في هذا الليل البهيم، والبرودة تنخر العظام،
يقف رجل أمام بيته المبعثر،
يحمل شبكة صيد، ويلقيها على الأسفلت المحفّر،
كأنّ الشارع نَهر جارٍ أو جدول رقراق.
كدتُ أن أسأله، أو أنبّهه،
لكنّه لمحني أبحلق بما يفعله، فابتسم،
ثمّ دعاني على عشاءٍ في بيته،
فثّمّة سمكٌ وفير.
***
ينفتح بابُ دارٍ، فجأةً، بعنفٍ، وتخرج امرأةٌ مغبرّة، زائغة، شبه عارية،
والدم يتهاطل من وجهها،
وخلفها رجلٌ ينزف دون ذراع،
ويبدو أنّها قد وجدتني لأحمله إلى المشفى،
فما كان من الرجل إلّا وشدّني بيده الأخرى من ياقتي، وهزّني،
وهو يصيح: أنتَ، لماذا لم تُصَب؟
والمرأةُ تقسم له: إنّه جارنا، وعاد لتوّه من المقبرة.
***
أكاد أرى (بوسنة) أخرى، بمئات آلاف الضحايا.
ونظام الغرب الهمجيّ يتفرّج بشماتة ودون اكتراث،
بل ويغسل يدي الجزّار من دم الأطفال،
ويسانده بالفولاذ،
لأنّه خندقه المشقوق في أحشائنا،
وأظفاره المسلّحة التي تحمى آبار السعير،
والهيمنة، والاستلاب، والمُغايرة، وأنظمة التنكيل، والعولمة.
ثمّ يقولون: من أين تأتي الكراهية؟
ألستم مَن خلق المناخ المواتي لها، وتمّت بسكاكينكم الفاجرة؟
انتظروا انقلاب الملح، وتداعيات الكبريت
الذي سيحرق أعشابكم السّامّة.
***
وأعطتهم الاتفاقياّتُ، والمحاضرُ، والتنسيق، والتفاهماتُ
القبّةَ الذهبيةَ، والاستباحةَ المدوّية، والعربدةَ الناريّة.
وأعطتنا الصمتَ المريب، والقتلى، والحرائق، والفجائع.
وثمّة مَن لم يأخذ غير الإبادة،
إنّه الدواء الفاسد الذي خلّصنا من الموت،
لكنّهم أعادوا حقْننا بذات الدواء،
الذي خلّصنا من الحياة.
وتبقى الكلمة الوحيدة المُناسبة (التطهير العرقيّ).
هذا ما جنيناه: الوَهْم الكاذب.
لكنّي سأظلّ مع القلائل،
الذين يحفظون الأغنيّة،
ويُعلّقون الخنجر الأرضيّ في رقابهم.
***
بابُنا الصغير مُضاء بالمذبحة!
وأنا المجزرة المكرورة.
أنا الذي ينتظر قناديله من شفة الجُرح الكاوية.
ظمآن مثل فَرَس تَضْبَح في العراء،
والثلج الأحمر تيبّس على سفح صبيّةٍ
كلما اقتربتُ منها توالدت النارُ في البحر،
وتدفّق السّعير على بقايا البيوت.
***
دعوني أعود إلى الوراء قليلاً، قليلاً فقط.
هي ألفٌ أو ثلاثة آلاف سنة تقريباً،
عندما جاءت المخلوقات آكلة لحوم البشر،
وهشّمت القرية القريبة من بلدتنا،
عندها وضعتني أمّي في الكهف،
وردّت عليّ بوّابتها بحجارة كبيرة.
طبعاً لا أعرف كيف كبرتُ في الكهف،
ولا أدري مَنْ الذي أخرجني،
ومتى وقعت تلك الحادثة بالضبط،
لكنّي أذكر أنّني وجدتُ نفقاً آخرَ الكهف يصل إلى تلك القرية،
فكنتُ أوّل شاهدٍ على الجريمة.
الجريمة التي تكرّرت ألف مرّةٍ خلال السنوات القليلة الماضية،
من قِبل المخلوقات والفؤوس والسواطير ذاتها والحوافر ذاتها.
صحيحٌ أنّني، وقتها، كنت أحبو،
لكنّني اليوم أتمتّع بأكثر من ألفٍ وخمسمئة سنةٍ من عمري،
ولم يتبقَّ أمامي غير أن أصنع سفينة، مثل نوح،
لأنّ كلّ الدم الذي انسفح سيجتمع،
ويكون هناك طوفانٌ عظيم.
***
هيكل المقعد الخشبيّ في الحديقة المحترقة،
لم يجلس عليه أحد، منذ الحرب،
غير أنّ الطيور تحطّ على حافّته أحياناً،
والقطط الهزيلة تغفو تحته،
والزخّاتُ تغسله تماماً،
وبإمكانه أن يحدِّث اللبلابة الذاوية القريبة منه،
فكيف اختبأت الأفعى بين أوراق الجهنميّة،
وحارس الأنفاق لم ينتبه إلى وجودها المخيف،
مع أنّه الوحيد، ربّما، الذي رآها وهي تصرط أفراخ عشّ البلابل؟
حيث كانت الفراخ وحدها، بين الغصون المشلوخة،
وفجأة!
انتعفَ المقعدُ والأفعى.
***
المقاتل اسم يفوق الاستحقاق،
والمحارب الحقيقي لا ينصت إلا لقلبِ أرضه.
***
يداه ملطّختان بالدم، ولا يمكن غسلهما إلا بالدم.
***
الوجه الخائف لا يضحك
***
أفعال أمريكا كلُّها خاطئة.
تنطق،أحياناً ،كملاك..وتفعل،دائماً،كشيطان.
***
مِن شمس غزة يتطاول ظِلّي
ومِن شعاعِها أفهم العتمة
***
المقاتل أسدٌ جائع وَجَد فريستَه الخانعة
***
لقد رأيته، لقد رأيته!
لقد ألقى الجموع إلى بيت النار،
وظلّوا يتضوّرون قهراً..
لقد كانوا أسراباً تملأ الأفق،
من المذبحة، إلى الخيمة، إلى المجزرة،
ضعفاء، مساكين، ثكالى، عطاشى،
بين الركام العظيم، بلا طريق،
لا حول لهم ولا قوّة، عاجزون، مشرّدون،
لكنّهم هتفوا:
عاش الوميض الذي سيرفعنا إلى السارية.
***
كان ينبغي لها أن تكون زوجتي،
نتقاسم النزيف والرغيف،
لكنّها لم تصدّق أنّ الرجال يحبّون امرأةً واحدةً،
ويعشقون عدداً لانهائيّاً من النساء بصدقٍ وشغفٍ ولهفة.
كانت تريدني أن أتزوّجها، وأُحبّها، ولا أعشق سواها،
ولأنّني كنتُ ساذجاً وصريحاً لم أكذب؛ فافترقنا.
والتقينا بعد سنوات، في مركز الإيواء، فعاتبتني وقالت:
كان عليك أن تكذب.
***
قال: “وكأنّ الهُدنةَ جسرٌ تسير فيه نحو ضفّة الموت الأخرى،
تنتظر مصيرك لينالك ما نال الآخرين.
تستمرّ في معاناتك، بينما ينعتك الآخرون بالصامد القويّ،
فيرون بذلك أسطورة،
فترتاح ضمائرهم،
وتصدّق أنت تلك الخدعة،
فتخجل أن تقول تعبت.”
***
حتّى الشمس ستحمل مظلّةً لتتّقي نارَ ضوئنا.
***
ينتشر الغطيط المتقطّع،
والعتمة في الردهات،
ويستبدّ الليل بوساوسه الغامضة،
فيهبط على أطراف أصابعه،
إلى أن يصل إلى مدخل المدرسة الوسيع (مركز الإيواء).
