للهواء والماء أسرارهما. والنور بصير. وفي آليات الزمن شيء من الشيطانية. والفكر يصيبنا بالدوّار. أما الحقيقة فمتاهة. ولا شيء أبسط من الحب. فبمجرد ما ننطق اسمه، يدرك الجميع عما يدور الحديث. هناك حب الأم. وحب الوطن. وحب الإله. وحب الشباب. والحب الذي يدوم، والحب الذي ينهار. ولذة لحب وشقاؤه. يعرف الجميع تقلباته ومنعطفاته. وُظِّف إلى حد الابتذال في القصيدة والسونيتة، وفي المسرح الكلاسيكي، ومن طرف الشعراء الرومانسيين، ومن لدن المغنيين والمغنيات، وفي السينما، وفي التلفزيون. لا يكُف عن الانبعاث من رماده، وعن اعتلاء منصة السيادة في العالم.
دخل كاتب سيناريو مسرعاً، وهو في قمة الحماس، إلى مكتب أحد المنتجين في هوليود. فخاطبه:
– أيها الرئيس، خطرت لي فكرة عظيمة…
– آه! طيب…
– بما يكفي لإطلاق العنان للحماس…
– حسنا..
– قصة غير مسبوقة بتاتاً…
– حقاً؟ كلي آذان صاغية.
– حسنٌ.. إليك الفكرة: فتى واعد فتاة…
يجعل الحب الأرض تدور. والكواكب أيضاً. والشمس وبقية النجوم. والأكيد أن القوى الأربع، كما هو معلوم جيداً، في اشتغالها داخل الكون، يؤلِّفها الحب في العالم الذي سينهار بدونها. يرمي كل الأحياء في بعضها في أحضان بعض.. يمنح بعض الشجاعة والعزاء للعاجزين، والمحرومين، والمعوزين، واليائسين. إنه في قلب العدالة، والجمال، والحقيقة. يُقرّب الأحياء. يذكّر بالأموات. يسمو بك صوب الإله. وقد سمح للتاريخ -على الأقل خلال آلاف السنين الماضية- بأن يواصل رحلته، ولم يتوقف أبداً عن مَدِّهِ بالمجندين. إنه أقوى من الموت.
الأمر المثير للاهتمام في الحب، ومزيته، وخطره أيضاً، هو أننا يمكن أن نقول عنه أي شيء. أي شيء ونقيضَ أي شيء. أي شي وكل شيء. ولا أحد يُـحرم منه. فهو مَرِحٌ، وحزين، ورقيق، وعنيف، يَعْبُر ولا يَعْبُر. لا يتوقف أبداً عن مناقضة نفسه. يأخذ كل الأشكال الممكنة وجميع الأقنعة الأكثر تنوعاً. يضطلع بالأواصر، ويلهم الشعراء والوعاظ، ويغذي بلا توقف الشائعات والروايات، ويسحب نفسه في الوحل، ويسمو حتى فوق الأرواح العظيمة المتيمة نفسها. وهو منبع كثيرٍ من التحف، وعددٍ لا يحصى من أشكال العوز والوضاعة.
كتب سان بول إلى أتباعه الكورنثيين: «حتى وإن تحدثتُ كل لغات البشر والملائكة، فإن لم يكن لدي حب فأنا مثل نحاسٍ يُصدي وصَنْجٍ يرِن.» وخلافاً لذلك يقول سيلين: «الحب هو ذلك اللامتناهي المتاح حتى لكلاب البودل.» الحب تعذيب، وسحر، وعنف، ورقة، وإفصاح، وصمت، وسعادة، وحزن، وعمق، وخفة. بل إنه خفيف كالرماد.
لقد أحببت كثيراً ذلك التلاعب اللفظي والبهجة في موسيقى موزارت أو أوفنباخ، وفي أعمال شكسبير، وموسيه، وهاينرش هاينه، وتولي، وأوسكار وايلد، حيث تتسلل وعود الحب بشكل مسبق. صادف شاطوبريان، وهو في سن متقدمة، في إحدى الأمسيات الجميلة، راشيل التي كانت ما تزال شابة، وهي تتأهّب لتُتوّج في مسرحية بيرينيس أو في مسرحية فيدر.
قال شاطوبريان، وهو في سن السبعين:
– من المؤسف، آنستي، أن نرى شيئاً في غاية الجمال ونحن عند حواف الموت!
ردت راشيل، وهي ابنة سبعة عشر عاماً:
– لكن، سيدي النبيل، هناك رجال لا يموتون أبداً.
تلقت راشيل المذكورة آنفاً، بعد ذلك بقليل، في غرفة ملابسها بطاقة من معجب أنيق، كُتب عليها: «عندما نراكِ، نحبكِ. وعندما نحبك، أين يمكننا رؤيتك»؟ فكانت سترد عليه ببضع كلمات مختصرات على ذلك السقوط الغامض: “في منزلي، هذا المساء. وبدون مقابل”.
في أحد صالونات القرن الثامن عشر المظفر- الذي هو ربما في ملكية السيدة دي ديفّان، أو السيدة دو تونْسَان؟”، طلبت الـمُضيفة أو إحدى صديقاتها من كاردينال بيرني المستقبلي، وهو ما يزال في عز الشباب ومرغوباً لتوقُّد فكره، تعريفاً للحب. فأجاب بيرني السيدة التي يحبها سراً:
الحب هو دليلي وسيدي.
وهو الوصيف والملك أيضاً.
له عيناكِ، وله صوتي.
ولعله أكثر جرأة وإقداماً.
