شاركها
تعدّ الرواية الهشة (وهذه صفة تسير على مضمون النص وعوالمه الداخلية دون شكله)، طابعاً حداثياً عالمياً، يسم النصوص التي تصف التفسخ الحضاري لإنسان هذا العصر، الذي لم تعد روحه ولا جسده ولا عقله ولا حواسه تستوعب ثقل العالم، الذي كلما زاد عالمه تعقيداً وثقلاً، زادت روح هذا الأنسان خفة وهشاشة كما قال ميلان كونديرا.
أولاً- مستويات الشخصيات ووزنها السردي.
الغسال نص قصير(160 صفحة) من نوع روايات الأسرار التي تتشكل مفارقتها السردية من إيغالها المزدوج في التقليد وفي الحداثة معاً، حيث منحت بطولتها لأربع شخصيات تشكل أركان الإطار الرباعي للسرد.
علي الغسال هي شخصيتها الرئيسية التي تكلمت أكثر من جميع الشخصيات، وتكلمت عنها جميع الشخصيات بحجم أكبر من غيرها، وهو الأمر الذي جعلها تحوز المساحة الأكبر من الدائرة النسبية لخطاب السرد، وتحوز دور البطولة معاً، ومعلوم أن الخطاب هو أكبر الفواعل السردية حسماً في تحديد الشخصية الرئيسية أو البطلة. والتي تسيدتها شخصية السكرتيرة هند في هده الرواية.
أما الشخصيات الثانوية فتترتب حسب قربها من الشخصية الرئيسية. وهنا سنجد أن الشخصية الثانوية الأولى، هي: جمال زغلامي، الصحفي الفاشل مهنياً واجتماعياً والكاتب العمومي البسيط، والتي كانت أكثر كلاماً عن هند، وزودتنا كقراء بأوفر المعلومات عنها، (كشخصية مساعدة أولى) بحكم أنها كانت الأقرب إليها فاعلية ومفعولية.
أما الشخصية الثانوية الثانية فكانت شخصية “علي الغسال” وقد اختار الكاتب أن يكون لقبه هذا هو عنوان الرواية: وقد صنفناه ثالثاُ بين الشخصيات المهمة للرواية، وثانياً من بين الشخصيات الثانوية، بحكم بعده النسبي عن شخصية هند، وبعده بمسافة غموض متساوية عن جميع الشخصيات. وكان “علي الغسال” الشخصية اللغز للأقل كلاما والأكثر غموضاً وأسراراً من بين الشخصيات، شخصية لا تمنح معلوماتها لبقية الشخصيات كما يرغبون. منطوية، وغامضة، وسرية الحركة والظهور والاختفاء.
الشخصية الثانوية الرابعة، كانت شخصية وزير الثقافة السابق المخلوع، (عبد الحميد) الذي اجتمعت حول خدمته: الشخصيات الثلاثة السابقة (السكرتيرة هند/ الصحفي جمال زغلامي/ غسال الموتى: علي الغسال)، رغم أن هذا الوزير لم يكن سوى ولداً مدللاً وفاشلاً وابن عائلة حركى، وقياد أرستقراطيين في زمن الاستعمار، تسلق بعد الاستقلال- عبر سلالة الحركى المزروعين في جسد الدولة- سلم المسؤولية، كي يعتلي مناصب قيادية وسياسية عدة في هرم الدولة، كان آخرها وزير ثقافة. وهو آخر مناصبه التي تم عزله منها بعد فضيحة أخلاقية. وانتهى مريضاً مهووساً ومجنوناً بهذيان متسلط، داخل قصره، وأكمل مصيره انقلاباً مفاجئاً في قمة هرم الدولة، غيبه نحو مجاهيل مصير غامض غموض طريقة مجيئه إلى ذلك المنصب.
الشخصية الخامسة من حيث الأهمية في الرواية، هي تلك الشخصية الهامشية التي أطلق عليها الكاتب اسم “مدام ريكي” التي لم تنطق بتاتاً، ولم يعطها الكاتب حظاً من الخطاب، (وهو تعريف الشخصية الهامشية التي لا تذكر إلا بالاسم، ولا تتكلم مباشرة إلا على لسان غيرها) بل تكلم عنها شخص واحد هو الصحفي جمال زغلامي وكانت سبباً في طرده من هذه المهنة. إنها شخصية لغز، وهمية، أو بالأحرى مجرد إشاعة أو لقب نفوذ يمثل السلطة التي يسميها الراوي “سلطة مدام ريكي”، كل من تعرض لها (ومنهم الصحفي جمال زغلامي) لحقته اللعنة، وفقد عمله ورمي في السجن.. وقد تكون مجرد اسم مستعار للسطلة الدكتاتورية النافذة في كل القطاعات، تراقب الجميع ولا يراها أحد. تطالهم عصاها، ولا يرون يدها. لذا جعلها الكاتب الشخصية العمودية الوحيدة، التي تنغرز في بداية النص، فقط ثم تتلاشى إلى الأبد، وهو ما يبرر للقارئ أيضاً أن يزيل عنها صفة الشخصية. لتجردها من أهم مقومات تلك الصفة. وقابليتها أن تتقنع بأي كيان آخر.
ثانياً- بناء الشخصيات، بين تعدد الوظائف وتوحد القيم والصفات.
