وتاه القمر،واصطفّتِ الصنّاجة فوق النجوم ،
وترقرق اللهب على اللّوح الدّرّي،
فسقط الرّهام الحارق يتغشّى البراعم الزاهية ،
واكتملت اللوّحة المُدمّرة، كما أراد الرسّام الهمجيّ.
..واكتمل القمر،
واصطفّتِ النجوم على رصيف السماء،
وترقرق الضوء على أكتاف السحاب،
فسقط الرّهام يروي البراعم الزاهية،
واكتملت اللوّحة، كما أراد الرسّام.
***
أبْعدْهُم عنّي، لقد تحوّلوا إلى أفاعٍ، وها هم يسيرون نحوي
أبْعِدهم أرجوك لا …لا … آآآخ
لقد لدغتني تلك المسمومة الرقطاء،
هاتوا لي حبّة برتقال أضعها ترياقاً على ساقي لتمتصّ السمّ.
***
ما هذه الأصوات؟
نعم، إنّها الطوفان
استعدّوا هيّا واخرجوا إلى الغرب،
إلى التيه،
ستقضون غرقاً،
أو تنفقون كالكلاب الضّالة،
أنتم تحصدون الضَياع الذي مهّدته معاولكم الكافرة.
***
والأغاني الهادرة تطرب الحصان،
إنّه المزمار السادر في وَلعِه
الذابح، الذي يشقّ الندوب، ويعيدها جراحاً
بدمٍ يتدفّق مثل الزّهر المنعوف في الأعراس،
فيدَبّغ القمصان بالفرح.
والدم لا يتجمّد ما دام المزمار فوّاحاً،
مثل نافورة العطر، في الساحات.
***
هذا الليمون بلا سُكّرٍ،
كيف أشربه، وكلّ ما في الكؤوس مرارات حامضة؟
أغصّ بها كُلّما قلتُ: عطشان، عطشان!
لن أرتوي .. فهذي المياه مالحة،وأنا طيْنةٌ عطشى منذ ألف عام!
والغبار كثيف ..وقد أصير حجراً.
***
لبلادي، هذه الجنّة الربّانيّة، غنّى المُغنّي، حينما غرق في وهج عينيها الساطع ، قال لها: أنتِ قصّة قلبي، قبل أن تكون عقوبة قلبه ،لعقود طويلة وقاسية .
لقد سمعها تقول له: خُذِ النبيذ الذي يتدفّق من صدري، والزهرةَ المخضلّة من فمي، فصارت حروفها تتقطّع مع أنفاسه، وتنغرز على شفتيه وشْماً عميقاً لا يمّحي.
يا بلادي، يا بنت الشمس، وأمّ القمر، وشقيقة النجوم، ماذا كنت تفعلين في أحلامي؟ لا ليس حلماً، بل كنتُ أردّد اسمك، وأنطق بالكلمات التي تفكّرين فيها، وكان اسمك عذباً كالينبوع أو سكَّر الأعراس، وأخاف أن يعيش العالم وحيداً بدونك يا بلادي.
***
مَن الذي يقول: “حين سكت أهل الحقّ عن الباطل،
توَهّم أهلُ الباطل أنّهم على حق”؟
لماذا؟
سأخلع له لسانه من جذره،
كان عليه أن يفعل،
لا أن يقول.
***
لا سلام عليكم.
مباشرةً سأدخل إلى الموضوع،
ما هي الفكرة؟
لم يبقَ من الكلام السائد المكرور سوى المجاز الخاوي..
خذوا باطن الأرض وخذوا السماء،
واتركوا لنا جنازة لائقة.
***
لا أعرف الشهيد السابع في (قلقيلية)، لكنْ كلّ المدينة ذهبت لاستقبال جثمانه أمام بيته، ليلقي أهله نظرة الوداع عليه. كان أكثر من عشرة آلاف يملأون الساحة، وجاء من بعيد جمهورٌ هاتفٌ يحمل النعش على الأذرع المنتصبة، وفجأة رنّت الزغاريد من كل مكان، كانت آلاف النسوة أمام بيته يشاركن أُمّه زغاريدها، لقد كانت وصيّة الشهيد أن تزغرد أُمّه وأخته وعمّته وخالته وجدّته وجارته، وأن لا تذرف أيّ واحدة منهن دمعة أو تصرخ أو تندب، ولهذا أطلقن طيور الزغاريد حتّى غطّت سماء الساحة والمدينة.
زغاريد … زغاريد… زغاريد، والرجال ساهمون، تهرّ الدموع الصامتة من عيونهم، والزغاريد تظلّلهم، وتثير فيهم القشعريرة، حتّى كادوا أن يختنقوا بدموعهم الكاوية.
زغاريد… زغاريد… زغاريد.
***
ومضى صديقي الشاعر الشهيد إلى باطن الأرض، إلى هذا الدمار العظيم ،وفضاء الله المفتوح على الفناء حيث سيجد الفرس بسرجها الوضّاء، تحمله إلى هناك، حيث يُطلّ النبيّ بكلمات النخل والماء.
(سليم) البريء الجميل الفوّاح البسيط الضاحك الغلبان، نموذج للشاعر الذي استعصى على مربعات الاحتواء، وعلى الحذف والإلغاء والإضافة، فانفجرت قصيدته بين يديه. إنّه الآن حُرّ مثل مُلصقه، الذي يحرس المدينةَ، والناسُ لا تنام.
كان مطهّماً بالعذاب، وممتلئاً بالحسرات والفجائع، وظنّي أنّه العاقل الذي فاض بالجنون، وبما لا يُعقل، ولم يكن له قِبَل بكلّ الهلوسات السلميّة، فَطَرحها جانباً، ومضى إلى عين الشمس. إنّه الشهيد ابن الشهيد، وأبو الشهداء، وشقيق الشهيد، وعمّ الشهداء، وخالهم، وجارهم، وحارس حكايتهم الخرساء.
كان يوصينا بألّا نموت، لكنّه تجرّأ، وفعلها. وحتّى لا نُعاتبه ظلّ تحت الأنقاض ، يتوارى من مشاهد السقوط المُفجع لمَن حوله.
لقد صادف يوم رحيله يوم رحيل أُمّنا الشاعرة (فدوى طوقان)! ربما سيقرآن شِعراً رائقاً لسكّان القبور،ليهدأوا..
**
يزجّجون حاجبَي (رفح) وقد سَملوا عينيها، وسرّحوا جدائلها بعد أن جزّوا رأسها، وصبّوا العطر على قمصانها وهي عارية في خيام العار.
***
نخلة الغريب في الأندلس تبكي أمّها في القطاع.
***
الدنيا دون غزّة ناقصة، وبشعة، وخرقاء.
***
غزّة فرس الخرافة … بلا حصان.
***
غزّة فزّاعة الخائف، ومِقصلة الفزع، وسيف الجنرال الأجير،
وغزّة مداخلة الكارهين، وزخّة الحقد مع الرصاص،
وغزّة صلاة الكافر، وقنّاص الحوامل، ومخاض الولادة المشوّهة، وقابلة الأسكدنيا والقراصيا الحمراء، وبُشرى الأولياء، وغّزة شامة الكون.
