
آفاقُهَا أم أنني أتخيَّلُ |
سبّحتُ ربّي مُذعِنًا وحمَدتُهُ |
وسجدتُ أشكُرُه ورُحتُ أرتِّلُ |
يا رَوضَةً غنّاءَ يَرْعَاكِ الذي |
آياتُهُ في الخَافِقَينِ تَنَزَّلُُ |
لو صُغتُ في وَصْفِي لها شِعرَ الوَرَى |
حِينًا أحُطُّ وبعضَ حِينٍ أرحَلُ |
ما كنتُ قد وفّيتُهَا بجمالِهَا |
أو كان مما صُغتُهُ ما يُقبَلُ |
كلُّ الأمَانِيِّ العِذَابِ تَجَمّعَتْ |
كنسيم فجر حالِمٍ يَتَدَلّلُ |
والطيرُ يَشدُو في السّمَا بِلُحُونِهِ |
لمَّا رَأى أشجارهَا تَتَزَمّلُ |
غُصنًا يُعانِقُ آخراً فِي خِفّةٍ |
والسّاقُ صَامِدَةٌ فلا تتمَلْمَلُ |
والتّوتةُ الغَرّاءُ تُرسِلُ بالنَّدَى |
أشجانَهَا والدُّرُ منها يَهْمِلُ |
وكذا النخيلُ السّامِقَاتُ وطَلْعُهَا |
كَجَوَاهِرِ العِقْدِ الثّمِينِ وَأجمَلُ |
وشُجيرَةُ الليمونِ يعصِرُهَا الأسَى |
إذ فَرْعُهَا لِثِمَارِهِ يَستثقِلُ |
وفراشةٌ كالزّهرِ حين تَفَتّحَتْ |
أوراقُهُ فكأنّهَا لا تَذْبُلُ |
ورأيتُهَا وقد انثنتْ سِيقانُهَا |
ومِن الرّحيقِ العَذبِ كانت تنهَلُ |
طافتْ بأرجَاءِ الحديقةِ كلِّهَا |
بين المُرُوجِ وزهرِهَا تتنقّلُ |
فيها العصافيرُ الصّغارُ رأيتُهَا |
سَكْرَى ومِن قطْرِ النّدَى تتبَلّلُ |
تَشدو كمِثْلِ العُودِ في تَرْنِيمِهِ |
وتعودُ في أعشاشِهَا تتبَتّلُ |
وتَضَافرَتْ كالعِقْدِ ريشَاتٌ لَهَا |
كأميرةٍ في وَشْيِ نُعْمَى تَرْفُلُ |
راحت ترتّلُ في المَدَى ألحانَهَا |
وتُذيعُ في كلِّ الدُّنَا لا تخجَلُ |
اللهَ في عَلْيائِهِ قد سَبّحَتْ |
وَهَمَتْ إلى رزقٍ لها يتنزّلُ |
فكأنها عند التقاطِ طعامِهَا |
تدنو من التُّرْبِ النَّدِيِّ تُقَبِّلُ |
ذاك الكُرُومُ تشابَكَتْ أوراقُهُ |
وعَنَاقِدٌ من بينِها تَتَسَلّلُ |
وشُجَيرَةُ التّينِ انجَلَتْ أفنانُهَا |
فثمارُهَا كالّليلِ إذ هُوَ ألْيَلُ |
أوكُلّ ذَيَّاكَ النّعِيمِ برَوضَتِي |
مَن ذا يُطِيقُ النّأْيَ أو يتحَمّلُ؟ |
مَلأتْ تباريحَ القلوبِ صَبَابةً |
ورِحابُهَا للنّاسِكِينَ تزَلّلُ |
عند الكَرَى دومًا نَثُوبُ لِظِلِّهَا |
وَيَطِيبُ للضِّيفَانِ فيها المَنزِلُ |
واللهِ إنِّي لا أُطِيقُ فِرَاقَهَا |
ولِسَاحِهَا ممّا لقيتُ سَأرْحَلُ |