30 أغسطس 1966، ينشر مجموعة من المثقفين والمسرحيّين التونسيين بيانا، مطالبين بضرورة مراجعة المسرح التونسي وتطويره. وبدأت بالفعل بعض المحاولات في هذا الإطار: فحطّم المنصف السويسي الجدار الرّابع وقدّم لأوّل مرّة ديكورا متحرّكا في مسرحيّة “ديوان الزنج”. وثارت مجموعة المسرح الجديد بإشراف الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري وجليلة بكار على التّعبيرات الفنية الموجودة وقدموا قراءات جديدة من خلال أعمال مسرحيّة خالدة مثل “غسالة النوادر”. ونجح توفيق الجبالي في الثورة على “عطيل” شكسبير حين أخذ الجسد مكان النص فوق الخشبة، وحملنا للاهتمام أكثر بسيميائيّة الصورة المسرحيّة.
أغسطس 2022 وبعد مرور أكثر من نصف قرن على بيان 1966، ما يزال المسرح في تونس حبيس تلك التّجارب والمحاولات الأولى لكبار المسرحيّين والتي هي في الأصل مستقاة من الإرث المسرحي الغربي. نعم، ما يزال المسرح في تونس يتلكّأ في التعود على العاميّة التونسية ويفوته أنّ كلّ متلق هو بالضرورة يتأثّر ببيئته في تشفير رمزيّات الديكور والموسيقى وكلّ مكوّنات العمل المسرحي. لهذا فإن أغلب المسرحيّات لا تنجح في أن ترافق الجمهور إلى فضائه الخاص أو لا تنجح في أن تثير فيه الرغبة في التفكير فيها خارج العرض وإدارة نقاشات حولها.
إنّ المسرح هو جزء من الفضاء العام تطرح على خشبته أبرز قضايا ومشاغل المجتمع، جزء من الفضاء العام كما شكّله الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس. فالنقاش العلني الذي يضمنه المسرح ولو رمزيّا من خلال مكوّناته كعمل فني يمكن أن يكون أكثر جرأة من أي فضاء عام آخر من حيث تعرية الواقع بل “سلخه”.
كيف يمكن للمسرح أن “يقول” بيئته؟
لا ننكر أنّ الانفتاح على ثقافة الآخر ضرورة لأنّ الفن، أساسا، هو كونيّ، ولكن أن يكون لهذا الفن خصوصيّة بيئته فهذا يجعل منه أكثر وظيفيّة. فإن لم ينجح السّياسيون في المحافظة على فضاءات عامّة قادرة على بناء سليم للرأي العام مبني على النقاش والحوار العقلاني العلني، فالدور يلعبه الفنّ المسرحي أو الفضاء الحرّ لتقديم المقترح الرّمزي لتطوير المجتمع.
السّؤال المطروح إذن: كيف يمكن تقديم مقترحات دون أن يكون المنتج والمخرج والممثل على وعي وفهم عميق لهذا المجتمع؟
نعتقد أنّ عمل المسرحي لا يقلّ أهميّة عن عمل الباحث في العلوم الإنسانيّة بل لعلّه يتجاوزه في جمعه بين وظيفتين: الوظيفة الأولى هي تشخيص الواقع وفهمه والبحث في تفاصيله والتعمق في الظاهرة المراد طرحها والوظيفة الثانية تحفيز المتلقي على المشاركة في عمليّة التفكير والبحث من خلال مشهديّة الظاهرة.
وهنا نستحضر نظريّة التحديق كما طرحها المفكرين ميشال فوكو ولاكان. فالمتلقي يطوّر مستوى وعيه من خلال ما يراه، يقيم علاقة بصريّة بينه وبين الممثل وبين المسرحية وشخوصها. فيملأ مقول الممثّل بما يفهمه ويشفّره بصره. إنّها اللحظة التواصلية المشهدية بين المتلقي والممثل.
وإذا التزم المسرحي بهذه المراحل في إعداد مسرحيّته، فإنّه سيكون حتما أكثر نجاعة ونجاحا في طرح واقعه ليس مضمونا فقط وإنّما أيضا على مستوى الشّكل.
لم على الممثّل أن يقول نصّه بمرافقة موسيقية لبتهوفن في حين يوجد تراث موسيقي غنيّ جدا ومن بيئات عربيّة وتونسية غنية وقادرة على أن تحلّق بعيدا بالممثّل. كيف للمسرح أن يكون فضاء للنقاش حول قضايا الرّاهن في مكان محدد بلغة مكان غريب عليه؟
تطوّر الحركة المسرحيّة في تونس..
لنتفق على أنّه بعد الثورة وفي السنوات الأخيرة، تكاثرت تجارب الـ”وان مان شو” (One Men Show) أو حتى الـ”وان وومن شو” (One Women Show)، أكثر من قبل. هذه الأعمال المسرحيّة الفردية “شعبوية” في طرحها للقضايا، إذ أنّها تحصر القضيّة في شخصنتها لتكون كامل المسرحية عبارة عن مجموعة من النكت غير المضحكة غالبا لسطحيتها والتي تشكّل موقفا من الشخص فتتهكّم عليه بلغة مباشرة مبتذلة. وكأنّي بصاحب النص اكتفى بجمع نكت فيسبوكيّة. لقد تحوّل المسرح من الجماعي إلى الـ”وان مان شو” مثلما تحوّلت الديمقراطية إلى فردانية.