(القرارة) مجنونة السياج، وطرحة اللوزة، وريحانة العتبات، ومعبر سجّادة النعمان، ومكنسة الجنّة…
و(حيّ الدرج) فاتحة الأطلس، وسورة البسيطة، وترويدة الرجع المذبوح.
و(حيّ الرمال) كنزة الصوف التي غزلتها أمّي قبل اغتيال الحجر.
(بني سهيلة) شرارات النار المُرابية، وصفقة الزلزال مع الخراب، وأغنية الغراب.
و(حيّ النصر) طيْب الصوفيّ، وبُردة المعتكف ، ومنبر العرفانيّ المفتوح، ومحراب البلّورة المصقولة.
***
قنينة النبيذ المخضوضة تفور بالدم الكذب، وذئب يوسف يقهقه وحيداً على إعادة المشهد الرخيص،
والسكارى يترنّحون، ولا كاسات.
***
ثمّة نهار لم تدركه المِقصلة، ينتظر حفلة الخيول.
***
في البلدة، يلازمني وحيٌ غزّيّ، وأنا في عبّ الليمون.
***
لغة في البلدة تلد لغات، تكتبها من دواة دم الفراخ،
وتغسلها بدموع الأرامل، وتنظمها عقداً على عنق المخيم.
***
دم الطريدة الدافئ يتصبّب،
والضباع تتلمّظ بقهوتها الحمراء.
***
في دجى البلد فَراش أبيض يدفّ على الجدران،
إنّه غُصْن ياسمينة الدار.
***
هل بقي متّسعٌ في المقابر؟
الجثث على بعضها، بعد أن رصفوها في مقابر جماعية، كيفما اتفق! لأنّ الأرض فاضت بالصاعدين إلى السماء!
وربما اتّصل من هاتفه المحمول لينقذوه، ولم يستطيعوا، فمات، طويلاً، تحت أسداف الحطام!
غزّة مرصّعة بالمجرّات.
***
ربما يقطف العدوّ “الصورة”، ويبدو أنّه انتصر، وهو يهشّم مشفى المدينة، الذي اقتحمه، بالصواريخ، أو يجلس على كرسيّها.
لكنّني أدعوه للعودة إلى (ألبوم) صوره ليرى نفسه، وقد خرج خائفاً، من الباب الخلفيّ، ليلاً.
***
غزّة، ستكون وردتها حمراء، وأكبر من البستان.
***
صورة طفلٌ غزّيّ يجلس وحده في العتمة، على رصيف مقصوف، ما يلخّص الأمر كلّه.
ربّما ليس لديه مرايا الآن ليرى حالته، ولكن عندما ينسحب الموتُ، وينقشع العجاج المسموم، سيرى مُلثَّماً في مراياه المُهشّمة.
***
غزّة الكارثة لا مكان آمناً فيها.
لكنّ معطف الأرض لم تخدشه الأنياب،
إنه يهجس بالجسد الفتيّ،
وينبض بالأزرار المتوهّجة.
***
عليك أن تكون البابَ وليس الطريق، حتّى لا يتعثّر بك الآخرون، أو تتعفّر ممّا عَلق بأقدامهم من زوائد ومكائد. والطريق، دائماً، خطّ، قد يبدو سويّاً واضحاً، لكنّه مُخاتل، وله مخارج غير مُدرَكة، ومكشوف، وعُرضة لحوادث تمّ الترتيب لها بإتقان.
وثمّة طرائق أكثر سلامةً، تصلح لأن تصافح قلبك، فيها، ولا يُعاقبك اللهُ بالناس.
***
تكتبُ غزّة نصّها الصوفيّ المُعجز، الذي يضيء عتمةَ العبث بالوجود والخلائق، وحفر عميقاً في أسئلة تبدو لا متناهية، حول معاني السلام والتعايش والعدالة والتسامح، وأظنّ أنّه يؤسّس لأسطورة مختلفة، لم تكتمل بعد، ويعوزها دم هائل لتتجلّى مثل وردة اللهب الوحشيّة، وعندها، ربّما سنتلعثم بكلمات جديدة، وبدموع ملأت رؤوسنا، وهي التي ستروي أغاني الحدائق والحكايات التي لن تنتهي، وستكون غزّة كلّ البلاد والأحلام.
***
المناديل، الرقصات، الحلوى، الزغاريد، الدموع، تهاليل الرجال، الّزينة الساطعة..
فَرَحٌ أم عُرْسُ شهيد؟
***
الموت وحده في غزّة لا يرى غير صورته البشعة، فهرب منها لفظاعتها، لكنّه اصطدم بحياة مفعمة بالحيويّة، أطلقت على وجهه قبضة الأمل، فَخَارت قواه، وتهالك، وها هي أصوات حشرجاته في الطرقات.
***
إنّ غزّة تؤكّد على أنّ إرهاصة ميلاد الأُمّة قد وُلدت، وتكوّنت،
وستعيدنا إلى الأَلَق الأوّل القويم والمشعّ، بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل.
***
لقد رأوا الكلاب تنهش الجثث المترامية، بعيداً عن بوابة المشفى،
وسط الاشتباكات.
ولا مَن يستطيع أن يصلها..ليدفنها،
وثمّة طفل يصرخ: لقد نقرت الطيورُ وجهَ اُمّي.
***
أكثر من ألف مجزرة، كاملة الأركان، في شهر واحد،
وعلى الهواء مباشرة!
***
سرقتني من ليلي فاشتعلتُ كقرص عبّاد الشمس، وسالت دموعي كالعسل من رقاب الخيول، حين وجدتها تغنّي وحيدة للمسافر البعيد في هدأة الليل، وقد أرختْ شَعرها حُلماً طازجاً مُريحاً، تتخلّله نسائم ما تبقى للهزيع من نجوم.
ولقد أرعبني أكثر ما أرعبني أنّ إحدى عينيها الواسعتين تدمع، والأُخرى متألقةٌ جارحة، وتبوح بصوتٍ خشن، متمنيةً أن يعود المسافر لتدقّ قلبها حجراً لبلابله، وسواراً تلبسه يوم عودته، وزهرةً تزيّن بدلته لمّا تطلّ طلعته البهية.
حاولتُ أن أقترب منها، فباعدتني نبوءةُ الخطوط في كفّيها، وبزغتْ نجمةٌ شديدة الضوء، فأصبح الليل أبلج كهامات الأطفال. تسمّرتُ في مكاني، فهبتْ ريحٌ شديدة البرودة، فأجهدني العرق، وتصبّب من كل أنحاء جسدي، وبدأ يقطر من ثيابي.. فجاءتْ طيورٌ كالنوارس، ومدّتْ مناقيرها لتروي غلّها من مياه جسدي المالحة.
