يتقدمُ ببطء.. يتنهّدُ.. لعلّه يخفف من وطأة الضّيق التي تساوره، لكنّه كلّما نظر إلى الأمام، شعر بضيقه يزداد، ربّما كان عليه أن يسلك الطّريق الآخر..
سأل زوجته في الصّباح: ما رأيك عبر قلنديا أم حزما؟
أشارت الى أنّ أزمة السّير في قلنديا اليوم، وفي هذه الساعة قد تكون أقلّ.. ليوفّر الطّواف حول المنطقة عبر معبر حزما. خرج مبكّرًا، يودّ أن يشرب فنجان قهوة هناك، ويُهيّئ نفسيّته جيّدًا قبل أن يبدأ يوم عمله هذا.. صحيح أنّ عشرة أعوام من العمل يجدر بها أن تكون كفيلة بمرور هذا اليوم بهدوء.. لكنّه يعرف مكامن نفسه أكثر من أيّ شخص.. ويدرك أنّ الموقف القادم صعبٌ عليه.
يتنهّدُ، تخرج غيمة من فمه.. يتابعها الى أن تتناثر وتصطدم عيناه في الجهة اليُمنى برماديّة الجدار.. فيشعرُ بثقل قدمي ذاك الشّيء الضّاغط على صدره يزداد.
يرفعُ نظره الى أعلى… ينظر الى أحد الثّقوب وتتدرجُ نظراته لتمرّ على العيون المفقوءة في رأس الجدار، يتنهّد مرّة أخرى.. يتساءل هل ابتُدعت أزمة السّير هنا لأجل ابتداع تحيّة الصّباح هذه؟
كلما تذمّر من الأزمة أمام زوجته أو أحد أصدقائه المقرّبين، سألوه: ألم تعتدها بعد؟
كلّا لم يعتدها.. ولن يعتادها.. كيف يعتادُ أن تتحوّل عشر دقائق من المشي إلى نصف ساعة من القيادة المقيتة للمركبة، والّتي قد تمتد وتطول حسب أهواء الجنود؟ كيف يعتاد تحول السّفر إلى العمل، لرحلة من العذاب.. ولقاء الأصدقاء والأقارب الى مشقّة كبرى؟ كيف يعتاد أن تصير قرى ومدن كانت قريبة جدًا.. بعيدة؟
يسأل نفسه فجأة لماذا عليه أن يبدأ يومه بمثل هذه الذّكريات والأسئلة؟ هل بات سلبيّا فعلا، ويرفض العيش بواقعيّة كما يقولون له أحيانا؟
يتّجه نظره الى برج المراقبة المقابل التّابع للحاجز.. ويتساءل هل هو رومنسيّ زيادة عن الّلزوم؟ وإن اعتاد الوجع فهل سيستمرّ بالبّحث عن دواء وتغيير، أم سيحتمل ويصمت؟
ما زال يحتاج بضع دقائق حتى يصل الدّوار الذي يُفضي إلى الحاجز، لن يحتسي فنجان القهوة إذن، بالكاد سيتمكّن من الوصول في الموعد إلى العمل.. يجب أن يهيّئ نفسه الآن.. أن يعيد الكلمات التي أعدّها مساء أمس في ذهنه.. لئلّا تبعثه “رومنسيّته” في عواقب لا تُحمد عُقباها.. ويظهر ضعفه.
يشردُ ذهنه.. وعيناه تغيبُ مجدّدًا في تلك العيون الفارغة، التي يتمنّى أحيانًا احضار سلّمٍ لتسلّقها والنّظر عبرها إلى الجهة المقابلة للحيّ.. فجأة ينتبه لبعض عصافير الدّوري تتقافز بين الأسلاك الشوكيّة، الّلولبيّة، المنبعثة في رأس الجدار.. يقترب من الزّجاج أكثر.. ينظر مشدوهًا.. ماذا تفعل العصافير هنا؟
هل اختلط عليها الأمر؟ هل ظنّت الأسلاك أشجارًا؟
يمعنُ النّظر أكثر.. إنّها تقف بين الأسلاك.. ألا تخز الأسلاكُ أقدامها؟ هل هي قادرة هذه العصافير على الغناء؟
يفتح نافذة المركبة محاولا الإصغاء.. وإذ بهبّة نسيم باردة تصفع وجهه، وصوتٌ مرتفع لزامور مركبة خلفه يوقظه من شروده.. ينظر أمامه فيرى الدّرب فارغة صوب الدّوّار.. يستغربُ كيف حدث هذا دون أن ينتبه.. ينطلق مسرعًا وهو لا يزال متعلّقًا بتلك العصافير بين الأسلاك.. من أين تجمعُ غذاءها؟ كيف لم ينتبه إليها سابقًا؟
يقترب من مسرب الحاجز، تظهر الكاميرات في كلّ مكان.. الجنود منشغلون في فحص السّيّارات التي تودّ دخول القدس، لهذا لا أحد منهم يتحرّش بطريقه في العبور صوب الرّام أو رام الله.. يمرّ ببطء قرب الغرف الصّغيرة، الّتي تحضن الجنود العابثين بأحلام الرّاغبين بالوصول إلى القدس.. ويتقدّم في طريق قصير محاط بالأسلاك على الجانبين.. يظهر عبرها امتداد الجدار في الجهة اليُسرى.