وتكون البوّابة مغلقةً بصرامة،
فيطلق بوقَ الأغنية من أحشائه، ويرقص،
يرقص وحيداً، كأنّه المُغنّي، والعازفون، والكورال، والمتفرّجون.
وعندما صرخ النازحون بالتحذير
باغتهم بأنّه عاد من خيباته التي تلبّدت،
وقال: لا بدّ من أن أشعل ضوء الدَرَج بِـ…
وما كاد يكمل كلماته حتّى ذاب كحفنة ملح حمراء،
من فَرْط دَم النار الذي غمره.
***
أَطلَقوا الصواريخَ مرّة واثنتين وثلاثاً
والجَمرة على حالها ريّانة متوهجة،
وقصفوها بكلّ الأشكال، ومن جميع الزوايا،
واستنفدوا الحمولةَ جميعها،
والجمرة على حالها مُزهرة يانعة.
هرسوها، ودعكوها، واستهدفوها، وبعثروا فروتها،
وقاموا، وقعدوا، ولفّوا، وأقْعَوا، واستلقَوا، وقبضوا، وانبسطوا، وشدّوا، ومدّوا
إلى أن ارتخَوا،
والجمرة تضيء فوّاحة متألّقة.
رفعوا الراية البيضاء،
ولفرط إرهاقهم، سقطوا، فالتهمتهم الجمرة،
وما زالت الطبول تضرب عمق المكان،
وتنادي …
***
قبل أن ينضج التين هذا العام، سيكون القائمقام قد باع آخر ما تحمل الشجرة،
وسنسكتُ، كالعادة، ويمرّ القتلة من تحت النوافذ .. مبتهجين !
***
الأخطاءُ صوابُ الدنيا.
***
وأنت تنفخ في المواقد، لينصهر الحديد، تتذكّر تلك الليلة.. والأصفاد تخمش اللحم.
***
جروحه غائرة، والسحجات عميقة، وقد ذبل الجسدُ، وما زال الضبعُ حصيناً وراء أسواره! والعزاء أنّه وحده دون امرأة.
***
كان يخرج من الصخر بحراشفه ونتوءاته وأسنانه المنشارية، وينفث اللهيب في الوجوه، فتحترق، إلاّ من وضع القناع، أو اختبأ!
***
عندما أطعمَتْه قلبَ الهامة، لم تعرف أن حواسه ستخترق الحُجب؛ أي سيرى الملائكةَ وما خلف الجدران، وسيشم السديمَ والشفقَ من جهة الأرض الأخرى، وسيسمع الشهوةَ وصعودَ الماء في اللّحاء، وسيحس بالأوهام التي في الرؤوس والظلام الذي يحلّ في الكوكب البعيد، وسيعرف مذاقَ الأشياء على بعد ألف فرسخ من مكانه.
لقد خسر المُفاجأة !
***
أحس أن الأرملة الشابة التي تذرع مخيم النازحين، وألتقيها في الطريق هناك، تكره الناس وتكره الجنود وتكره أبناءها الصغار،رغم أنها لم تلد بعد، ولا تدري ماذا تفعل!
***
ماذا يتمتم هذا الفلاّح الضاغط على المحراث، والبغلة تشقّ التراب خلفها؟!
منذ ستين عاماً وسكّة المحراث تفترع بجبرياء الحجارةَ والهيشَ وما بطن من الجذور، فتقلب الأرضَ لتبدو طبقاً من قهوة مخثّرة مفرودة ومحززّة، يوشّمها الحصى المتناثر، ولم يعلق سنانُ المحراث بصندوقٍ أو بجرّةٍ أو بتمثال!
لقد حرثَ كل أراضي البلدة والقرى المجاورة، ولم يعثر على شيء مما يقولون! وكبر الرجل، وماتت البغلة، فراح يحفر لدفنها، وما إن وصل إلى تجليف اللّحد ليحوي جثّة البغلة النافقة، حتى ظهر الصندوق المدفون.
لكنه أبقى الصندوق مكانه، ودفن البغلة بجانبه، وأهال عليهما التراب.
***
كأنها ترتعش! وهي ليست هنا، إنها معه هناك على الأريكة، وقد فتحت جسدها، وراحت تضغط على الشظية، وتسحقها بيديها الداميتين، وتفيض بالحرارة والإبر والنزيف.
***
لا مكان ليدلق النار في رئتيها.إنه ينام في الزاوية! لكنها أحياناً تبدو ساخطة ناقمة! وتقول في سرّها العدواني: ليتنا بقينا في الريح.
***
تحت ضلعي الأيسر مُضغة نابضة، بسماحها أصنعُ حَظّي، وأعيد البراعمَ للشجرة المدمّرة التي ضربها الهلاك فهلكت. وبالمضغة أُميت الخطيئة التي لا تموت، وأجعل العيونَ الكبيرة تشعّ بالذكاء، والقلوبَ تنبض كقلبٍ واحد، وبالمضغة الصالحة أهمس في رأس المرأة المشوّشة، فتصحو بأن للظلال أهمية الضوء.
***
تُذكّرني إبرة ُ الوشم بأول مرّة أُساق فيها إلى المعتقل، كان السرير الأبيض طائشاً في الغيم، والفتاة تركض تتلفـّت خلفها هرباً من ذي النابْين والدم المتساقط على الذراع.
توقـّف الكابوس، ولمّا أخذوني ثانية ورابعة وعاشرة… كنتُ لا أنام حتى يغلبني النعاس أو التعب، لكن كفيّ اليمنى كانت تمسك بذراعي اليسرى، وثمة خيالات وصدى يقلقني.
***
ظبيٌ بريٌّ له شفتان مُغريتان، وجسدٌ مشدودٌ يافع، وله بشرة كظلال النار على السيف. عندما تراه تحسّ بأنك تستفيق من حُلم، وتشدّك عجرفتُه الطفوليةُ، فتصرخُ: أشعر أنني إسفنجة تمتصّ كل هذا الشعاع، وسأبقى في حلمك حتى أموت، فارحَمْ، أيها الظبي، أَمَا رأيت نفسَك؟! كنتُ أعتقدُ أن المرآةَ كانت كافية لتأخذ درباً آخر غير الوصول إلى دمنا! وتذكّر أنك إذا جرحتَ التنّين فعليك أن تذبحه، وقد فعلت!
لقد راح الظبيُ.. ولا مَن يجرحني بعد الآن!
***
الدمُ هنا صخب يعصف بالدنياٌ! إنه انقباضات الولادة، وهو هنا الخوفُ الذي يؤمّن كل رغبات المرء، أو الحُزن الذي هو نواة كل شيء. والدمُ هو مَلاك الموت قبل أن تصبح لعبته مقيتةً. والدمُ هنا ندائي لتلك المدينة التي يبكيني جَمالُها، فأصرخُ: فجِّري قلبي! كما فجّر قلبَك الوثنيون!
***
الجواميس عندما تهرم تفقد قرونها، وتسير بتهدّل وتعب! على بعضها آثار وندوب معاركها فيما بينها، وعلى بعضها ملامح الرغَد الذي كان. لكنني أحبّ من الجواميس التي ظلّ على جلودها رائحة الضواري والكواسر التي طمعت في لحومها فرفضت!
***
بعد أن طبعتْ عجينةَ الليمون على خشب الرمّانةِ، تحت القوس المنحوت
ويدِ الحسدِ الحجرية، عبرت بيمناها المرتجفة،ورنّت الزغاريدُ، واصطهدت الأكفّ،ورنخت القمصانُ والأعراف..ودخلا إلى بهاء الحرير والعرق الخفيف
وعضّةِ الشَّفة والهلع اللذيذ.. حضرت كلُّ خيالات اللحظة الفارقة،
وخلعت شتاءها الخجولَ، وعبرت إلى التلقِّي الكاوي والافتراع،
وفاضت الزبدةُ الحمراء.. فناداها مِن تحتها.. فخفّت وطارت!