أحسستُ أنّ غناءها موجّه إليّ، فانفجرتْ أساريري بعض الشيء،وما هي إلا لحظات حتى توقفتْ عن الغناء، واقتربتْ منّي بخطوات وئيدة، فتساقطت ثمارٌ صغيرة غضّة من كتفيها، وألقت بنفسها في التراب، وبدأت بالنمو.. حتى أصبحنا وسط غابةٍ داكنةٍ مُمتلئةٍ تعُجّ بالأطيار وعلى جنباتنا نهر وادع.
أحسستُ بأنفاسها تقترب من وجهي.
واقتربتُ أكثر فأكثر حتى تلاقي أنفي بأنفها، حاولتُ أن أحضنها، لكنها ألقت بنفسها في البحر، فخفق موجه وارتفع.. حتى غطى البيّارات، وأنا أرتفع مع الماء.
في الصباح أشرقت الشمس، فامتصّني شعاعها، وألقاني فوق غيمةٍ هائلةٍ سابحة..
ومنذ ذلك الصباح وأنا أسمع قصف الرّعد يقترب مني شيئاً فشيئاً.
***
يسلخون جلود الشهداء، ليرتقوا بها أجساد جنودهم المحترقة والمتغضّنة.
***
ذبح حماراً ليطعم بلحمه المئات من الناس المُشرّدين.
ما ذَنْبُ الحمار؟ إنه يحمل الجرحى، وينقل النازحين.
أجاب: لقد كان سعيداً لأنّه سينقذ الجوعى،
وأُقْسِمُ، لقد مدّ عنقه للسكّين.
***
مَن يُقصَف ويُصاب يُترَك، حتّى يوم القيامة.
***
كانوا إذا شبّت حرائق تلفح المدن الاحتلاليّة وتؤجّجها، يسارعون لإطفائها،من المحيط العربي إلى الخليج العربي..
واليوم ثمّة محرقة وَقودُها الأطفال، والنساء، والمشافي، والناس، والخبز، وسجّادة الصلاة، وقماط الرّضيع والطيور …
وما زلنا ننتظر فِرق الإنقاذ، والمعدّات الثقيلة لرفع الأنقاض،
لقد تأخّروا… حتّى لم يحضروا.
***
الغزّاويّون هم المورسكيّون الجُدد، وها هي قشتالة ترمي معاهدات السلام، وتفرض سلطة محاكم التفتيش العنصريّة الدينيّة الفاشيّة.
هل تعلمون أنّ المورسكيّين قد حملوا المفاتيح معهم، وحلموا بالعودة؟
تماماً كما حملنا وحلمنا.
***
قامت الذئبةُ وبناتها، بحمل أطفال القرية المحترقة، إلى الغابة!
وظلّت مقاعدهم في البستان دون صخب ومراجيح ..
وثمّة صراخٌ تجاوزَ الأصداء.
***
أيّها القاتل،
إنّ العدّو الأوّل الذي يجب أن تعرفه هو نفسك،
فَلا تكن عقوبةً لنفسك.
***
إنّها دولة الخوف من كلّ شيء.
***
آلاف الشهداء والجرحى،
الأجنّةُ عُراة،
والقصف المجنون يتواصل بقصد وعشوائيّة،
على الأفران، والعيادات، والنازحين،
ورائحةُ الظهيرة قاسية،
وما زلنا على فوّهة المذبحة العميقة البعيدة القديمة الجديدة.
***
أين الصليبُ الأحمر؟
لقد أخذوه إلى الجلجلة، لعلّهم يصلبون عليه المسيح، مرّةً أخرى.
وأين الهلالُ الأحمر؟
لقد سحبوه، ليدلّهم على مطالع شهور الهزيمة.
***
صدرُ الطريدة صغيرٌ، مثل عصفور الشتاء،
ويد الصيّاد صبّارةٌ شائكة.
***
انكفأ الدّاهمون الغرباء،
لكنّهم تركوا النّصلَ على عنق العصفور،
والموقدَ مشتعلاً حتّى جاء على الأشجار.
البلابل دون غصون، والقميص بلا خيوط.
***
إذا اخترت الحرّية على محمل الجدّ
ستحيا، قبل أن تهرب إلى الموت.
***
رجلٌ رثّ الهيئة،
أشعث الشَعر،
هائم على غير هدى،
عيناه حمراوان،
ويداه تشقّان الهواء بحثاً عن الملائكة،
لكنّه يتعثّر بالشياطين المدجّجة بالسلاح،
فيراوغها، فتتبعه، وتذكّره بالعذاب،
فيتوقّف، ويكون الجحيم.
***
تبدو المدينةُ وكأنّها خارج السيطرة،
وأنّ العالَم يدور حولها،
فتركته يلفّ ويدور،
وكانت جامحةً، إذ استنشقت حزمةً من الضوء النقيّ،
وكرعت جَرّةَ الغضب كاملة،
وفي ذروة دورانها سقطت على الأرض،
فانكسر ضلعها- والعالم يدور من حولها-
كانت قد استلّت الشقائق، وقت سقوطها، فنهضت،
وعادت مثل النار البريّة في الطرقات.
***
لقد أوقعته الورودُ البلاستيكيّة في الفخّ،
فَصارَ يكرهُ الزهورَ،
ويحسبُها مزيّفة.
لهذا تكرهه الحقول.
***
منذ خمس سنوات هاجرَتْ إلى الشمال،
إثر تفجّر الحرب في أرضها،
وأتقنت لغة البلد الجديد،
واستطاعت بموهبتها أن تقدّم عرضاً يومياًّ في ذلك المسرح،
الذي كان ينادي بتسلية الفكاهة،
إذ ملّوا حكايات أُناسٍ أُجبروا على أن يُخيطوا أكفانهم بأيديهم،
ويحفروا قبورهم بمعاولهم،
ويُعطوا خيولهم للغزاة،
ثمّ يتركون بيوتهم،
فلا يجدون غير النصّ، الذي هو بكاءٌ يائس.
ومنذ شهور تغيّرت عروضها،
وصاروا يطالبونها بالحكاية كاملةً، ومن أوّلها،
فالمشاهد بحاجة إلى توضيحٍ رصين.
***
كانت الشمس والقمر والنجوم لنا، وكانت أساور الأعياد لنا، والنور الفوّاح من كهرمانها لنا، وكنّا نلهج بالدّعاء للشعوب التي تختنق بظلمتها في مغاور الثلج والتوحّش والضياع، ليجعلوا، مثلنا، زهورَ أرضهم أكاليل لتيجان الملوك العادلين.
كنّا نرى كلّ شيء بوضوح: الصباحَ الجميل، والضفائرَ الطائرة، ونومَ العشب، ودغدغةَ الشلال للصخر، ولهاثَ المهرة في الربيع، وقشعريرةَ العروس على الحرير.
وأينما ولّيت وجهك، كنتَ ترى بساطاً أخضر يغطّي أبعد ما يصل إليه نظرك من مزارع وحقول، وأسراب لا تنتهي من الأشجار الممتدّة المتراصفة، كأنّها بلا نهاية، تفوح بعطورها وسِحرها الخلاّب المريح، إنّها زهرة نادرة في بلاد الله.