هوراس، وكاتولوس، ورونسار، وراسين، وبيرون، وشيلي، وكيتس، وموسيه، وبودلير، وأبولينير، هؤلاء وآخرون جميعهم شعراء الحب. شودرلو دو لاكلو، وبنجامين كونستان، وستاندال، ومانزوني، وبروست وآخرون جميعهم روائيو الحب. فلا شعر، ولا رواية، ولا أدب، ولا فن بدون حب.
ليست الشاشة، سواء أ كانت كبيرة أم صغيرة، سوى قصة حب لا تعرف الكلل، والتي سمحت لإنجريد برجمان وكاري غران في فيلم “سيء السمعة” -المكبلون في الفرنسية- لتبادل أطول قبلة في تاريخ السينما. ردّ موزارت على من توسل إليه أن يعزف قطعة موسيقية: “أخبرني أولاً أنك تحبني” فالنحت، ما هو إلا أجساد رجالٍ ونساءٍ يحدثوننا عن الحب. وخلف بعض التفاحات والعديد من مظاهر غروب الشمس، يتعلق الرسم- قبل التجريد- في المقام الأول، بعبادة المسيح في مجده أو في معاناته، ويرتبط بِـحَثِّنَا على محبة العذراء وهي محاطة بالقديسين. والأدب هو الحب، الحب مجدداً، والحب دائماً. نجد بدون شك كتباً وكتّاباً لا يبالون بالحب. لكنهم قلة قليلة. وقد شرع الشعر، والمسرح، والرواية بشكل بديهي، في الضجر من مسألة التمحور حول الحب والامتزاج به.
يمكن للمرء أن يتخيل تمثيلية موجهة لأطفال المدارس، أو مشهدا أخلاقياً بأسلوب العصور الوسطى. سيفتتح أراغون الحفلة الراقصة وسيعطي النبرة العامة:
أنا ممتلئ بصمت الحب الصاخب.
سيلج هيجو صلب الموضوع بكل سرعة:
كانت خالِعَةً نَعْلَيْها، مبعثرة الشعر
جالسة، حافية القدمين، بين السُمَّار المتمايل؛
وأنا الذي مررت من هناك، حسبت أني رأيت حورية،
فقلت لها: أ ترغبين في القدوم إلى الحقول؟
نظرت إلي بتلك النظرة المتعالية
ما الذي يبقى في الجمال عندما نهزمه،
وقلت لها: أترغبين، هذا هو الشهر الذي نحب،
أترغبين في أن نسير أسفل الأشجار العميقة؟
***
فكت حزامها
نزعت مِشَدَّها
ثم، وهي مرتبكة من تحـنُّنِـي
وهي خجولة من انفعالاتي
فكت ضفائرها الشقراء
وقالت لي: هيا إذاً!
يا إلهي، فرحٌ، ونشوةٌ، وثمالةٌ،
ولذة الجسد الرائع!
لقد غمرتُ بمداعباتي
كل هذه الكنوز الخالصة والعذبة
من أين ينبعث كل هذا القدر من اللظى.
كنوز! في المقام الإلهي
إذا كنت تفتقد أرواحنا،
فالجنة لا تستحق الحب.
ستَظهر أسطورة تريستان وإيزولت فجأة وفي الوقت المناسب، لتحذرنا من إغراءات الحب. فبمجرد ما أن يحتسيا (تريستان وإيزولت) جرعة من النبيذ، والتي ستربطهما معاً وإلى الأبد، حتى يصيح الراوي:
لا لم يكن نبيذاً، لقد كان شغفاً، وفرحاً مراً وكــرْباً بدون نهاية، وموتاً.
الحب والموت. إيروس وثاناتوس. ماذا هناك أيضاً؟ نولد ثم نموت. وبين الولادة والموت لا يوجد شيء تقريباً. نأخذ ميترو الأنفاق، نبني الإمبراطوريات، نحاول البقاء على قيد الحياة، نكتب الكوميديا الإلهية، نلقي بأنفسنا في البحر، وفي الملذات، وفي الغرور. ونمارس الحب لمقاومة الموت والتلاشي. كالفكر، والشر، والسعادة، والجمال، والعدالة، ليس للحب من معنى سوى لدى البشر ومن أجلهم. فهو تجسيد.
كان الحب على مدى ألفيتين –وهو زمن طويل، لكن قصير أيضاً- في قلب دينٍ يُنْزِل اللهَ بين البشر. لقد ذهبت المسيحية بعيداً في عبادة الحب – حب الله وحب الناس: «أحبوا بعضكم بعضاً» و«أَحِبَّ وافعل ما تشاء» و«بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم.» و«ملكوت الله بينكم». يترجم ويعكس حب البشر في دين المسيح، حب الإله. إنه اسم آخر لحب الإله.
هوامش:
*- هذا المقال هو الفصل الثامن والعشرون من كتاب “دليل الحائرين” للكاتب الفرنسي جون دورموسون:
Jean D’Ormesson, Guide des égarés, Gallimard- Héloïse D’Ormesson, Paris, 2016, pp. 100-108.
**- جون دورموسون أو جون دور كما كان يلقب أحياناً. كاتب، وصحفي، وفيلسوف فرنسي. ولد يوم 16 يونيو، عام 1925، وتوفي يوم 5 دجنبر من سنة 2017 ببلدية نوي سير سين. خلّف عشرات المؤلفات ذائعة الصيت، نذكر من بينها: الحب متعة (1956)، ومجد الإمبراطورية (1971)، ورائحة الزمن (2007)، ومذاق الزمن (2011)، والحب من يعشقنا (2012)، أقول هذه الحياة جميلة رغم كل شيء (2016)، دليل الحائرين (2016)، حَمْدٌ بدون نهاية (2018).