لكن طيرانها اليوم.. مختلف وعدميّ.
***
الدمُ هنا وريدُ بَدْر، وشرايينُ حمزة على الرمح، وريقُ الحسين ونَحْرُه الشريف، ولهبُ المنجنيق وهو يضيء وجهَ الفاتح، واحمرارُ أجفان الناصر صلاح الدين، وشمعةُ عكا المحاطةُ بالموت، وحزامُ الكرامة، وبقايا مَنْ ظلّوا في قلعة شقيف، أو أضاء بشظاياه مقاهي الشاطئ، والدمُ حرفُ نفي المُحاصر، وكرسيّ الشيخ الشهيد، وحزام المختار، وعِراقُ الدنيا وهي تغرق في التيه الإثنيّ والسبيِ المعطوب واختلافِ الصلاة! والدمُ بَرْقُنا، واجبُ الوجود، المختزنُ في الغيمةِ السوداء.
***
عندما مات دفنوه، ووضعوا بذرةً فوق قبره. وإذا أرادوا إخراج الجثة فلن يجدوها، لقد نمت البذرة عليها وصارت شجرة، وعندما يأكل عصفورٌ من ثمرها، فإن روحَه تطير مع العصافير.. هناك.
***
الموت مرض، مثل أي مرض يمكن علاجه! لكنَّ أحداً لم يعمل على إيجاد ذلك الترياق، لأن الجميع أدرك من البداية أنه مرضٌ ضروريٌّ لمواصلة الحياة، إلاّ المبدعين والشعراء، فلقد أرادوا كسر القاعدة والخروج على الإجماع، لكنهم ليسوا علماء مختبرات ليجدوا ذلك الدواء، إنهم واهمون جميلون، وحالمون.. حتى الفناء.
***
تدخل الزنزانة خائفاً مرتعداً مرتبكاً، تحاول أن تجمع ذاتك، وتندس في العتمة زائغاً، تكاد تتكوم انهياراً، وشيئاً فشيئاً تتّضح الجدران، فترى كلماتٍ حَفَرها المعتقلون بأظفارهم، أو كتبوها بدمائهم، تتملاها، وتقرأها ألف مرّة، وتراها ملء العينين تطير وتدخل قلبك، وتنطبع هناك في سويداء الوجدان، فتتماسك وتنهض مثل حصان أسطوري، وتدق برمانةِ كفِّك كلَّ الأبواب الصلدة، وتنفر دماؤك، وتخطّ بإصبعك المغموسِ النهايةَ المُتَوقَّعة.
***
والدمُ هنا صوتُ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي يُرينا أرواحنا وهي تخفق، ورذاذُ فيروز الذي يُجلِّل زجاج البيوت وصخور البحر، وريشةُ حنظلة والسواطيرُ تفرمُ قلبَه المفتت، والفتى يحمل حجره البريء ويعترض المجنزرة، والشاعرُ الذي يُرمّمنا من جديدٍ.
***
***
عندما ينادي الغريب يصدعُ الصمتُ بالنداء، ويكرزُ الحنين في الخشب، فتخضرُّ السلالم، وتبتلّ الخطوات بالندى، ويصير الوقت ودوداً.
وعندما ينادي القريب تجنح المذابح إلى شفراتها، لتشحذها من جديد، ويبدأ الهراء.
وعندما تنادي البكارة يكون العصفورُ قد شخب على المقصلة، وانطلق من جديد، لكن المقصلة تثلـّمت، ودخلت في بهاء العبودية المتوالد.
وعندما تنطفئ النار فإن دخانها يُعشي العيون.
وعندما ينادي الإحباط لتكون الكآبة، تفتح البيداء ساقيها لنورس البحر، فتحمل بالثلوج، ويبدأ الكرنڤال.
***
رجعت الغيلان وفي قلبها غُصّة،
كان الراقصُ ساحراً، وموته فاتناً.
***
في (ساحة السرايا) رأوا الجزّار يهرب والحِبال في أَثَرِه.
***
لقد أخذوا الجَنين المولود الورديّ المُعافى، وحقنوه بالخريف!
سيلتبس الأمر على الناس..
وتعود بابل من جديد.
***
هل رفعتَ الحجر الكبير وأخذتَ الهديّة التي تركتها لك تحته؟
وهل ارتديتِ الثوب الذي خبّأته لك تحت الشبّاك؟
ماذا كان تحت الحجر؟
لقد ذهبتُ إلى الحرب ولم أعد منها،
ماذا كانت هديّتكِ؟
الثوب.
أيّ ثوب؟ لقد طار الشبّاك، ولم أجد شيئاً.
ربّما تبادلت الشظايا والجرّافاتُ هدايانا.
أيّها المسكين، كان ذلك في حياةٍ أُخرى، وفي حيٍّ…
لا أدري أين أصبح الآن،
ولا داعي للتحديق في وجهي،
فإنّ زوجي قد مات،
ولا أُطيق تلك المرأة التي تجالسك.
***
الجنديّة التي تقتل الأطفال، هل تلد أطفالاً؟
***
النازحون لا يعيشون أيامهم، إنهم يهربون منها.
***
المخيم المعزول والممنوع والفقير، والذي عاش بمنطقة الرماد في كل شيء..
أصبح رماداً.
***
كلّهم طلبوا من ربّ الجنود أن يجترح مشهداً أكثر اتساعاً ودمويّة وهولاً وإيلاماً.. فصار كل شيء دامياً متوهّجاً وهائجاً .
وتجاوز الجنرالُ مَنْ سبقوه، فجعل غزة بحيرة حمراء، يخوض فيها الأنبياء الصغار، الذين لم ينفطموا بعد، وسَكِرَ الجنودُ من خمرة النجيع..
ولما غضبت غزّة ، وصرخت بالنار.. تلوّن وجه السماء ، وهرّ الدمعُ دماً وحطاماً من عينيها ، ولطمت الجدران من فعل الطائرات، فانتعف الوريد من خدّيها ، فتحطّمت وصارت مقبرة لأطفالها وللقتلة معاً! ونزّت شرايينها حتى وصلت البحر ، وربّما تغطّي الخريطة .. كلها !
***
الذي تجرّأ ويحاول سرقة صندوق (بَانادورا) من غزّة
تَعوزُه الحكمة، وستأكله ألْسِنة الشواء،
وسيكون مع (بروميثيوس) المفرط بالكبرياء والعناد.
***
الحرب: تجارة كبيرة، سوق نخاسة،أكاذيب كبرى،وكلاء خاسرون،جنود أو وقود مجّاني،مسرح معتم..وكاشفة إلى حدّ العري.
***
لقد نجح التدّجين! فها نحن على هامش الهامش..
فالأمور الحازبة ستمضي، كما مضت أيام الاغتصاب،
سنغلق عيوننا بلا صعوبة، ونصمّ آذاننا عن المخاض،
ونخجل من النظر في المرآة.
***
كلّ الرّايات في غزة ..إلا البيضاء
***
سنرى (ميريل ستريب) و(براد بيت) و(بن كنغسلي) و(سلمى حايك) و(كيت وينسلت) و(كريستوف فالتز) و(ميلاني لوران) و(أدريان برودي) و(هيلاري سوانك) و(شتيلان سكاسكارد) و(توم باين)..يبكون ندماً،على أنهم شاركوا في الخديعة،من خلال أدوارهم في أفلام مثل: “المَهمّة” و”القارئ” و”كلية الطلبة” و”أوغاد مجهولون” و”عازف البيانو” و”سبتمبر من شيراز” و”الطلبة الأحرار” و”سارقة الكتب”و”الطائر المرسوم”و”اختيار صوفي”..