هي لوحة سماويّة وضعها القدر، كاملة بعناصرها الفيّاضة على أرض بلادنا، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها لجنوبها، حتّى يسأل الزائر نفسه، إذا ما مرّ بها، فيهمس لروحه متعجّباً: ما الجنّة إذا كانت هذه هي الدّنيا؟
وسعادة الجنّة تكمن في مشاركة الناس لبعضهم.
***
مع خفقان الكونِ واهتزازِ الأرض ،يظهر من سردابه،
وبكامل غموضه الواضح!
ربما هو مَن انتظرناه، وقد يكون الوَصيّ الوارث،
لكنّه سيخرج مع الأجنّة،وتفرح به الوالدات.
***
جزّ شَعره الطويل، وفرك جسده بحزمةٍ عطريّة،
ودلق عليه الكثير من الجِرار،
وحمل البندقيّة، في ذلك الفجر، ولم يودّع أهله،
وبعد يومين، ضرب الصراخُ وجهَ أُمّه وامرأته وأطفاله.
لقد صدّق الشفرة الحادّة،
ودخل مع الرجال إلى البناية، ليدوّي القصف،
وحاول أن..لكنّ الاشتباك كان خصباً وعنيفاً،
وكان ريح القذيفة أخّاذاً..
كان يعرف النهاية، وحاول أن يتفادى اليُتْم لأطفاله،
وكانت تقول له: أنا ألف رجل في امرأة، فلا تبالِ
..وكان يُبالي.
***
بالقرب من مَهد (معين بسيسو)
تتحسّس الفرسُ ضلوعَها، فتخرج أعرافُها مسكونةً بالرّعود.
***
وأنتَ على عتبات غزّة، يقول لك الشجر: ستدخل الجنّةَ مرّتين.
***
الصورة التي يتذكّرها: هواء ملوّن،
وشمعة تضوّع الملامح،
وستائر معطّرة،
وأغنيّة مرحة،
وذراعه على كتفها،
وقد تقارب رأسه من رأسها،
ويحتضنان الصغيرة التي تحاول أن تُطفئ معهما شمعةَ الميلاد،
وثمّة ما يتدحرج على جفنٍ محرور،
دقّ بقبضته جدار الزنزانة..
القضبان تبعثر الفرح.
***
كان لديه خمس شجرات، في حوش الدار:
واحدة للنار، والثانية للريح، والثالثة للماء، والرابعة للتراب،
سألته: لِمَنْ زرعتَ الخامسة؟
لكنه تجاهل،
كانت زوجته تعرف أنَّ الشجرة الخامسة للحرب،
لكنّها كانت، دائماً، تسامحه على أسراره الصغيرة.
***
الدمُ، هنا، عروق الشاعرية التي ترشق ماءها الماسيّ المنفلت الأرعن الطفل الأهوج الحالم المتوتر الموّار السكران المتحلل في ذهن النثرية الموجوعة الحارة المغموسة بالحكمة المقطـّرة.
وهو حصى المشعوذة وعظام طائرها الرميم، وما تكشفه من غيب مستور.
وهو الجنيّ الواقف يسترق السمع وراء الأبواب، ومَنْ ينظر من عين المفتاح على ألعاب الجسدين، وكيف يفيض الماء المالح أو صوت الموج، وما ظلّ من الحطب الأخضر ورهام الساحل!
والدمُ عشبة جلجامش، أو ما يُبقي التابوت فناراً، والصفة المهيوبة خالدةً فوق رفوف الذِكْر!
ولكن، ماذا يعني هذا؟ لا شيء سوى أن اللعبة تحلو، ولنا أن نستمرئَ وَهْم الكلمات!
***
لم تتبدل عربات النحاس كثيراً، ولا الخيول أو الجنود، فلقد كانوا ينزلون بسرعة خاطفة إلى الأسواق، يبعثرون الدكك الخشبية الصغيرة، والطاولات الواطئة، فتقع عنها مِزَق الخضار والباقات وحبّات البيض والفاكهة، وكانت النساء، بثياب الحقول، يرجعن باكيات دون قطع روميّة نقدية قليلة. ومنذ ستين، والجنود أنفسهم،في القدس القديمة، يهبطون بهراواتهم، فيركلون البسطات بالبساطير، ويدعسون على إضمامات البصل الأخضر والجرجير، ويتدحرج التين والبرقوق، وتعود النساء اللاطمات دون شواقل إلى البيوت المنذورة للهدم والتطـّرف.. والزوال.
***
أكثر من ثلاثمائة امرأة في السجن المجهول (معتقل النساء)، فيهن ما لم يبلغن الحلم بعد، فلم يفقع الفِطـْر أو يتبقّع القطن، كُن مفزوعات، وأصبحن صامتات. وبعضهن وضعن أحمالهن خلف القضبان، فكانوا يسحبون أفواه الحليب من الصدور، ويلقون بها إلى اللامكان أو الحفر.. وأصبحت أكثر من مئة وثمانين مرضعة يبكين أطفالهن الذين لم ينفطموا على صدورهن حتى اللحظة، وازداد الصمت حتى بلغ الانفجار… وثمة من عرّوها تماما، فذابت خجلا مثل شمعة القدّيس..
***
أُحبُ وجَهكِ، والشررُ يرتعشُ عليه كالفراشات المتوهجة! وأُحبُ عينيكِ المغنطيسيتين، وثوبكِ الذي بلون دمع البحر! لكني في عالم فَقَدَ رشدَه، ولا يمنحني جنّةً أحياها معك.. لأنّ الجنّة ليست مأدبةً عظيمةً فوق الغيوم، أو مشواراً في الليل المائي، إنها الحياة بلا احتلالٍ وجنازات وجنود.
***
عندما ابتنى ذلك النزل،في (رام الله)، أراد تأثيثه والانتقال إليه، فأضاء به وبأهله. ونصَحوه أن يعلـّق لوحةً على فراغ الجدار، فتابع بائعي الأنتيكا والأثاث المستعمل القديم الباذخ، وأعجبته لوحة الفهد القابض بأنيابه على عنق الغزال، فعلّقها وسلـّط عليها الإضاءة المناسبة، وبعد ليالٍ كان الدرج وأبواب الغرف تسمع خطوات فراء مَرِن وخفيف، وثمة مَنْ يمرق ويهفّ الهواء كأطفال العاصفة.
***
الفتاة التي تلف ليل المخيم الماطر حافيةً رثّةً شعثاء تسير على زجاج البكاء، والناس يغلقون أبوابهم المهترئة على الزنك الخايخ المتهالك، لا يعرفون لها أهلاً! لكن مسيرها يشبه صوت البكاء، فيتشاءم الرجال، وتضرب النساء كفاً بكفٍّ، ويتمنين لها الوصول.
والفتى الطازج الأشقر الذي يغطـّي النمشُ وجهَه ما زال يأتي أيام القصف، وينفخ في الدمع حتى يهلع الناس، وتخشع الطرقات الضيقة، ولا يعرفون له عائلةً!
