عرف المشهد الأدبي والنقدي المغربي العديد من الأسماء الوازنة في حقل النقد والبحث والدراسات الأدبية, ومن بينهم الكاتب والناقد الكبير والمثقف الجليل الأستاذ نجيب العوفي.
الأستاذ نجيب العوفي من مواليد 1948
حاصل على الإجازة في الأدب العربي سنة: 1970
وإجازة في الحقوق سنة 1975
وحصل على دبلوم الدراسا العليا في الأدب العربي سنة: 1985.
كاتب وباحث وأستاذ جامعي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية, جامعة محمد الخامس بالرباط
واحد من رموز النقد الأدبي في المغرب والعالم العربي.
قدم الكثير من المنجزات والخدمات للدرس الجامعي والنقد الأدبي.
أشرف على عدد كبير من الأبحاث والرسائل والأطاريح الجامعية وناقش العديد منها.
إضافة إلى مشاركاته الفاعلة في الكثير من المناسبات الثقافية داخل المغرب وخارجه.
مسار حافل بالعطاء الأدبي والنقدي والثقافي بشكل عام.
أغنى المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والدراسات النقدية:
– درجة الوعي في الكتابة, دار النشر المغربية، البيضاء، 1980.
– جدل القراءة, دار النشر المغربية، البيضاء، 1986.
– مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية: من التأسيس إلى التجنيس، المركز الثقافي العربي، البيضـاء، 1987.
– ظواهر نصية, منشورات عيون، البيضاء، 1992.
– مساءلة الحداثـة، مشورات شراع، طنجة، 1996.
– عوالم سردية,
ـ متخيل القصة والرواية بين المغرب والمشرق
ومؤلفات أخرى ما زالت قيد الطبع
بالإضافة إلى العديد من المقالات النقدية المنشورة في العديد من المنابر الإعلامية: الصحف والمجلات, الوطنية والعربية.
يمتلك الناقد المغربي نجيب العوفي نظرة واضحة عن المشهد الأدبي والنقدي العربيين, نستجلي معالمها في هذا الحوار.
أستاذي الكريم نجيب العوفي
مساء الخير
بداية أشكرك على قبول الدعوة لإجراء هذا الحوار:
ــ كثر الحديث والجدل حول الإبداع والنقد العربيين, بين مشيد ومهلل بما تحقق, ومنتقد قائل بأزمة إبداع وأزمة نقد, ما تشخيصك وتقييمك اليوم لواقع الأدب والنقد في المغرب وفي العالم العربي؟ وما رأيك في القول بأن الإبداع متفوق على النقد ؟
وما موقع الناقد المغربي في المشهد الأدبي والنقدي العربي؟
ــ الإبداع والنقد, أية علاقة وأية أزمة وأية مفاضلة؟ !
دأب الناس عادة على اعتبار النقد الأدبي, ذيلا للأدب وتكملة شارحة ومفسِّرة له.
وثمة مقولة رائجة تقول إن (الناقد أديب فاشل). وهي مقولة مغلوطة ومُغالِطة روجها بعض الأدباء “الفاشلين” ربما, بدافع التحامل على النقاد والغيرة منهم والامتعاض من آرائهم وأحكامهم التي تكون صريحة وقاسية في بعض الأحيان.. والأمر خلاف المقولة السابقة تماما التي يمكن عكسها إلى (الأديب ناقد فاشل), ذلك أن تكاليف وأعباء الناقد أثقل وأبهظ من تكاليف وأعباء الإبداع.
ولهذا يكثر المبدعون ويقلُّ الناقدون والدَّارسون, ولا نعدم في كل مرحلة وجيل ارتفاع الشكوى من غياب النقد أو نُدْرته, وذلك راجع بالضبط إلى ثِقَل وجسامة التكاليف الأدبية والعلمية التي يتحتم على الناقد تجشمها وتحملها ليصير ناقدا, بمعنى الكلمة. ثم إن الناقد أديب قبل أن يكون ناقدا. يُفترض بداهة أن يتوفر على ذائقة رفيعة, وإحساس مرهف وحصيف باللغة.