***
يا لمشيتها على الأرض الراسخة !
لقد قنصوها.. فتجرّعت البارود واخترقها سهم القناص،
ولم تستعِدْ وعْيَها.
لقد رأى الطبيبُ مسامات وجهها لشدّة قُربه منها،
وتنفّس تحت قُذَلها الموزّعة،
وفَحَّ،على رقبتها وحول أذنيْها،
ومع هذا ظلّت غائبة عن الوعي، أو تظاهرت بالغياب،
وهو منشغل بِإيقاظ عشبة السِّحر الغافية التي لم يصلها أحد،
إنّها خطيبته، وكان موعد زفافهما يوم السبت السابع من أكتوبر.
***
ماذا قال عندما خلع عنّي الفستان؟
وأين زاغت عيوني وأنا أنتظر الطعنة؟
ولماذا ضرب النسرُ جناحه عندما اصطدم بالقلعة؟
وكيف بكى السفرجلُ وهو يتهيّأ للذوبان؟
ومتى اندسّ الرّعدُ في الوسادة، وما زال دويّه الناريّ في عجينة المِسْك؟
أين كلّ ذلك اليوم؟ يا زوجيَ القتيل؟
وكيف لي أن أُكَحِّلَ جفنَ الغزال بالرّماد؟
***
***
رجلٌ وامرأة على سريرهما ،
-بعد يومٍ من الهدنة المؤقّتة –
يقدّمان لبعضهما البعض…
ويحسّ أنّ جدولها رطب،
هل هو دم الشظيّة الذي لم يتخثّر؟
لقد حاول لأن يُحيل اللحمَ المتغضّن، بأنفاسه الساخنة، إلى ندى..
لكنّه تكثّف وسال، فَبَلّلَ الجدول.
***
أنتَ مَنْ يحدّد ما ستحصل عليه من حظٍّ جيّدٍ أو سيّئ.
وعليك أن تدفع الثمن إذا أردتَ أن تعيش بشروطك.
وصِدْقك ليس تجمّلاً على العالَم،
فهو الذي يجعل قلبك أكثر نوراً وأقلّ أعباءً.
والتغيير الكبير لا يأتي في يومٍ واحد،
حتّى إن الغابة تحتاج إلى وقتٍ لتنمو.
ثمّ ماذا أيّها الحكيم؟
قليلاً من الصبر، فالنصر خلف الباب.
***
سيتصادى هذا الرّعب المُشْرَع،
وسيصل ظلُّ المحرقة الثقيل إلى الضفاف المجاورة،التي لا تبالي الآن،
لكنّها ستختنق مما يمور في الظلال،ومن تداعيات الهرج والمرج..
وربما ليس لديها الوقت لتنتظر..
***
لم تأتِ، اليومَ، السعادةُ راقصةً إلى (غزّة، والعطاطرة، وجباليا، والبريج، والمغازي، والوسطى، والشيخ رضوان، والتفّاح، والنصر، وتلّ الهوى، والزيتون، والشجاعيّة، والقرارة، وعبسان، وبني سهيلة، والشاطئ، وبيت لاهيا)،أي من (بيت حانون إلى خربة عدس)، التي هي بقعة المقاتل الشهيد الممتدّة ، بل هو الصمت الحارق ، الذي ينبغي أن يشوي وجوه الصامتين والقتلة المحترفين ، الذين صعد من تحت طائراتهم المجنونة آلافُ الشهداء الطازجين، وصلوا الفردوس بأمان،بعد أن أعطوا غزةَ معناها الأزليّ البهيّ.. لكنّ أرضهم ما زالت على خوفها، ودمها، وفجائعها.
إنّ أُمَّ غزة،هي أمّ القتيل الذي لا يموت،
ربّما ستضع رأسكَ بين كفّيها وتشهق بماء النار،
وعزاؤها أنها حملتك مرّتين: الأولى في بطنها، والثانية على كتفها.
***
لغزّة،في يوم قيامتها، وملحمتها، ومحرقتها، وكربلائها، ومظلمتها، وسرديّتها الدامية أن تحفر على جدران الذاكرة والتاريخ مقولةَ تلك الطفلة التي أخرجوها من تحت الأنقاض، متهالكة زائغة، ووضعوها على الحمّالة ، فقالت: هل تأخذونني إلى المقبرة؟
***
أنا لستُ اليسوع، والقاضي ليس (بيلاطس) الحاكم،
لكنّني أقول الحقيقةَ له، وأمامه، ليسمع التاريخ،
ولن أطلب الرحمةَ من الإمبراطور.
-الكلماتُ خناجر الحاكم، وقارب الشعراء-
والمرأةُ التي أحبّتني سخرت من كلمات العشق التي قلتها،
وكادت أن تضحك،
لكنّني عالجتها بطعنة رخيّة، جعلتها تخمش الهواء البعيد،
أنا لستُ اليسوع،
لكنّ كلّ مَن حولي كانوا أبناء (بيلاطس)،
ويحملون شارته على ألسنتهم،
ويتشدّقون بها.
***
لا، لا انقطاع سوى التأمّل في الحرمان الذي يغرز أنيابه في الطير الرضيع، ولا أجد دمعةً تعينه على الطيران، ولا ابتعاد إلّا عن التصحّر الداهم في القصائد المتبقيّة، ولا شيء غير أن أنعف المساء باقةً للمدينة التي تلهث على قلبي، وتترك خطواتها عليه.
***
لعلّك لم تلحظي في حمأة القصف العنيف أنّ ملائكة هبطوا من السماء، وظلّلوا عليك، وفَرَدوا أجنحتهم الماسيّة فوقك.
لقد خافوا على القصيدة.
***
يسترسل الضبع باللعب في الجحيم،
والظباء تبحث عن بقايا صغارها، دون جدوى.
***
الرّاهبُ الذي تمَّمَ نُذورَه، وأكمل صيام الأربعين، ويصلّي صباح مساء،
يعتريه الندم بعد أن صادفَ زميلته تخرج من المبنى المجاور
الذي قصفوه.
وكان يُطيل النّظر، حيث ترك، قديماً، قُبْلَتَه الطويلة والحارّة هناك.
وكانت هي تعود إلى أيّامها البعيدة، وتستذكر القنّاص
الذي أفقدَها الوعي، قبل أنْ تُسلِّم نفسَها للآخِرة.
والغريب أنّها رتّبت هندامها، وابتسمت للرّاهب،
ولم يبدُ عليها أيّ انزعاج،
بل كانت كمَنْ عثرَ على كنْزِه من جديد.
***
باقة الورد التي حملها لزوجته،
كان قطفها من بستان جارته،
صحيح أنّ زوجته ابتهجت بها، ووضعتها في المزهريّة، لكن
ثمّة رائحة مألوفة،
كانت تنسّمتها من قمصانه،
وظنّت أنّه يعانق الورد قبل شرائه.
ما الذي جعلها تتذكّر تلك الرائحة الآن؟
ربّما تلك الابتسامة نفسها، البادية على وجهه،
رغم موته.
***
(بيت حانون) لِ(جِنين): متى نبكي فرحاً؟
***
لا مكان لرقمٍ مشؤوم،
ثمة تلميذٌ خائن، ونبيٌّ مخذول.
ولا وجود لطائرٍ تُنكره،
هناك عينان واسعتان قرب البحر في المخيّم،
وعميانٌ على البرّ، لا يبصرون.