لكن الفتاة والفتى يتيمان من المدينة القريبة، وكلاهما وُجد مصاباً بدم أهله، وَمُعَلـَّقاً على صدره حجرٌ من بيته المنسوف، وتحنو عليهما شجرةٌ شربت المناقيرُ من ماء أغصانها، فامتلأت بما يشبه النـمَش الغامق!
***
والدم هنا غيمة المشوار، وجديلة النبعة، وما تكثّف في الجرّة من عسلِ ألفِ عام. هو عِرْق الثوب ومُقرنصات القلعة، ولهب الشارب بلا ندماء، والدمُ كعكة الراقص وقفزته لاصطياد الوحش الحديدي. والدمُ بخار الجُرح، وهو الحجر الصلد والصورة الأكمل عندما تنكسر الرؤى، وهو حكاية المخدّة وغفـْلتها العميقة الحانية.
والدم جرسُ ما لم تقله أنت، وما خشيتَ من وقوعه، وما تخاف من حدوثه عمّا قريب،وكحل المتفجّر وأحزمته الشهيدة، أو كلمة القلب وجروحه المجيدة، وهو هنا وهناك، وفي كل مكان إنسانٌ.. إنسان!
***
يدهمُ الجنودُ حوش البيت الريفي، ويتدفقون، ويقتحمون الغُرف والمطبخ والحمامات والمخزن، ولا أحد!
كانت المرأة مع ابنتها الطفلة، وأكدت لهم أنه لم يأتِ إلى البيت منذ شهور، اذهبوا وابحثوا عنه.
لمعت الفكرة في ذهن الضابط؛ أحضَرَ الفتاة، ووضع باطن يديها على زهرات الأسلاك الشائكة، واحتضنها بكفيه، وراح يعصر على الأصابع الصغيرة، والأرضُ تصرخ.. تصرخ.. تصرخ، والعندمُ ينقط.. ينقط.. ينقط.
وما زال الحنّاءُ الناريُّ على الأسلاك.
***
– أَمَا سئمنا الفشل ؟
– لماذا يذهبون الى الحرب بعد أن وقّعوا على السلام ؟
– مَنْ جعل النعمةَ تتخفّى ؟
– كيف يستطيع الجَمال أن يستحوذ على الأعمى ؟
– قد يصافح أحدُ السياسيين قاتلَ أطفال شعبه ! ولكن لماذا يعانقه ؟
– من أين لسالومي قدرة الرقص مع الموت ؟
– هل الثأر والأنتقام حق لطرف واحد أم للطرفين ؟
– لماذا لا تكتفي الكلاب بالنباح، وتصر على عضّ اللحم الحيّ ؟
– متى اختلف الملح مع السكّر ؟
– كيف أعرف أنني نائم ؟
– مَنْ أمرَ النايَ ليذبحني ؟
***
لا تفتحي الشبّاك يا ابنتي، فقد وصل البحرُ إلى أعناق الغيم، وَدَعينا ندخل غرفتنا الخشبية، لعلنا إن لم ندفع النوء نقيم سفينتنا النوحيّة، ونضع كل مجسّمات المخلوقات لكي لا تفنى.
سنطيش أياماً وشهوراً، ونسيرُ إلى الجبل العالي، فهناك يقول الطيرُ: سآتي أحمل غُصن الزيتون، وَأُخْبركم برحيل الماء.
وتذكَّري! ثمة مَنْ رفضَ الدعوةَ وأحبَّ الزُرقة حتى مات!
وأنا أُحب الفتاة التي تضع المحيط لوناً على أظافرها، وتبقى مثل زهرةٍ في الأرض المدمّرة.
***
مَنْ يعقد صفقة مع الشيطان … عليه أن يتكبّد عناء الخسارات .
***
حبّة ليمونة خضراء هبطت من سقف البيت ففختت المصطبة.. وتدحرجت.. ووصلت الليمونة إلى قعر البحر، فأصبح الماء أخضر مثل نيسان.
***
وأفزعُ، فأراني في كابوس اليقظة، وقد جفّ حلقي، وأحمد الله أنني هنا في رام الله، وأن الدوريات التي تولول.. بعيدة، وأن هذا الرصاص الكثيف بعيد أيضاً!
لقد اقتحموا المدينة كالعادة! ومرّوا من تحت شبابيك المسؤولين كالعادة! وقتلوا واعتقلوا واستباحوا كالعادة!
وتعود الحياة واللغة نفسها كالعادة! ونلعن اللا شيء ..كالعادة!
.. وأشتاق إلى القدس كغير العادة.
***
الدمُ هنا هذيان، وحمّى خريف مجنون، والميداليا المحفورة بالمخرز في البلـّور. والدم ما عَلق من الندى على التاج، وما خرج على المسمار من أخمص المصلوب، وهو منسأة الملك النائم.. الضاحك على الجان، ودخانه المحشوّ في القماقم، وما تراءى في الخواتم، وما تـخثـّر في الرحم من الريق، وتمددّ في الإبريق، وهو ما اعتصرته الشغوفة من لباء صعب، وخدّرها في ذروة السقوط العالي، والدمُ فمُ سُلاف النصر، وأعراف الفـَرَس وريح الكمثرى في الطفولة، وما وصلتُ إليه، والدمُ لعابُ البراكين، وعين الأفعى، وشايُ النار في الجبل، والشنـّارُ الدارج على بساط الربيع، وشبـّابةُ القطيع، وما لم أصل إليه.. ولن أصل!
***
تكاد غُنّة الحجل أن تنقرض، فالأسلاك تشوّش شبوب الميجنا وغرغرة النرجس وانخطاف الحَبّة المأنوسة، بل صار الطير خائفاً في ملكوته، وسُلطانة قوس قزح دون عش في سماء تتقادح بالأباتشي والجنود. والوارف الخرنوبي في صهد القتاد يريدونه خائراً دون معازفه، لكن خوابيه المعتّقة فوحان أبيض، والموسم على الأبواب، رغم السفوّد والكيّ والطائرات.
***
الساحرُ الذي سكب عمله الخبيث في بئر ماء البلدة أنسى الناس حكايتهم الأثيرة، وصارت حروفُهم لغةً للعار واللعنة!
***
البرقُ الذي ضرب الناحية، ليلة البارحة، كان يافعاً وباهراً، وقد جعل الضابط ينكث بوعده، ويفشي أسرار ما رأى!
***
ترى فيما يرى النائم أنه يُنشب أصابعَه في ظهرها، ويحكّ ساقيها ، ويقرص ، وتشرب الرجلَ حتى الانكماش!
وعندما تصحو تجد آثار كل ذلك على بدنها؛ الخدوشَ والاحمرارَ واللّعابَ الذي جفّ والتصق.
كيف؟ لقد مات!
***
تتدلى من السماء مربوطاً بأخمص قدميك، وتحتكَ صحنُ جمرٍ بحجم المدينة، يتوهّج! تجفّ، تحترق، تتفحّم، تترمّد، تذروك الرياح..
إنّما تشكّل أثراً فوق الجمر.