وإذا كان النقد خطابا يتشكل على خطاب ولغة واصفة وقارئة للُغة الإبداع, إلا أن له خصوصيته الإبداعية أيضا وله صَبْوته الخاصة وعشقه الحميم مع اللغة. صحيح أنه يشْتغل على نص قبْلي ويَرْتهن له, لكنه ضمن هذا الاشتغال يمارس ذاته واستقلاله ويعيد كتابة أشواقه, يعيد عشقه الخاص للغة, قراءةً وكتابة. ولهذا وجدنا كبار النقاد مبدعين في نقودهم وقراءاتهم, وأصحاب أساليب ولغات رفيعة في الكتابة.. والشواهد كثيرة على ما أقول, غربا وعربا معا. وحسبي أن أشير على سبيل التمثيل, إلى سانت بوف ورولان بارت عند الغربيين, وطه حسين ومارون عبود عند العرب..
ويقال إن ثمة أزمة في الإبداع والنقد العربيين. وكلمة الأزمة هنا لا تخيفنا أو تُعْشِي أبصارنا وتزعزع ثقتنا, فهي علامة على معاناة ومخاض. علامة على امتحان عسير لابد منه للخروج من عنق الزجاجة إلى هواء الحياة المنعش. وكلمة النقد Critique في اللغة اللاتينية قريبة من كلمة الأزمة crise. حتى قيل إن النقد هو تأزيم الأشياء ووضعها في حالة قلق وشك وأزمة.
والعالم العربي برمته يعيش أزمة حادة أو متوالية أزمات وعلى كافة المستويات.
وليس النقد الأدبي والإبداع الأدبي سوى تجلٍّ رمزي لهذه الأزمة العامة والطامَّة. واشْتدِّي أزمة تنفرجي.
ومع ذلك فأنا أرى إلى الواقع الإبداعي والنقدي العربي بعين الرضا. إن ثمة حَرَاكا إبداعيا عربيا من المحيط إلى الخليج, سواء في مجال الشعر أو القصة أو الرواية والجميل في هذا الحراك, أن تشارك فيه أصوات إبداعية نسوية لها ألقها وشدوها.
كما أن ثمة حساسية نقدية جديدة تسرق النار وتستلم المشعل من جيل الأساتذة, وتسترق السمع لنبض النصوص الجديدة.
وأظن أن للنقاد المغاربة, على اختلاف أجيالهم, حضورا حسنا في المشهد النقدي العربي, فأصواتهم واصلة إلى آذان المشرق, وحضورهم مسجل في منتديات وملتقيات المشرق.
ــ أنت ناقد كبير وأستاذ جامعي, مارست التدريس في الجامعة لمدة طويلة. ما رأيك اليوم بالجامعة المغربية. هل مازالت قادرة على إنتاج وتخريج مثقفين وأدباء ونقاد, يستطيعون أن يحملوا المشعل الثقافي والأدبي والنقدي في المغرب وفي العالم العربي بصفة عامة؟
ــ للجامعة دور لا ينكر ولا يستهان به في إنماء وإثراء الحركة الأدبية والنقدية في الوطن العربي. فمعظم النقاد والباحثين والكتاب, أساتذةٌ جامعيون أو خريجو جامعات أو طلاب جامعات. وأَشْهَدُ أنه طيلة مزاولتي التدريس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط, تفتحتْ وتبرعمت مواهب أدبية كثيرة, سواء في الشعر أو القصة أو الرواية.. أو النقد أيضا. وظهرت أسماء أضحى لها حضور في المشهد الأدبي والنقدي. وقد كان لي شرف احتضان ورعاية بعض هذه الأسماء, من خلال قراءة نتاجهم والإشراف على بحوثهم الجامعية. وأشهد أيضا, أن معظم أساتذة كليات الآداب في المغرب, هم نقاد باحثون وكتاب مبدعون. وأظن أن الأمر لا يختلف بالنسبة لمعظم الجامعات والكليات العربية. فالجامعة كانت وماتزال ورشا ومحكا معرفيا ولغويا وتربويا للأجيال الصاعدة, يثري ويصْقل الجهود العصامية لهذه الأجيال.