***
لم ينفجر ذلك الُمعلّم من جهل أو معرفة،
كان يعرف أنّ وعْيه التراجيديّ سيبقيه حزيناً،
يتهيّأ للمجزرة التي ستقع،
كأنّ (نوسترادموس)، أو عائفاً من الصحراء، أو عرّافاً مُصاحباً لجنّيٍّ
يُطْلعه على الغيب.
أمّا صديقه الضاحك أبداً فإنّ وعَيْه الكوميديّ يؤجّل بكاءه
أياماً وشهوراً،
ليسترجعه دفعة واحدة،
فتفيض الحواكير بالزّهر المحروق، والريح الشمطاء.
***
سيّدة المراكب، والمواقد، والأغاني المرنّقة بالحنين،
أرض الرمل الذهبيّ العصيّ،
بيّارة البحر، والبرتقال، والنخيل العالي،
صاحبة الثوب المُسْدَلَ بعروق الأرجوان، والزيتون، والزّهر البرّيّ،
المستورة النّدّاهة الحنونة، منجم النور…غزّة،
ستواصل أيّامها رغم انكشاف البيت، وتدمير القبّة، واحتراق خزانة الأيام،
ستبقى النبع، على ظمئها،
كأنّها تدعو النّوارسَ إلى وليمة البحر الرّيّان.
غزة.. غزة..
***
بين النوم والصحو، يفتحُ السبعُ نافذتهَا، فتشعر بفرائه يسبحُ على سواحلها. وفي الليلة التالية يأخذها على ظهره، ويفردها على الغيمة، وينزو إلى أن تقطر السحابة.
وعندما ساقوها عروساً، دخلت معه إلى النوم، وقبل أن يخرج الرجلُ ليخبر أنّ القذيفة أدركتها ، كانت قد أخذت وجهه، وسقط قرب الباب.
***
الدم هنا حكايات جدّتي والقمباز وطبق القش وثوب البئر والسَّرجة والصّمدة والبُقجة، وأهلي في الديوان، والناس في الأسواق وأمام الدكاكين، ولمّة الأغنيات الجماعية المتفجّرة..
***
كان بعلُها قد تراجع، شيئاً فشيئاً، عن اقتحامها، وصار أكثر برودةً وحياديةً وارتخاءً، فخافت!
في الليلة التالية، خلع زوجها قفطانه، وبدا كأنه سيَنام، لكنه، فجأة، ارتعد وفجّ نجمُه، والتمعت يقظتُه، ودارت الزوبعة، ولفـّت ودارت وهاجت وصعدت، وبلغت القلوبُ الحلوق، وغاما فوق الصوف، وآثارُ ماءٍ على الأرض المخفوقة.
في الليلة الأخرى، كان الرجلُ يسابق مرور الجبال عن جنباته التي تَشقّ الأجواء المزدحمة من حوله، ولولا أنْ رآها تتحزّم كعادتها في الصباح، لتأكد أن تلك الأفعى أو تلك الفرس لم تكن أكثر من أحلامٍ بهيجة صاخبة، كانت تأخذه ولا تعيده!
***
للجنرال قرنا ثورٍ صلب، ينطح بهما ظهر الشيخ السبع المجروح، فتتناثر المهج وقطع النجيع من ظهره، فتصبح البسيطة سجادة ورد قانٍ، ويواصل الثور دكّاته المالعة، فيتوقف الشيخ، ويصعد بظهره، ويعبّ هواء الدنيا، ويرفع عصاه بيمينه، ويدقـّها في الأرض غضباً وإعلاناً للخلاص، فتنغرز في التراب وتخضرّ، وتتفصّد براعم، وتكبر، وتهيج، وتصبح شجرة كونية، وتتوالد…
حتى تغطي الغابةُ كل الأشياء.
***
نجمة! كما ولدتها السماء، على حصان وحشيٍ يفيض بعرقه! وتتوازى خصلاتها المشدودة بالريح إلى الوراء بأعراف الحصان المشدودة بالريح إلى بطنها، والمشهد مشحون بطاقة الألوان الجامحة!
***
الوصولُ إلى البيتِ والنومُ والضحكُ والصمتُ والصلواتُ حرامٌ حرام.
والطفلُ يلهو بعودته، أو تأخَّر ثانيةً في الطريق، سيخرجُ والدهُ باحثاً عنه، إنْ كانَ بين الجنودِ وبين الحُطام.
وحين أغيب إلى أوّل الليلِ في الأصدقاءِ، ترنّ الأماكنُ حتى أعودَ إلى قلقٍ في الظلام. ولكنني في العواصم أخرجُ، أسهرُ آكُلُ أشربُ أضحكُ أسمعُ ثم أعودُ إلى غُرفتي، غير أني أُحدّث أهلي، وأسأل عن كل شيءٍ، وأنَّ الجميعَ بخيرٍ، لعلّي إذا نمتُ ليلاً.. أنام.
***
أوقفتني! كانت عيناها بلون المطر، وتحمل على رأسها صندوقاً كبيراً، أنزلته، ووضعته أرضاً، وأشارت لي بأن أفتحه!
فهق الضوء الذهبيُّ الخاطف!
نظرتُ إليها، فتحولت عيناها وصارتا كالمياه العميقة، وقالت: هذا ذهب الدم الأبيض الذي خبّأته المدينة ، ليوم أسود.
إنه في صناديقه، وما عليك إلاّ أن تُخرج كل الصناديق من الأنفاق ، وإلا سيأتي يوم، وتجد امرأةٌ ذات عيون بلون المطر كنوزَك المطمورةَ،ولن تفيدها بشيء..
فابحثْ، وواصلْ، واطمئِن!
***
والدمُ هنا هو ذهَبي، أنا الذي صغته من قلبي ودمعي وابتسامتي، أو أنا الذي وجدته في كهف أرضي، بعدما أشار إليّ الساحر: إن ثمة ناراً في شتائك أيها الفتى الرائي! فانطلقتُ، وفتحتُ كوّةَ الصخر، وولجتُ، فسطع في عيني بريق الأكوام التي انثالت تلّةً من قطعٍ ترنّ، وهي في مكانها! وأشعلت ناري، واصطهدتْ حتى طقّ الحجر والقالب، وصنعتُ من الأشكال والهيئات ما استطعت، وذاب القمح المعدني الملهوب، وترقرق كدمع الأميرات، وانصبّ حتى استوى، وظلّ راكداً حتى بَرَد، فبرَّدتُه برمْشٍ ولسان، فتوهّج مثل كرة الحياة، وها هو بين يدي، لا أكاد أحصيه أو أعدّه، فأحثوه لأضعه في الطرقات والمفارق وعلى كل رفّ، فمَنْ شاء فليفتح سرجه ليمتلئ بهذا الرنـّان، وليواصل طريقه، فالدرب طويل.
***
الدمُ عَرقُ جسد النبي، وجثمان الشهيد الذي لا يصدأ. وربما يعلقُ شيءٌ من العَكَر أو الرّيْن أو السهك بالجسد، وربما يختلط التبر بالتراب أو الجذور أو الحصى أو العظم.
ولكنَّ جسد الشهيد يبقى كما ذرأه الله.. ذَهباً!
***
القنبلة التي أتت على البستان، جعلته يضيق أمامي!
آه..سأذهب إلى جاري، خلف السور، وأَقُصّ عليه رؤيتي،
لعلّه يدفع باقي الأشجار إلى جداري.
لقد اختفى، لم أجده في كوخه.
الطيور الساخطة تقاسمت الغصون،
واكتفى الجار، على ما يبدو، بالثمرة المعطوبة،
ويبدو أنّه لن يعود.
***
أدْخَلَ المبضع إلى سويداء القلب،
وأخرَج الرصاصةَ مغمّسةً بالدم،
ووضعها في الكأس،
ورفعها،
وقال بصوتٍ عال: بصحتك،
إنّه دَمُ طيرٍ رضيع.