ولا تخرج الأعمال المسرحيّة الجماعية في تونس عن تقاليد كبار المسرحيين التي تعود إلى ستينات القرن الماضي، والتي هي الأصل في تبعية للمرجعيّات الغربية ما عدا بعض الاستثناءات. وطرق التعبير عن الأزمة متشابهة. وبناء الشخصية متشابه. بل إنّ التركيبة النّفسية تكاد تكون نفسها. فلا تخلو المسرحيّات الجماعية التي تطرح قضايا الرّاهن من شخصيّة المجنون والسائس المتسلّط والمواطن الذي يظهر دائما في صورة الضّحية.
لنأخذ مثالا على ذلك المسرحية الأخيرة “ذاكرة” للمخرج سليم الصنهاجي والتي تدور في فضاء استشفائي للأمراض العقلية. والتي في عمقها لا تبعد عن “جنون” الفاضل الجعايبي التي قدّمت في بدايات الألفيّة الثانية. لماذا لا يجرؤ المسرح على اختراق أو فضّ البنية التقليدية لعلاقة السّائس مع شعبه. ألا يمكن مثلا أن نقترح رمزيّا هذه العلاقة السلطويّة التي أصبحت للشعب على السائس من خلال الانتخابات في تونس؟ ألم يصبح الشعب جلاّدا لنفسه من خلال خياراته؟
كيف نبني الثقة بين الجمهور ومسرح لا يجيد عاميّته؟
إنّ حركة المجتمع التونسي تسير في اتجاه وحركة الفنون في اتّجاه مغاير تماما، وكأنّ بالمسرحي يوصد أبوابه على ذاكرته المسرحيّة وما حفظه من المدارس القديمة وما شاهده من أعمال ويهمل أهمّ عمليّة وهو تأمّل الواقع التونسي وملاحظة كيف يتحرّك وما هي المتغيّرات التي تحكم عملية تطوّره؟
إنّ التفكير والبحث في بناء النص المسرحي والشخصيات هو شبيه بعمليّة عقلنة الفعل التواصلي الذي دافع عنه يورغن هابرماس. فالمعرفة والوعي العميق والفكر عموما يجنّب المخرج التناول الشعبوي والعاطفي والانفعالي للقضايا وينقذ الممثل من الأداء الانفعالي والتخمّر على الخشبة ويجرّد المسرحية من مصداقيتها في طرح ظاهرة ما ويفقد الجمهور لذة الفرجة ومتعة التفكير أمام عرض يخاطب العاطفة وليس العقل.
يظلّ المسرح ذاك الفضاء المنفتح على فضاء آخر. يضمّ الفضاء الأوّل شخصيّات ملهمة ومحفّزة لتشكيل اتجاهات شخصيات الفضاء الثاني. وقد يتمّ تبادل الأدوار بين الفضاءين أو بين الجمهورين (الممثلين والمتلقين للعرض المسرحي). وللوصول إلى هذه المرحلة من الثقة في تبادل الأدوار فلا بدّ أن يفهم المسرحي جمهوره ولا بدّ للجمهور أن يعي بالمكان الموجود فيه وخصوصيّته من خلال المسرحيّة المعروضة الآن وهنا.
أمّا الطرح البديل، فنجده مثلا في المسرح التفاعلي وهو المسرح الذي يقيم علاقة آنيّة بين الممثل والجمهور ويصير هذا الأخير شريكا في المسرحيّة ممثلا ومفكّرا بدخوله في حوار مع الممثل. وتدار المسرحيّة التفاعليّة كالتالي: يرتجل الممثّل سؤالا حول قضيّة ما ويفتح النقاش للجمهور الذي في كل مرة يتدخّل ليبدي رأيه أو يقدّم فكرة ما. ويؤسّس المسرح التّفاعلي على فكرة أن سلوك الفرد لا يتغير إذا ما لم يكن الفرد في حدّ ذاته مقتنع بذلك، وحتى يكون مقتنعا لا بدّ أن تصدر عنه الرّغبة بالتفكير علنا.
العديد من الظواهر والعديد الإشكالات التي لم ينتبه لها المسرح ربّما لأنّه غارق في كلاسيكياته أو متجها نحو الـ”وان مان شو” “النكتة”.
ليس المهم أن نقول إنّ التونسي يعاني أزمة ما فوق الخشبة، بل الأهمّ أن يتجاوز المسرحي التفكير السّائد بتفصيلة ما لم ينتبه لها غيره. ويسلّط عليها الضوء لأنّه يدرك أنّ هذه التفصيلة أو تلك قادرة على إدارة نقاش عام فعّال في تحريك المجتمع وتطويره إيجابيا.