لكن في العقود الأخيرة, ومع عُرام الثورة الإعلامية والاتصالية الجديدة التي غزت العالم العربي في عقر دياره, بدأ دور الجامعة يتقلص ويتراجع. وحصل نوع من العزوف عن الكتاب والقراءة الورقية, من حيث اشتد الإِقبالُ على الأنترنيت والقراءة الإلكترونية. ونحن نعلم أن الكتاب خير أنيس وجليس وأَنْجَعُ وسيلة للتكوين والتهذيب لأهل الأدب ومعشر المتأدبين والمبدعين. ذلك أن قوام الإبداع الأدبي, هي اللغة. واللغة لا يُرْشَف زلالها إلا من ينابيع وعيون الكتب.
من هنا نلاحظ فتورا وضمورا في المستوى اللغوي والنحوي والبلاغي لدى طلبة الجامعات.
وأظن أن ثورة جامعية إصلاحية عميقة ومدروسة, كفيلة بتدارك الأمر ورأب الصَّدْع.
ــ ما رأيك في القول بأن النقد الأكاديمي فقد بريقه وإشعاعه في المشهد النقدي العربي في الآونة الأخيرة؟
ــ النقد الأكاديمي لم يفقد بريقه وإشعاعه, بل هو ماضٍ في طريقة يُجَدِّد أدواته وآليات اشتغاله تارة, ويُراوح مكانه وزمانه تارة أخرى.. إن المجال الحيوي والمرتع الخصب للنقد الأكاديمي هي الجامعة.
والجامعة كي تبقى حارسة لقيم العلم والمعرفة ومحافظِةً على تقاليد وطقوس البحث العلمي, لا بد من أن تبقى وفيةً للمقاربة الأكاديمية للظواهر والأشياء.
وبما أن معظم النقاد والباحثين هم أساتذة جامعيون كما أَسْلَفْتُ, فقد سرت العدوى الأكاديميةــ النظرية والمنهجية إلى كثير من المقاربات والقراءات النقدية.
حتى أُثْقِلَتْ متونها بترسانة مدججة من المفاهيم والمصطلحات والإجراءات البيانية, وتزامن هذا مع الطفرة البنيوية الغربية التي عمَّ صداها وتملَّك بريقها الساحة النقدية العربية على امتداد الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الفارط.
كان هذا المد العلمي ـ الأكاديمي في النقد الأدبي مَمْهوراً بيافطة وشعار الحداثة النقدية.
لكن سلطة هذا المد النقدي بعدئذ بدأت في التراخي والتراجع, لصالح النقد الاحترافي الذي يحاور النصوص بلا مُسُوح أكاديمية ويتوجَّه إلى القطاع العريض من الجمهور القارئ.
وعاد النقد الأكاديمي إلى مأواه ومستقره. عاد إلى أروقة الجامعة.
ــ كيف تصف لنا العلاقة بين جيل النقاد الذين حملوا المشعل في الأقطار العربية, وجيل هذا العصر من النقاد الذين وجدوا المناهج والنظريات جاهزة؟ وما المأمول في هذا الجيل الجديد على مستوى الإبداع والنقد؟
ــ ولكل مرحلة بالطبع نقدها ونقادها وآدابها وفنونها وأسئلتها وهمومها, لكل مرحلة نسقٌ معرفي وثقافي “إبستيم Epistime” خاص بها. ولا نقطع النهر مرتين.
وفي الحديث المأثور (رَبُّوا أولادكم على غير عوائدكم, فقد خلقوا لزمان غير زمانكم.).
والمَحْفل النقدي هو أكثر المحافل الثقافية عرضةً لرياح التطور والتغير, نظريا ومنهجيا ولغة واصطلاحا, مع وجود ثوابت ومعايير نقدية ونظرية لا مَعْدى عنها. هذا هو حال النقد بوجه عام, بل هو حال الحياة الدنيا.