***
ثمّة مَن ينتظر انتهاء المعركة، ليحتفل،
لكنّ رياح الظُلمة ستلفّه،
وتطفئ شموعَه السوداء.
***
المهزومون يكرهون النّصر.
***
الباعةُ الذين شهدوا بازار المُزايدات الداعية إلى تهجير الشعب من الشمال
سيبعثرهم نجمُ الجنوب.
***
الغول الكامن وراء الحدود يخشى النار، ويهرب منها.
تلك التي تحرس الأمل،
وتنير بيوتنا المدمّرة.
وها نحن نتحلّق حول جَمْرها.
***
الإحساس بالتفوّق، والبوارج، والصواريخ بكلّ أنواعها،
وخدعة الطائرة، ونفاق الصليبيّين،
وعمى (ساراماغو) الغربيّ الشامل،
وصمت الخونة، والعصابة المتخفّية،
وطيْش الضابط، وأحرف الأسفار العنصريّة،
وخَرَس النياشين والخطباء،
والعبث مع الضحيّة… أسلاكٌ عارية،
تُضيء يديك قبل أن تتركهما فَحْمَتَيْن هشّتين.
***
مدينة بلا مدينة!
لا ماء،لا هواء، لا دواء،لا ضوء،لا رجال،لا نساء،لا صغار،لا أعشاش،لا أشجار،لا شوارع،لا بيوت..
إنها بقايا في فَم التمساح.
***
الانسان في غزة هو “حالة الاستثناء” ،أي هو المخلوق “الحرام” أو “العاري”،الذي لا ينبغي له أن يحيا أو يموت، بشكل طبيعي عاديّ!.
لكنها حياة أسوأ من الهلاك، وموت لا شبيه له.
***
سيُذهل (تزفيتان تودوروف) و(منير العكش) و(ليلى العلمي) و(ديفيد غران) و(جون بيلجر)..ولن يجد أيٌ منهم كلمات تنقل مشاهد الإبادة الجماعية،غير المسبوقة،في غزة، ولن يجد (المغربيّ) ما يقوله للتاريخ،عمّا اقترفته العصابات الوحشية من لهوٍ دمويّ،تجاوز الكوابيس وانفلات سواطير الهوَس ..
***
على الجثث المرصوفة يرقص الأوغاد!
***
اللغط الهائج المسموم و”المنطق” المأجور يدعو إلى الخنوع ،
ويقدّم الراية البيضاء!
لقد تناسى أنها كفن نجس،
ولا يعرف أن بساط الريح الأسطوري لا يعرف الهبوط.
***
عندما يصرخ الجندي:”لم يتبقَ أطفال لأقتلهم”،
ماذا يسمع العالَم؟!
***
إنها أهوال يوم القيامة! فاسحبوا الذرائع،فنحن “ضعفاء” و”لا حيلة لنا” و”لا نستطيع معهم قتالاً”؟ولا بأس من تجرّع السّم، لقد شربه الفيلسوف، لحكمة بالغة..
وسيكون لكم دولة..
أين؟
في سلّة المهملات.
***
(متحف الإنسان) في بلد الأنوار؛
آلاف الجماجم المُحطّمة، خلف الزجاج المُقوّى.
إنه التباهي العنصريّ بأعلى صوره!
والاحتفال المُتقن ،للغابة الباذخة، بالتفوّق!
وحتى اللحظة لم تعد تلك الرؤوس، في موكب مهيب، إلى أرض أوطانها.
وما زالوا يقطعون الرؤوس ويرسلونها لتزيين قصورالأباطرة والرؤساء!
إنه عارُهم الباقي
وميراث العاصمة المتواصل.
***
صور الأطفال القتلى – كما لو كانوا نائمين على أرضية المشفى – هي كناية عن مستقبل حالك، ومفردات لغة الموت القادمة.
لقد خسر القاتل”صورة”الضحية التي احتكرها، وانكشف الجزّار، وبانت الخديعة.
ليسوا مميزين، وليسوا فريدين،إلا باحتراف الفناء والمؤامرة،
وليسوا الضحايا الأبديين.. لقد خانوا ذاكرتهم،وعليهم أن يغيّروا أسماءهم وهويّتهم، حتى يستطيعوا العيش في العالَم.
أما نحن فَسنلهَج بكلمات اليسوع، ونأتي بالأندلس، ونعفوعن التائبين .
***
الغرب لا يكيل بمكيالين!
لديه مكيال واحد؛ أنه الرّبّ.
***
(أهل النور) هم الذين أشاعوا الظلام في الكونغو وداخو وسويتو وروندا وفيتنام والبوسنة والفلبين وفلسطين ..
إنهم أهل النور؛ أصحاب العنف المقدّس والفظائع المباركة.
***
البطاقات البريدية للأطفال السود،والتماسيح تأكلهم أمام السيّاح!هي مَن وصلت إلى (بيت لحم) في أعياد الميلاد.
***
أحاول أن أكون لطيفاً
مثل الناس في زمن السلام الجنائزيّ،
وعلى رغم اعتقادهم أنّ الرصاص هو الذي يفوز في الحرب،
لكنّني سأستعيد اللحمَ من عَرين الأسد.
ومع كلّ هذا الكلام المعدنيّ ما زلتُ لطيفاً،
أُحسن الظنّ بالعشيرة،
وأحبّ الغناء،
وأربّت على كتف الطفل الذي يكسر النوافذ
بحجرٍ لاهٍ.
***
سنعبرُ نَهرَ النار لنبلغَ البُستان.
***
شواطئ غزة بعيدة،الآن، وثمّة شاطئٌ لم يُكتشَف بَعد.
***
عندما أصابت الرصاصةُ الأولى غزّة، أدركنا أننا وحدنا!
***
لا عجاج، ولا ولولة سيارات إسعاف،
ولا جموع تتدافع بهلع،
ولا مطمورين تحت الرّدم،
ولا عويل، وجنازات موصولة،
الشارع المُضاء، ليلاً ونهاراً، رحبٌ ومستقيم،
والمركبات عادت إلى بيوتها،
حتّى إن العصافير تنقر ما تيسّر من حُبوب، من وسط الطريق،
لقد تبيّن أنّ الحادث كان بسبب اصطدام المركبة
مع دُمية الهواء الملوّنة التي حملتها الرياح ليراها الأطفال، وتدبّ البهجة،
وتطول نظراتهم من نوافذ السيارة، التي كانت كوابحها سليمةً تماماً،
وما زالت المركبة تتدحرج، وتنقلب، وتحترق، وتطيش على غير هدى، وتتشقّف،
وربّما تصل إلى حيث تريد.
***
للبيت بابان: أماميّ وخلفيّ.