***
الدّهليز الحجريّ المليء بأوراق الورد الناشف
لم تعد بداخله ذرّة هواء،
فاختنقت الوجوه المرسومة على لوحات الجدار،
واسوَدّت الألوان،
وأغمض المنحوتون عيونهم، وبهتت ملامحهم،
وتجمّدت،
ولم يتبقَّ غير حجرٍ يحطّم النافذة،
ليدخل الهواء،
لتعود البراعم والوجوه،
وتعود الخطوات إلى الدهليز.
***
ما الفرق بينهما؟
يرى القاتلُ نفسَه رائعاً، ولديه أدوات الذّبح المقدّس،
ويتقن فتح ما تغلّق من بلادٍ تناديه،
وكان المُسنّ الخَرِفُ الشائب قد عَقَدَ جديلته
ليُسابق أولاده في إعداد الكعكة المسمومة،
لكنّه اكتسب ،مع التشاوف، القدرة على ترويض الشواهين،
التي لا تملك سمكةً واحدةً على الخليج الغائر.
والفرق بينهما لا تعرفه إلّا تلك المدينة
التي اكتنزت بالتوهّج، والفتوّة، والجسارة،
ورغبت في أن تلد نجمة، لتُرضعها
من إكليل الزيتون، وأوراق الليمون.
***
الانفجار في (جباليا) أودى بالعشرات في (نابلس).
***
جارتُنا التي فَقَدت بصَرَها فجأةً بكت طويلاً على زوجها،
وهي في عزلتها الباردة،
لمحتُها تسعى وهي تتحسّس الطريق،
كانت مثل جدولٍ تائه في بيتها الحجري،
ولم أعرف أنّ زوجها كان يتمنّى لو كان له ولد،
وربّما حاول أن يقترن بامرأةٍ أُخرى،
ولم تقلْ له إنّه السبب.
أرادت ألّا تخدش زجاجه النظيف،
واليوم، كم تمنّيت لو كنتُ ابنها.
***
القلادة الحمراء معدنيةٌ، رنّانةٌ، مزخرفةٌ، مصقولةٌ، متوهّجةٌ، ملساء
وجدوها في عنق هيكلٍ عظميٍّ منخولٍ ذائبٍ،
في جوف ناووسٍ حجريّ،
هذه القلادة كانت لابنة رسول على ما يبدو،
لأنّ النقش الموشوم على وجه القلادة ذهبيّ،
وينتمي لرموزٍ سماويّة قديمة،
وكلّما تقلّدها أحدٌ، انفتحت في مخيلته مشاهد الجنّة، وطقوس الفرح،
والدماء الوردية في خدود المشمش.
وجدوها تحت بيت قديم في البلدة القديمة،
رآها ضابط، فانتزعها، وحاول أن يتقلّدها،
وما أن طوّق بها عنقه حتّى خلعها،
وراح يجري..
القلادةُ مقدّسة.
***
سيمتلئ الأخدود باللفائف الرّانخة،
ويهيلون عليهم التراب وهم أحياء،
وثمّة رضيعٌ يصرخ، وذراع امرأة تمتدّ لتصل إليه،
قبل أن تكتم الجرّافةُ أنفاسَها.
***
كان بمقدور التلميذ أن يمشي على الماء الصّلب،
لكنّ إيمانه كان رخواً
إلى حدّ الكفر والغرق.
***
عندما طرق الحظُّ بابي
لم أسمعه،
كان القصف شديداً.
***
ربما يحسّ الواحد منّا أنّه لا شيء،
فانٍ، وحيدٌ،
لا أحد يهتمّ لشأنه أو يسأل عنه،
هذا إذا كان فارغاً من الأحلام،
وإنْ لم تتحقّق.
***
لا أملك الوقت للهزيمة،
لقد تركتها للمساكين،
المتسوّلين للخمرة الرديئة، المُشكّكين بالأمل،
الذين يمشون إلى القصيدة وهم يكرهون الشِّعر،
ويسيرون إلى خدعة الخلود، والمقاعد من خشب،
ولم يصدّقوا ما قالوه..
لقد نظروا إلى المرآة فانكسرت نظراتُهم،
ولم ينصتوا لانهيار الكون،
وهم ،الآن،على أبواب الفناء.
***
مرآةٌ سوداء تبتلع الضوءَ،
وتجعل لهيبَ الشياطين نهاياتٍ للسّروِ الشامخ.
وطيورٌ وحشيّة لا تغفو، تدفّ في الليل الطويل.
والحاكِم يفرك يديه بقرنفل العِطر،
ليبدأ وليمتَه الليلية، ولا يكترث.
***
الجميع يستحقّ الشفقة
أستثني أولئك الذين قتلتهم الكمنجة،
أو مَن شقَّت الشمسُ صدورَهم، وانصهرت فيهم،
أو الذين غابوا في خَدَرِ النّاي
حتّى لم يفيقوا.
***
الشاعرُ عجوز،
يكتبُ إذا صادف طفولتَه من جديد،
وتصبح قصيدتُه كاملةً إذا رأى الوميضَ في عينيها،
ويحقّق المُعجزة إذا لم يمُتْ وهو حيّ.
***
غمغمات الخوخ العسليّة تفيض في فمي،
ثمّ تصير علقماً لا أستطيع ابتلاعه،
فالمشهد خشن فظّ جِلف فاشيّ صادم،
لقد وضع خمسمئة جثّة في قنينة وأغلقها، ورماها في الموقد،
إنّ أصوات الفتيان والفتيات،
وسط شبوب اللهب المتغيظّ يمزّع الكبد، ويفرم القلب،
ثمّ جاء، والبلطة في يده، يقهقه، ويقهقه،
فانكسرت جرسيّة الكنيسة، ومالت مئذنة المسجد،
وتبعثرت المدينة على الجنبات.
***
هل رأيتم
مع كلّ هذا الموت، يدير لنا العالَم ظَهره، وينام؟
***
يترجرج فنجان القهوة في المركبة العسكريّة،
وتسقط منه قطرات على سروال الضابط،
وسيقول لجنوده: ارجعوا لأبدّل قميصي.
***
ولم ينْتهِ الحكواتي حتّى قال: انهزموا، وولَّوا مدْبرين،
فَحَمل الضابطُ سرجَه على ظهره،
وقيل: إنّ الرمال قد ابتلعته،
أو إنّ العطش قد بطش به فرماه تحت لظى الناغرة،
أو إنّ الوحوش قد تناوشته، ومصمصت عظامه،
وتلمّظَت بنخاعه السُكّريّ.
***
صحيح أنّي كنتُ على تلك الكومة المهدّمة،
في ذلك الحيّ المقصوف،
وكانت الأرواح الهائمة تئنّ من حولي كأنّها الطيور المُدمّاة،
وتقف، تباعاً، على كتفي،
وتحدّثني كما أحدّثك،
وتقصّ عليّ حكايات مهولة وذكريات مفزعة،
لكنّ ذلك الأمر قد انتهى،
وقلتَ لي: إن ذلك كابوس، أو بالأحرى كوابيس، لاحقتني
طيلة الليالي الفائتة،
لكنّها لم تعد،
وها أنذا أنام عميقاً،
كأنّي أسقط على وسائد الجنّة،
وأتمتّع بمشاهدها الخلاّبة الباذخة.
***
للمرتعشين المرجفين:
انتظروا، سيتسع الحريق، ويمتدّ الطوفان.
***
امرأةُ (مخيّم الشاطئ) التي وقفت على الشاطئ الأزرق،
جمعت البَحْر في يدها، وأطبقت عليه، وقدّمته باقةً إلى البيوت.