ولن تجد لسنة الله والحياة تبديلا.
الجيل السابق من النقاد, هو جيل الريادة والتأسيس والتجديد. جيل الأساتذة الكبار الموسوعيين.. جيل طه حسين والعقاد ومارون عبود وحسين مروة ومحمود أمين العالم ولويس عوض ومحمد منذور, إلخ.. يليه جيل النقاد الطالع مع الثورة المصرية, جيل غالي شكري وعبد الرحمان أبو عوف وجابر عصفور وصبري حافظ, إلخ…
أما الجيل الجديد من النقاد, فهو الجيل الذي اعتلى المشهد النقدي العربي مع نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الجديد, مع هبوب رياح الحداثة والعولمة, لا تُبقي ولا تَذر.
الجيل الأول والمخضرم, موفور الثقافة, متين اللغة والتعبير, ثاقب الإحساس والفكر, قوي العزيمة والإرادة.
أما الجيل أو الأجيال الجديدة, فهي مشبوبة الطموح, سريعة التحول والتغير, على قلق من أمرها. جيئةً وذهاباً يميناً وشمالاً, تستعيض عن الكتاب بالأنترنيت. وتجد أمامها المستودع النظري والمنهجي والاصطلاحي بالفعل, سهل المنال ومُشْرع الأبواب.
وهذا مكسب ومطب في الآن ذاته.
لأن الأشياء التي تأتي بِيُسر, تذهب بيسر أيضا.
لكن لا نعدم ضمن الجيل الجديد من النقاد, وضمن الحساسية النقدية الجديدة, أسماء وأعمالا نقدية جيدة, هي بحق خير خلف لخير سلف.
وللحق أقول, إن الجيل الجديد من النقاد, لم يُسْفر بعد عن هويته وبصمته, ولم تَسْتَبن بعد خريطة طريقه.
والزمن كشَّاف.
ــ يقوم النقد العربي على المناهج والنظريات والمرجعيات المعرفية الغربية. هل نملك أن نؤسس لمدرسة نقدية عربية بمقومات ذاتية؟ وما أهميتها إن وجدت في المشهد الأدبي والنقدي العربي؟
ــ يمكن القول بأن النقد العربي الحديث بعامة, نشأ وترعرع وهَوَاهُ مع الغرب, مُتأثِّرا بإنجازاته النقدية والمعرفية, ومُقْتَفياً لمدارسه وتياراته النظرية والمنهجية. بل نعمم هذه الملاحظة فنقول إن الثقافة العربية الحديثة برمتها, كانت متأثرة بالثقافة الغربية وناسجة على منوالها أو طامحة إلى النسج على منوالها.
كانت “عقدة الخواجة” حسب التعبير المصري نازلة بثقلها على الساحة العربية, سياسيا واجتماعيا وثقافيا. وكأن “مطرب الحي لا يطرب” حسب التعبير العربي المأثور.
وستشهد الحقبة المعاصرة والراهنة, انطلاقا من سبعينيات القرن الماضي, ميلا مضاعفا إلى النقد الغربي, وإقبالا متزايدا على منجزاته وآثاره, وتأثرا ملموسا بنظرياته ومناهجه ومصطلحاته, بلغ أحيانا مستوى “حذو النَّعل بالنَّعل”. وهو ما تتكفل كلمةُ “التبعية” باستيفاء دلالته ومعناه. حيث لم يعد كثير من نقادنا المعاصرين والحداثيين, يهتمون باستنبات النظرية والمنهج والمصطلح من تربتهم الثقافية والأدبية, قدر اهتمامهم بملاحقة ومواكبة القاطرة النقدية الغربية, في سيرها الدائب السريع, ومحاولة امْتِطاء إحدى مقصوراتها المكيفة الأنيقة. يلاحظ هذا على نحو خاص في المغرب كما يلاحظ في الخليج. حيث تأثر النقاد المغاربة المعاصرون بمختلف التيارات والمناهج النقدية الفرنسية, كما تأثر النقاد الخليجيون بمختلف التيارات والمناهج الأنجلوساكسونية.