والمرأة تقف قدّام الباب الأماميّ تودّع جنازة زوجها، وتبكي،
ويحاول الجيران مواساتها بأنّ ابنها البعيد سيعود قريباً،
وتدخل المرأة، وتغلق الباب الأماميّ وراءها،
ثمّ تتّجه إلى الباب الخلفيّ، وتفتحه، فثمّة مَن يطرقه بقوّة
فيدخل رجالٌ يحملون شابّاً ممزّقاً،
فلطَمَتْ، وسمعوها تسأل بذهول: متى عاد؟
***
يبدو أنّ الأعشاب قد نبتت فوق ذاك البيت المردوم،
وحين تدقّق النظر سترى عشرات العبوات الفخاريّة والبلاستيكيّة،
قد هاجت بالورود والزهور.
فثمّة مَن رصفها بجانب بعضها،
حول الأنقاض،
فتدلّت أوراقها، وهاجت فناجينها المتوَهّجة،
وتطاولت الفروع الممرعة الخضراء،
وشكّلت هالة خلاّبة تتراءى حول المكان.
وعندما تمعن النظر بين شقوق الكتل الهائلة المتراكبة،
سترى الأفعى الجرسيّة وقد تكوّمت، بامتدادها المبرقع المخيف،
في باطن الركام،
وقد خرج ذيلها من باب شقٍّ معتم.
***
هل كان (الدادائيّون) على حقّ، فذهبوا إلى تلك اللغة المُشظّاة المُبهمة وغير السّويّة، والمركّبة على غير هدى من عناصر لا تستقيم مع بعضها؟
ولكن ما جدوى هذا العبث؟ وهل استطاع أن يمنع حرباً كونيّة ثانية؟
***
لا أحد ينتصر في الحرب سوى الموت، والخراب، والمآسي. ونحن نكره الحرب، ولا نريد أن نكون قتلى، ومشرّدين، وأشلاء تحت الأنقاض، لكنّ الاحتلال جعل حياتنا موتاً، ويباباً، وبيوت عزاء مُشرعة منذ قرن، تحت أنظار العالَم.
***
كان يصبّ كؤوسَه حتّى تفيض،
ثم يدعو شياطينَه لتغرقَ فيها،
لكنّها أتقنت العوْمَ فَنَجَت،
فتركها تخوض حتّى الثمالة.
أمّا اليوم، فيذهب إلى منتصف النوم المرتبك، فيرى مذابح المغول وسقوط حلب ومجاعة (هولودومور)..
ويتقلّب على فِراشه، فيرى مذبحة (تشاجوس) و(الجوازي)،والمجازر الفرنسية في الجزائر.. فيصحو،لكنّ مذبحة (وندد ني) تتراءى أمامه دون انقطاع..
وتأتيه امرأةٌ،كأنها أُمّه، وتنتحب بين يديه، فَيجنّ
حيث لا شيءغير الجوع والمذابح..
***
أختي الصغيرة مريم صانعة حلوى القصائد..أرهقتها أحلام راقصة،
مثل قلبي .
***
قليلون الرائعون الذين خلعوا قمصانهم على ظَهرِنا المكشوف.
وكثيرون الذين سيدخلون الجحيم مع الأوغاد القتلَة،
الذين جلبوا معهم ظلاماً أحلك من وجوههم.
***
أيّها المُسجّى على الهتافِ المشتعل بالقلوب ، والمُرصّع بأنابيب التغذية الجبرية المُحرّمة ، خوفاً من موتك الحاسم الزلزال .
أيُّها الصاعدُ على استطالةِ المآذنِ وشعلة الجُلّنار .
أيّها المتماهي بغيم الجنّةِ الُمتناسخِ من أثوابِ الساحل الشاميّ إِلى سدْرة المُنتَهى .. وصولاً إلى مدية الغاضب ورصاصة الشجاع .
أيتها الزّفةُ الرانخةُ بَعِرق الملائكةِ في صَهْد العُرْسِ المستحيل ، والأيّلُ بقرنيه البرقيّين ، يُطْلقُ شِعابَ الرّعدِ في السماء .
أيّها الفصيحُ المتلعثمُ من فرْط اتّساع عيون الغزالةِ ، التي تأخُذكَ إلى شالها المُطهم بالشّهد .
أيّها المسكونُ بالشمس لتمحوَ ظلْمةَ النهارِ ، وتجعلَ الليلَ نهارياً مثلَ ملامحكَ الواضحةِ في العتمةِ وبين الغرباء .
أيُّها الحيُّ المقتولُ الذي لا يموت ، وصورتهُ في البيوت..
إرجع ! فإنك حيٌ ، ولا يليق بك الغياب .
***
لن تسقط بلادي في يدِ الخرافة، تلك التي تريد دفنَ الحكاية
تحت الرمال، وتجعلها قصّةً مخفيّة.
***
ليل المقاوَمة قصير، لكنّ مجدها أبديّ.
***
عراة، يرتجفون من البرد، مقيّدون من الخلف، زائغون،
وحولهم الجنود النّزقون، يركلونهم بالبساطير، ويدعسون على وجوههم وتحت بطونهم، دون توقّف، ويطلقون الرصاص على أطرافهم، فيدفق الدم من كلّ الفتحات.
يئنّون أو يفقدون وَعيهم قبل أن تهرسهم المجنزرات.
***
طفل يُولد كلّ عشر دقائق ..إنه آخر يخرج إلى الجحيم!
***
لدى إسرائيل “قوّة البطش”، ولكن ليس لديها “قوّة النصر”.
إنّها تقتُل، ولا تُقاتِل.
***
رجلٌ تجاوز السبعين، يجلس على تنكة قديمة، ويطعم قطط المخيّم، والطيران الحربيّ يحوّم فوق رأسه، باستمرار.
لقد رفض النزوح من القصف إلى مكان آخر؛ ليطعم القطط، خوفا عليها من الموت.
لكن الطائرات لم تُبقِ للحكاية أثراً..
***
لقد وجد الفلسطينيّ نفسَه بين شفرتين ذابحتين؛إما أن يُقاتل فيدفع أثمانا لا تُطاق، أو يستسلم فتضيع حقوقه ويصير عبداً! ذلك أن التراجيديا لها يدان قاتلتان.
***
عاشقان على مقعد في (رفح): الليل نهاريّ،
الباعةُ المتجولون غضّوا الطرف،
لكنّ التوت البريّ المتساقط منهما دلّ على الحريق.
***
الطفلة الباكية هي ذاتها الساحرةُ الشرّيرة.
خدعت العالَم، لكنّ قُبْحها الناتئ هشّمَ المرايا.
***
في الشجاعيّة لا بُدّ للبدرِ من خِمارٍ حتّى يراه الناس.
***
في مراكز الإيواء أصبح الحلمُ لعبتَهم الوحيدة.
***
الحجارة في غزّة لا تَفنى ولا تُستحدث،
لكنّها تتبدّل من أغنيّة إلى أسطورة.
***
لا يمكنك التحدّث عن سيادة القانون إلّا إذا كنت تقصد قانون الغاب.
***
تبكي، وتحتضن حذاءه المغمس بدمه، ويجثم حولها سكون ثقيل.
لماذا لم يقل لي يوما “أحبّك”، قبل أن تلتهمه الغارة؟
وربما تسمعه الآن، وهو يغمغم:
منذُ لمحتكِ، قلتُ ستُحضرين الحُبَّ إلى هذا الكون.