يغيب في هذا الصّباح وجه امرأة خمسينيّة عادة ما تقف هنا قرب المدخل، تحمل صورة شاب بكفّ وتفتح كفّها الآخر للرّيح.. يتساءل فجأة هل المرأة التي يراها واقفة هناك في العادة هي ذاتها أم تتغيّر كلّ فترة؟
ينعطف يمينًا ليطلّ على موقف سيارات كبير قرب غرف الحاجز المعدّة جيّدًا؛ لتفتيش كلّ من يرغب بالعبور إلى القدس مشيًا أو بوسائل النّقل العامّة، كيف تغيبُ فجأة تقاسيم وجه تلك المرأة عنه..؟ وهو الّذي كان يظنُ أنّه يتذكّرها جيّدًا. مقطعٌ من الجدار الفاصل يمتدّ في الجهة اليسرى لإطلالة الطّريق الى رام الله.. بقايا حجارة تظهر في الطّريق.. ينظر حوله ينتبه أنّ بائع الوسائد غائبٌ عن وقفته في وسط المسارين.. والشّاب الّذي يبيع المخلّلات.. في الجهة اليُمنى على الرّصيف غائبٌ كذلك.. يحاول أن يتذكر ملامحهما.
لكنّه يفشل بتذكر وجهيهما أيضًا.. هناك وجه واحد يلحّ عليه الآن.. ويظهر واضحًا، يوتره ويزيد من خفقات قلبه كلّما اقترب من الرّام.
يمرّ قرب الجدار الفاصل من جهته الأخرى، المقابلة لتلك التي مرّ قربها في الحضور.. يحاول أن يخفّف السّرعة لئلا تنهك المطبّات في الطّريق مركبته، وينظر إلى أعلى صوب الأسلاك باحثًا عن العصافير.. فلا يراها.. يتساءلُ فجأة هل رأى العصافير حقّـًا؟ أم هُيِّئ له ذلك؟
يركنُ سيّارته مقابل المدرسة، يدخل، يحاول ألا تلتقي عيناه وعيون الآخرين، يصعدُ الأدراج قفزًا.. ثلاث دقائق وتبدأ الحصّة، اليوم بالذات يجب أن يكون هناك قبل أن يُقرع الجرس.
يقف عند مدخل الصّف.. ينظر إليهم ها هم يدخلون واحدًا تلو الآخر، والمقاعدُ تمتلئ تدريجيًا.. مع اقتراب موعد الجرس.. يحاول أن يغضّ بصره.. فها هي الّلحظة الّتي يخشاها تقترب.. يُقرع الجرس.. ينتظر لحظة أخرى ويدخل.. يتّخذ مقعده مقابل طلّابه.. ويحدّقُ في وجه الغياب الجديد.. إنّه في أقرب مقعد إليه.. يبادله النّظرات صامتًا.. يبحثُ عن ملامح وجهه، يتذكّرها واضحة.. يشعر بالشّرخ في صدره يكبر.. ها هو الآن يفيض أكثر من أيّ وقت مذ سمع النّبأ.. يخفض عينيه صوب طاولته حالا.. يحاول حقن دموعه، يشعر بكلّ العيون المنصبّة عليه.. بكلّ الآذان التي ترهف السّمع، لأيّ كلمة يقولها ويكسر ثقل هذا الصّمت..
لكنّه يشعر بوهن شديد، تغيب كلّ الكلمات التي أعدّها لهذا الموقف عن ذاكرته، لا يسمع سوى صوته حين قال قبل أيام: أنا يا أستاذ بحلم أصير طيّار.
سأله بفضول: لماذا؟
ـ حتّى لمّا أطير بالطّيّارة يصير الجدار صغير كثير وأبطّل أشوفه.. ولما أبعد بالسّما أشوف فلسطين كلّها مع بعضها بدونه، زي ما بترسم لنا إيّاها على الّلوح.
ينتبه إلى دموعه تبدأ بمطرها صوب الطّاولة.. ها هي تخذله.. ويفشل مرّة أخرى في السّيطرة على نفسه.. يقفز مسارعًا من مقعده هاربًا من العيون المتجهة إليه، صوب النّافذة.. يُشرّعها، فتدخل النّسائم الباردة..
“رصاصة طائشة، ثم ما الّذي كان يفعله على المعبر في ذلك الوقت؟ لا بدّ أنّه أراد مساعدة بقيّة المشاغبين في إلقاء الحجارة..” هذا ما قالوه له ولعائلة الفتى..
يتمعّن مرّة أخرى بالجدار.. ها هو يراها مرّة أخرى.. يطلب من الطلّاب القدوم الى النّافذة، دون أن ينظر صوبهم.. وحين يحيطونه يهمس: انظروا إلى عصافير الدّوري هناك.. رغم صغرها.. ها هي ترانا من هنا وهناك دون جدار.. وتخادع أشواك الأسلاك حولها.. لا تترك له فرصة لأذيتها.. اصغوا.. إنّها رغم كل شيء ما زالت تغرد..
أردف بعد لحظة بصوت مختنق:
ـ لأجله.. أريدكم مثلها.