وعمل هؤلاء جميعا على “نقل” منجزات وثمرات النقد الغربي, إلى هذا الحدِّ أو ذاك, في القراءات التي قاموا بها للنتاج الأدبي العربي بين المحيطين.
إنه نَقْل رواية, لا نقل دراية.
هل ثمة بوادر لنظرية عربية جديدة في النقد؟ ! إننا بعيدون, وحتى إشعار آخر, من نحْت وتأسيس وتكريس نظرية عربية جديدة في النقد.
وفاقد الشيء لا يعطيه.
ــ أفرز التطور الذي عرفته مختلف الأجناس الأدبية, وعلى رأسها الشعر والقصة, ثورة على الأشكال القديمة بهدف التحرر من صرامتها. وكان مسوغ التجديد هو التعبير, لأن الأشكال القديمة ما عادت تستوعب المضامين والرؤى الجديدة. هل تعتقد أن الواقع الأدبي قابل لاستيعاب المزيد من الأشكال الجديدة؟ وما موقفك من استحداث أشكال جديدة في الشعر والقصة؟
ــ ثورة الجديد على القديم, كما ألمحت من قبل, شيء طبيعي جدا, ويدخل ضمن طبائع الأشياء.
ولولا دفاع الناس بعضهم بعضا, لفسدت الأرض.
وفي رأيي ومن منظور سوسيو ـ تاريخي, ينبغي أن لا نعزل التجارب والطفرات والصَّبوات الإبداعية المتدافعة التي تنجزها الأجيال الجديدة, عن المناخ النفسي والاجتماعي والسياسي العام الذي تفتحت ونشأت فيه هذه الأجيال. وهو مناخ ملبد وملغوم بالالتباسات والانتكاسات والإحباطات, لا يبعث على الرضا والاطمئنان, ولا يقدم لهذه الأجيال قناعات ووعودا ثابتة. بخصوص واقعها ومستقبلها. ومن ثم تنطلق هذه الأجيال من موقف جفاء تُجَاه الأجيال السابقة وتجاربها في السياسة والثقافة, مُحمِّلة إياها مسؤولية وتبعات الترديات التي ورثتها عنها… ومن الطبيعي والحالة هذه, أن يكون رد الفعل الإبداعي لدى الأجيال العربية الجديدة, جامحا وحانقا لا يخلو من مظاهر التمرد والانقلاب.. وهي مظاهر لا تؤسس في رأيي لثورة إبداعية حقيقية وجديدة.. ذلك أن الطفرات الإبداعية التي تقوم بها الأجيال الجديدة على الأشكال القديمة, تأتي على الباقية من الضوابط والمعايير والثوابت, وتشنها “غارات” إبداعية على كل التقاليد والأعراف الماضية, ناظرة خلفها في غضب, ومراهنة على إبداع مغاير ومغامر. وهذه هي نقطة ضعفها الحساسة في تقديري.
ففي الشعر على نحو خاص, وهو سيد الكلام, لا يمكن إلغاء التاريخ الشعري والذاكرة الشعرية, والانطلاق من الدرجة الصفر في الشعر…والكتابة, ولابد من مراعاة بعض الثوابت والقيم الشعرية التي يستحيل أن تقوم للشعر قائمة بدونها.
وقبل أن نثور على قاعدة إبداعية, ينبغي أن نكون واعين بهذه القاعدة, كما قال إليوت.
تصدق هذه الوَصَاة على القصة والرواية.. وعلى النقد أيضا..
وفي نهاية المطاف, لا يصح إلا الصحيح.
ــ والنشر الأدبي والنقدي الإلكتروني, ما قولك فيه؟
ــ ويسألونك عن النشر الإلكتروني والمواقع الإلكترونية؟ !