***
الأغاني القديمة في (ديرالبلح) تضيء الملثّمين،
وتجعلهم أحفاداً من نَسْل الآلهة.
***
المسجدُ البيتيّ الصغير في (عبسان) يعجّ بفوضى الكلمنتينا.
***
الشهدُ يفيض في زفّة العروس، يسأل المارّةُ: ماذا شرِبَتْ؟
فيضحك الليمون.
***
غزّة الأسطورة الفذّة التي أثبتت بجدارة وجسارة أنّ الاحتلال يصلح للهزيمة،
غزّة البطولة المُضرّجة بالحنّاء والأغاني الصعبة،
غزّة مثالنا المبهج المتوالد كالموج والمناديل والأيدي المتحاضنة.
هي غزّة البيارة وزعتر البلد..التي تعرف كيف تتجاوز هذه اللعنة.
***
لم تجد أيّ ذريعةٍ تصدّه بها،
فمه يدفقُ بالتفّاح، ويتقن فكّ الأثواب،
ويشيع النرجس على مراعيها، ويلثم صخرتها الرّخوةَ
حتّى تقضم الهواء،
بل يفترع الحقل بهدوء ودراية حتّى تملأه أشجار الغيم
بضبابها السيّال العَذب.
لقد أرادت أن يمزّق قميصها، لا أن يخلعه عنها برويّةٍ وصبر،
فالقصف يتقدّم، وما من وقت.
***
أَلَمٌ مُسْتَفِزٌّ يضرب بسياطه ظَهْر الجَمَل،
فيرفع رأسه نحو البحرِ الذي يضفضف أمامه،
لعلّه يمتصّ بعض الرّذاذ الذي تنثره الأمواج.
أمّا السّبع الذي اجتمعت الغابة لإخراجه منها فلم يغادر عَرينه،
والبرق الذي ضرب الحارات ليلة أمس،
لم يتبيّن تفاصيل المعركة التي أودت بالجنود،
غير أنّ الناس، خلف جدرانهم، رأوا السبعَ،
وقد حمل على كتفه، ما يشبه القذيفة،
وكانت وراءه كومة هائلة من الحديد المركوم،
ورائحة لَحمٍ مشعوط.
***
الكائن سعيد الحظّ، الفوضويّ، المدمن، المدّعي،
الكاتب الذي لم يخرج من سقيفته،
وظنّ بأنّه ابتلع خيطَ البرق الذي
شقّ السماءَ لحظة الرّعدة لم يحدّق في عينيه الضوء،
لكنّ فروة الثعلب بقيت على أكتافه،
ربّما قضم حبّة زبيب حرام،
ورأى شقحة القمر،
وتمطّى مثل الظلّ الساخن على راعيةٍ
فتنتها قصصُ العشق في الصحراء، لكنّه،
ومنذ الحرب، قد ألقى القلم، وأحرق دفتره الأبيض،
وقد ينفجر، بعد العدوان، مثل (بالونة) وسخة.
***
لفرط ما تفرّس في المدينة
أصابت الرصاصةُ الحمامةَ،
وتفلّع الرّمانُ في الحقل،
وَهَوَت حبّةُ التين،
وفَقَدَ كوكبٌ يدَ أُمّه،
وتجمّر البرتقالُ على الشجر.
***
هناك على أّول السطر يبكي الملائكةُ الطاهرون،
ومن خلفهم أُمّةٌ في العذاب.
هنا أو هناك جموعٌ من الذاهبين إلى الموت،
برّاً وبحراً، قصفا وحرقاً بكلّ المدافعِ والطائرات،
وما من خلاصٍ سوى أن نعودَ إلى الأُمّهات،
لنسألَ عن أُغنياتِ الرحيل، وندفنَها،
ثمّ نطلق أغنيّةً للبقاءِ على تلّة الذّبْحِ،
حتّى يقولَ الذي ماتَ: عُدتُ،
وهذي البداية نحو الحياة.
***
لم تتوقف قبائل الغبار عن إسدال ستائر السواد على الحدود،
حتّى لا نرى الوجوه المحفورة في القلب.
ولم تتوقّف عن إغلاق كلّ الدروب بالحديد الظالم الغليظ المجنون،
لكنّ الفرس مطهّمة، وتُسابق الأشجار، وتقفز فوق حواجز المتاريس واللهب،
ولا تلتَفّ على الطريق المعبّد، منذ آدم والطوفان.
***
فَرَس كاملة تقف مثل تمثال طبشوريّ تحت نور القمر،
ترفع رأسها، فتنسدل أعرافها الرخوة الرهيفة على سفح عنقها المشرئبّ،
وتحمحم بهدوء، كأنّ سرب حَمَام يبغم في صدرها،
ثمّ ترفع حافر يدها اليمنى كأنّها تُحيّي النجوم،
ثمّ ترفع، برتابة وثقة، حافر يدها اليسرى،
ثمّ راحت ترقص بأناقة ورسوخ متماسكٍ،
وهي مكانها، كأنّ مزماراً، لا أسمعه، يصل أُذنيها،
فيثير قشعريرة الأرض تحتها.
ظللتُ أرقب الفرس، وأدقّق في عينيها الواسعتين،
فرأيتُ خيط دمع عريض يشقّ وجهها، وينقط على بلاط الشارع.
***
كانا يتجاذبان الحديث،
كلٌّ على شُرفته،
وفجأة، تهدر الطائرة التي راحت تئزّ في الأرجاء، فعادا،
ولمّا يخطوان خطوة، حتّى اهتزّت البناية،
ربّما يكملان حديثهما تحت الأنقاض،
والحجارةُ تنصت.
***
رأيتُ فيما يرى النائمُ أنّ طيف امرأة ترفع ذراعيها وتلهث،
وأهواؤها موزّعة مشتّتة،
ووجهها مبعثرٌ في الجهات،
وأرى أنّها حملتْ باقة ورد جاءتها من مجهول،
وَوضَعَتها في المزهريّة.
بعد قليل، أحست بحركة مريبة حولها،
نظرتْ، لا ورد هناك،
فتحتِ النافذةَ، وألقتْ بالمزهريّة،
فتطايرت الحيّات في الهواء.
***
تقول: إنّك سمعتَ صراخَ التفاحة.
كيف؟
نعم!
عندما غرزتَ أسنانَك في لحمها، وقضمت جانبها، ورُحتَ تمضغه، دون رحمة، وتتلمّظ بِسُكَّرِها المُذاب.
وهل للتفاحة فَمٌ يصرخ، لتسمعه؟
لا. ولكنّي سمعتُ تأوّهها بين أضراسك الشائخة،
وتحوّلت حلاوتها إلى ملوحة دمٍ في حلقي،
ومن ساعتها، وأنا أحسّ بزلزلة ترتجف فيها،
إذن؟
اتركوا التفّاحَ على أُمّه حتّى يأذن لطيرٍ يعابثه،
بعد أن تترمّل ذرّاته الجوّانيّة، ويرشح بحلاوته تحت قشرةٍ رهيفة
تليق بالمناقير.
***
يخرج رجلٌ من قبره مترنّحاً،
ويضع يديه على رأسه ويصرخ،
فسألتُ الموتى: مَن هذا؟
ردّ أحدهم: هذا الذي قتلوا كلّ أولاده،
لكنّه يخرج كلّ يومٍ ليبحث عنهم،
إنّه الصيّاد الذي لجأت قريته إلى هنا،
وهو شقيق شهيد الانتفاضة،
وخال الأسرى الثلاثة،
وشقيق المرأة في المخيم النائي،
والذي ينعف القمح كلّ صباح للطيور،
التي تحطّ في ساحة السوق.