كنتِ شَفَقاً ألبيّاً من ألوان الطَّيفِ، تشرقين، وتعلنين عن جوهرِ الضوء.
فقلتُ لنفسي: سأصبح من حُرّاسِ جَنّةِ العاشقين.
وكان قلبي يرتعد مثل موج العاصفة،
إذ كيف سأصل إلى هذا القوام النبيذيّ الخفيف اللامع؟
كان نـَفـَسُك حولي مثلَ الندى! وأصابعك تخدّرني!
كان حُبّك أشبه بحلم، وهذا ما كان يفوتني، والآن لديّ ما أشتاق إليه.
حُبُّك ما أوقد القلب، ومنح عقلي السلام.
وحُبُّك ما أُواجه به الهزيمة.. التي تولِّد الهشاشة والحساسية والكراهية والخبل الانحلالي والنسيان، لأظلّ عامود معبدك الذي يحمل قبّتك الذهبية المُذهلة، ويذكر الوصايا.
لقد وجدتُ الجَمالَ، حيث لن يجدهُ غيري،
وسأقطف هذه الوردةَ التي تفوح بعطرها، ببراءة،
وأظنّ أنّ أعظم انتصاراتي كانت مخفيّة في ذلك اللقاء،
الذي سيلبّي رغبات قلبي،
– سألعب معها، ونصير مثل ظبيَين رشيقين-
سألثم بتلات الزّهرة الحريرية، والقُبّةَ الثّمِلة، وأشعل الشمعة،
لكنّي لم أكن أعلم أنّ الحرب ستأخذني قبل أن أقول،
وستبقين دون انتظار.
***
في هذه الدنيا الغابة؛ إما أن تكون طُعماً أو سمكة قِرش.
***
يحضن آلة العود، فيغطّي القصعةَ حتّى لا تكاد تظهر،
ويمسك بيمينه زند العود،
ويحمل باليسرى الريشة،
وتراه يضرب بالريشة،
ويضغط على نهايات الزند.
ويتمايل برأسه، كأنّه مأخوذ بما يعزفه،
ويترنّم مُغْمِضاً عينيه،
سارحاً في أنغامه المنسابة بين أصابعه،
شارداً مع كلّ خفقة يضربها بالريشة،
وهكذا يظلّ على حاله، طيلة الليل، يدوزنُ وينغِّم.
وعندما ينتهي، ويضع آلة العود مكانها على الأريكة، تلحظ
أنّ العود بلا أوتار.
***
عيوننا لا تكترث بما ترى، لأنّها رأت غزّة،
وستراها، ثانيةً.
***
منذ عقود، وشرارة النار في قلب الفلسطينيّ.
وقد خرج اليوم محمولاً على كلمات أُغنياته التي جنّحت،
ووصلت إلى آخر الأصقاع،
بعد أنْ قبع وراء البرق الأسود في زنازين الحصار،
ولم ينصت لقلبه أحدٌ.
فماذا عسانا نقول لأُمّه، التي ربطت نَوْمَها بأحلامه المقتولة،
ولم تُحقّق العناق الساحر بين الفؤاد ونبضه؟
لقد كان بين قلبها وعمودها الفقريّ، فأطلقته للبلاد، رسائلَ نارٍ،
مثل حمامة السماء المتوهّجة،
وكانت الأجراس ترنّ بين ضلوعه،
إذ إنّ مَن يحبّ بلادَه يرى الله.
***
حياة قائمة على الأكاذيب.
وكلّ كذبة وَسْمٌ ناريّ يترك ندبتَه، ولا يمّحي.
والحياةُ تقيم حفلَتها التنكّريّة، كلّ ليلة، ولا يعرفها أحد.
ثمّة مهرجٌ ينفث اللهب،
وآخر يمشي على سيقان فولاذيّة لا تنتهي،
وثالث يعبّ الشراب حتّى العمى،
وهناك مَن لا يرتدي قناعاً، لأنّ وجهه دون ملامح.
ربّما دهنتُ وجهي بالمساحيق، وشربتُ قليلاً لأبتهجَ،
فقط لأنسى أنّني في هذه الحفلة الفاجرة.
***
الأعداء يرون بعضهم جيّداً،
أكثر ممّا يفعل الأصدقاء.
***
عندما تقرأ حروف كلمة (غزّة)،
فأنتَ تحدّق في جرحٍ مفتوحٍ يتفجّر..
***
لغزّة ؛ أم الرايات والأسوار والنايات والشجر والشرفات وأكاليل الدم الحرّ، وسيِّدة الأغاني والهتاف العنيف في وجه الغزاة، ووالدة الأقواس والزفّات الساخنة والعيون النافذة وشبابيك الصلاة ، الثائرة الحائرة، المجبورة المكسورة، الهادرة النادرة، الجديرة بالشهداء وأمّهات المواقد والسكّرالمحترق على الطرقات، لهذه البلدة القاصمة، الصابرة المثابرة، المغدورة .. ولهذه البيوت والطرقات والحجارة الأقمار.. أن تطوي ثنيات قلبها على الشهداء ، وتمجّ هواءها مثل زهرة الجمر، وتنفثه نيازك تتناثر في سماء أم القرى الأنيقة الشقراء، العروس التي لم تجد لها ندّاً من الرجال سوى أولادها، الذين يحملونها على أكتفاهم جدائل عاصفة، وأعراف أسطورة فذّة، فوق صدورهم العارية، في مسيرتهم الحاسمة نحو الخلاص.
استشهد ابنها المناضل الجسور في زنازين المجرمين، واستشهد الثاني والثالث والرابع، في هذه المواجهة ، ليعلم القاصي والداني أن أهل فلسطين : إما في السجون ،وإما في الرباط ،وإما في الاعتصام ،وإما في المقابر ،أو على الحواجز، أو في المنافي المخيفة..
ولغزّة أن تجد نبعاً جديداً في جسدها يمدّها بما يليق من ماء يصلح للبكاء، وَلَهاً على لحظة واجبة الوجود، أن يكون فيها الأبناء في حضرة أُمّهم المذهولة على أولادها الذاهببن إلى الأبدية الغائمة.
اليوم، تنخلع زيتونة من مصاطب الصخور والحواكير المُمرعة.
واليوم سنملأ صحن الدمع،
ونرنّق وشاح الشمس والتراب ،على خيبة تدوّي فينا،
لأننا تركنا فرساننا يسّاقطون في العتمة وحدهم.
ولأُمّ الشهيد أن تقبل قُبْلتي على اليد التي مسحت رأس الراحل الباقي،مثلما مسّدت حجارة البلدة وحبّات زيتونها، وربّت الأبواب، وعانقت الأعمدة والشواهد، وتناسخت غيماً في كل دار.
وكل شهيد في البلاد ؛ اسم آخر يليق بالحرّية والأرض، وحلم ينبغي أن تراه العيون، لينجلي المشهد كاملاً بكل دمه وزغاريده ومناديله الرّاعفة.
***