قل فيها منافع, ولكن إثمها أكثر من نفعها. أُصَارِحك, أني جئت متأخرا إلى الأنترنيت والمواقع الإلكترونية, ورأيت في ذلك عجبا ! رأيت بحرا متلاطما من العلاقات والعلامات والمعلومات والنصوص والصور والتعليقات والتسجيلات.. مما يحقق المتعة والفائدة, ويجسِّر الفجوة بين الناس, ويقدم المعلومات جاهزة وساخنة, ويتيح الحرية الكاملة لقول ما تشاء.
وهنا نقطة القوة ونقطة الضعف معا. حيث يسرقك الأنترنيت من القراءة الجادة والتحصيل الدؤوب والتأمل الفكري والنفسي الوئيد. وبالتالي, يُجهز تماما على الضوابط اللغوية والأدبية والفكرية والأخلاقية, ويُصبح الباب مفتوحا أمام كل من هبَّ ودبَّ, ليقول ما يشاء, ويَهْرِف بما يشاء.
في رأيي, لا يمكن للنشر الإلكتروني بتاتا, أن ينوب مناب النشر الورقي ويعوِّض الكتاب أو يسْحب البساط منه.
ــ كيف تنظر إلى المثقف العربي اليوم؟ تكاد الآراء تجمع على أن المثقف العربي يعيش على هامش الأحداث والهزات التي عرفها العالم العربي. ما الذي يحتاجه ليعود إلى دوره في مواكبة ما يجري في الساحتين العربية والعالمية؟
ــ وكأني بالمثقف خارج الحلبة, وهو واقع في صميم الحلبة من خلال رصده الفني للحياة اليومية للناس ونقْده وتعْريته لأعطاب المجتمع والتاريخ, واختراقه للممنوعات والتابوهات, وعزفه الدائم على وتر العدالة والحرية..
المثقف دائما هو شمَّاعة المجتمع, وحمَّال حطبه.
وما ذنب المثقف تُرى, فيما يجري من وقائع وفجائع في العالم العربي؟ !
أأنا المذنب الوحيد, لتلقي تبعات الوطن على كـتفي؟ !
المثقف العربي, كما قال الراحل نزار, ليس جندي مظلاَّت تحت الطلب, ينزل بالباراشيت في أية لحظة ليطفئ الحريق أو يشعله سيان.
إن معركته ثقافية وأدبية وفكرية وفنية في الأساس. إنه “رادار” مجتمعه وتاريخه.
وكل ميسَّرٌ لما خلق له.
ــ وأود أن أثير في سؤالي الأخير معك, موضوع الثورات العربية والأدب, هل تتوقع أن تنعكس هذه الهزات القوية على المشهد الأدبي, أي أن تحدث نهضة أدبية وفكرية مواكبة للثورات العربية؟
ــ لا يملك المرء إلا أن يقف محتارا أو شبه محتار, أمام سقوط أنظمة وقلاع عربية, بعضها كان “مناوئا” للأمبريالية الأمريكية ـ الغربية, وبعضها كان حليفا لها أو قريبا منها ومن إسرائيل كذلك.
وشخصياً, أتحفظ, كثيرا أمام هذا “الربيع” الدموي الذي يجتاح العالم العربي. فهو ربيع ليس على الطبيعة, بل تديره وتصنعه وتنفخ فيه موائد دولية جهاراً نهاراً.
ولقد تداعى العرب والعجم على الوطن العربي, تداعي الجياع على القصاع.
ونخشى أن تكون العواقب وخيمة على مصير الوطن العربي وحرمته, ومصير المواطن العربي البسيط الذي يفتح عينيه وفمه, لا يدري ما يُصْنَعُ به وله.
إن العرب, فيما يبدو, محكومون بشتاء عربي طويل, كما قال المفكر المغربي عبد الله العروي.
ومع ذلك, فإني أرى خلل الرماد وميضَ نار, كما قال الشاعر.
والولادة المأْمولة لا بد لها من مخاض صعب.
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
الحديث معك أستاذي القدير نجيب العوفي شيق, أشكرك على هذا الثراء الأدبي والفكري الذي أمتعتنا وأفدتنا به..
لك أستاذي الفاضل فائق تقديري واحترامي