***
المرأة التي نبشوا قبرها، وحملها الجنود المُجلّلون بالحديد،
وأحاطوها ببنادقهم، توقّفوا بجثّتها بعد أمتارٍ قليلة، وعادوا إلى عتماتهم خاسرين،
ذلك أنّها كانت تتنفّس، ساخنة، وملفّعة جيّداً بكفنها.
ولم تستطع أسنانهم المبريّة أن تنزع الريش عن جسدها،
لكنّ آثار الذئب ظلّت تُغطّي صدرها وساقيها،
ولم تنته من دورتها بعد.
***
سيدةٌ تخرج رطبةً من تحت التراب،
تنفض الطين عن شَعرها، وإبْطيها، وبطنها،
تجلس بين شاهدين، وتفتح بيدها اليسرى جلدَ ثديها الأيمن فتُحدِث شقّاً،
وتتناول قنبلةً، لا أدري من أين جاءت بها، وتدسّها تحت الثدي،
وتعيد اللحم على حاله،
ثمّ تفعل الأمر نفسه بيدها اليمنى مع ثديها الأيسر،
ورأيتُها تحمل مسدّساً، تناولته من تحت حجر، ودسّته تحت حزامها،
ثمّ أعادت كفنها على بدنها،
وسوّت قوامها،
وخرجت من المقبرة.
***
المسيح في (القدس) والجلجلة في (خانيونس).
***
سينعدم الإحساس بالزمن،
ويكون الكونُ (هيولا) دون جاذبية،
إنّه تقويم الأفعى التي لن تسعها القرون للارتواء؛
فالسمّ جارف، وملتهب، ويقظ،
والعربيد في كامل أَلَقِه،
والمشهد دمارٌ سرمديّ.
***
الموت هو الطريقُ إلى الغياب.
وعندما يسقط الشهيد يصيح: لقد اكتَمَلْتُ،
إنّهم يحيطونني من كلّ صَوْبٍ وَجِهَة،
ومهما كان الظلامُ المُسلّحُ شديداً فإنَّ الفجر يقفُ له بالمرصاد.
وها إنّني قد وصلتُ إلى ذلك المكان المخبَّأ بين تجاويف بناية تردّمت،
أو في شريان نفقٍ أقاموه في فؤاد القطاع،
فانظروا، أنا تلك الشجرة الخلّابة التي نبتت من بذرتي الحمراء،
وكلّ مَنْ يشرب من عصارتها سيعيش إلى الأبد.
أنا شجرة الحياة التي ستبقيكم خالدين،
ولآدم وأبنائه شجرةُ المعرفة التي أخرجتهم من الجنّة،
أنا الجنّة والبقاء إذا وصلتموني،
ولكم اللّحد، والدود، واليباب
إذا بقيتم تنتظرون (غودو) الذي لن يجيء.
***
الحديد يصرخ في الحديد.
***
وأراني صبيّاً في التاسعة، أُمسك يد أخي الكبير، وأمشي فوق الشوك والحصى المسنّن على غير هدى، نركض حيناً، ونهرول حيناً، حتّى لا تلحقنا الطائرات التي ترمي منشورات تدعو أهالي البلدة، يوم نكسة 1967، إلى تركها، وأن يمضوا شرقاً.
هذا سرب طويل من النازحين لا ينتهي، ولا يكاد؛ فالنكسة لم تنته بعد، غير أنّ المرأة التي فاجأها المخاض، ونزّ دمُ رحمها، قد أخذتها النسوة تحت الخرُّوبة لتضع حملها، وها أنذا مع الصبية ألقي النظر، من وراء البطّانية التي التفت سوراً حولها، لأرى كيف تلد النساء.
ماتت الوالدة تحت الخرّوبة، وغطّى دمُها الورقَ الناشف المتساقط، وذبلت حتّى حفروا لها قبراً، ووضعوها، كما هي، دون صلاةٍ أو كفن.
أتذكّر، ونحن في مبنى المدرسة في المدينة، وقد أصبحت مركزاً لإيواء النازحين، كباقي المدارس، أتذكّر أنّ شاحنات كبيرة كانت تقف أمامها، مليئة بالخبز والزيتون، فنقف طابوراً لنأخذ حصّتنا (بضعة أرغفة وحفنتين من الزيتون).
وعادت معظم الجموع بعد شهرين إلى البلدة التي كانت قد احترقت وانهدمت، وأرى أُمّي، رحمها الله، تدفن رأسها بين كفّيها وتجوح، وألحظ أبي، رحمه الله، يقتعد درج البيت ساهماً لا يتحرّك، كأنّه تمثال موزّع الأهواء، مأخوذاً بما لم أدركه.
عدنا، كانت بضع جثث متغضّنة ملقاة هنا وهناك، والدوابّ قد قُتلت ونفقت، والبيوت محترقة تماماً، أو مهدّمة، أو مسروقة، فأقام الناس عند بعضهم، أو نصبوا الخيام، في حين لجأت النساء والأطفال إلى الجامع لبضعة أيام.
ولحسن حظّنا أنّ دارنا كانت منهوبة فقط، وأذكر أنّنا اضطررنا لحمل الجِرار وأباريق الماء من الآبار، وجمعنا الحطب، وأشعلنا السراج. وتوزّع الناس في القرى المجاورة يبحثون عن حفنة قمح، أو عدس، أو قطعة جبن، أو رغيف أو … إلى أن استعادت البلدة عافيتها.
المهمّ أنّنا رجعنا إلى البلدة.
***
آلهتكم، أو الربّ الذي يقهقه، ويغضب، ويصارع جنوده، ويفرّق بين الناس
لا يعشق أحداً.
يريدكم عبيداً في ساحاته.
***
بحثتُ عن كلام يليق بالرجل، الذي قصفته طائرة، فارتقى هو وامرأته،
ولعلّي لن أجد !
زرته في بيته ، هشّ وبشّ، وفرد العَشاء ، وكانت ليلة كاملة.
إنّه الساطع الحقيقيّ بكل فطرته، وبراءته التي نفتقدها ،وقد تمتّع بحكمة النّحل، فتجلّى حدّ الضوء، ولم يُلقِ المرساة وظلّ متعلّقا بطمي الوطن الريّان بالدماء.
وظلّت غزة في وجدانه أغنيّته الأثيرة .
إنه الواضح الجامح المُشعّ الحاسم،مَن واجه الانهيار البادي الذي لا يحتمل الانزواء. هو هجرة الكحليّ، وموزّع النار،الذي لم يذهب إلى الهامشيّ أو المُلتبس، أو الكرنفال المصنوع أو المُعتم، أو الجوّانيّ المُحطّم، أو بذخ المسؤول، والتأمّل المجّانيّ، أو إلى رماد النفس الأمّارة بالسوء، بل ظلّ مشتعلاً كقنديل في عقد حجريّ كنعانيّ طاعن بالعشب والندى. إنّنا نفتقده وهو النازل إلى الأرض حتّى يرجع زهرة أو شقيقةً أو غرسة فرح.
***
طرقاتُ غزّة من أرجوان الوريد،
وهالةُ نجمها المُشِعّ من عروق ثوبنا،
سنربّي الأشجارَ والجداول على حدودها اللاتنتهي،
ونعشق في طرقاتها النّحلَ والسنابل،
ونفيض بالمجرّات والنبض،
وننقش على مداخلها جداريّةَ المجد،
ونغنّي: غزّة، غزّة، غزّة.
***
واختتم الحكواتي ليلته، ووعد المستمعين بأن يكمل الحكاية غداً، لكنّهم رفضوا، وأجبروه على أن يختمها الليلة.
***
فيلم غزّة..نهايته سعيدة!
***
كلّ الكلام الذي أريد أن أقوله دون توقّف:لا شيء،
وكلّ شيء.
والموت مِلكٌ للجميع، مثل الكلمات.