يلاحظ القارئ في بناء الشخصيات ذلك التنويع الحرفي من حيث وظائفها: [السكرتيرة العاهرة: هند /الصحفي الفاشل جمال زغلامي/ غسال الموتى الغامض: علي الغسال/ الوزير المخلوع، مريض الوهم: عبد الحميد/ مدام ريكي شخصية رمزية موجودة بالاسم والهالة المرعبة التي تتخذ وظيفتها السلطوية المتعالية من تخفيها].
تشترك جميع الشخصيات (رئيسية وثانوية وهامشية) في كونها سلبية على مستوى وظائف السرد، أي عديمة المقاومة، عديمة الموقف الثابت، ومترددة. ولا تصنع مصيرها بل تسلمه لقوى عليا لتصنعه وتسيره. أي كلها خاضعة. لا تقول لا، ولا ترفض ما يقدم لها لا ما يُراد لها ولا ما يوجهها. ومن عدم المقاومة واللامبالاة، هذه تتوحد جميع الشخصيات في القيمة السلبية التي تتوزعها بينها على اختلاف وظيفتها. مما جعلها شخصيات منفعلة، صاحبة رد فعل سلبي وموقف هش، وليست فاعلة تصنع مصيرها وقراراتها، ولا تملك حس المقاومة لعوائق عالمها، ولا تحارب أعداءها فهي إما خاضعة لهم، أو هاربة منهم. ولعل الهروب من المواجهة هو أقوى مواقفها عند اشتداد ازماتها.
كما تتوحد جميع الشخصيات في تكوينها البيئي، حيث تنحدر جميعها من المداشر والقرى الريفية، وتلتحق تباعاً بحياة المدينة لتتفسخ هناك وتنحل وتتشرب مأساتها ومعاناتها.
وتتوحد الشخصيات أيضاً على مستوى صفاتها: في كونها جميعاً بائرة مفلسة وفاشلة اجتماعياً وعاطفياً. يعاب عليها أنها تتكلم جميعها بصوت واحد، بأسلوب واحد خارج من ذات واحدة، هي ذات الكاتب التي لم تفلح في الانفصال وتحقيق الآخرية المرجوة في جميع شخصياته التي يسيطر عليها وباء الهشاشة، خطاباً وحركات ومشاهد وردود أفعال، مما يجعل الروائية بأسرها تتقاسم صفتين مسيطرتين على عالمها، وهما: السلبية على مستوى الشخصيات، والهشاشة على مستوى عوالمها وأفعالها. إلى درجة تتطابق فيها حياة ومعاناة وفشل شخصيتي: جمال زغلامي وعلي الغسال، كأنهما شخص واحد. حتى في طريقة عشقهما لهند. ونظرتها لكليهما، كأنه عشق لشخص واحد، ومسارهما الفاشل اجتماعياً زواجاً وطلاقاً، وطريقة التحاقهما بخدمة الوزير.. حياة ومسيرة متطابقة حد التماهي والذوبان، حتى ليخيل إليك أنك أمام شخصية واحدة بوظيفتين واسمين فقط.
تتكثف مأساة هاتين الشخصيتين (جمال والغسال) في طبيعة عملهما، أو في فشل وزاجهما، أو في انتقالهما العبثي إلى قصر الوزير المخلوع من اجل مهمة واحدة هي كتابة سيرته ويومياته، لا تقاس بمأساة هند التي تدرجت في سلم العهر، منذ خرجت من دوارها، إلى أن فرت بجلدها من القصر، وملاحقة عصابة الانقلاب لها، حتى بعد تخفيها وتنكرها بعدة طرق، ولعل حملها غير الشرعي منهم الذي انتهت الرواية بالإحالة عليه حين انقطعت عنها الدورة الشهرية، كان آخر الآثمان التي دفعتها السكرتيرة العاهرة هند، وهي تبوح بكل حمم مأساتها للصحفي جمال زغلامي الذي طلبها للزواج وهي في تلك الحالة المتقدمة من التردي والانحطاط. وبوح المحتضر الذي لم يبق لديه ما يخسره.
والسؤال الذي بقي معلقاً بعد نهاية الرواية، لماذا جعل الكاتب عنوان الروية باسم شخصية جعلها ثانوية جداً في السرد: (الغسال)، بينما همش من العنوان الشخصية التي منحها البطولة في متن النص (هند) ؟؟
ثالثاً- مورفولوجيا النص، وحدود التجنيس:
لا تعتمد رواية الغسال على راوٍ واحد يسرد أحداثها في جميع فصولها، بل تتقاسمها الشخصيات الأربعة (جمال زغلامي/ علي الغسال/ الوزير المخلوع/ السكرتيرة هند)، وكل شخصية تروي في فصل خاص بها سيرة حياتها منذ ولادتها وحتى موعد الانقلاب على الوزير الذي جمعها، لتتشتت بفعل ذلك الانقلاب وتعود من حيث أتت؛ إلى قراها ومداشرها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه على القارئ هنا: أي رابط (وظيفي) يجمع تلك الشخصيات، عدا اجتماعها حول خدمة الوزير؟؟ لا شيء طبعاً..
إن انعدام أو تلاشي الروابط الوظيفية والمنطقية بين الشخصيات التي تروي لنا كل واحدة سيرة حياتها في فصل خاص، جعلت من هذا النص يتلخص في أربع سير شخصية منفصلة وظيفياً، في أربعة فصول منفصلة بدورها، لا يجمع بينها سوى علاقتها المباشرة بشخص الوزير المخلوع. مما يجعل هذا النص أقرب إلى المجموعة القصصية (التي تفرد كل شخصية بقصتها المستقلة) منه إلى الرواية. لولا وجود ذلك الرابط الرفيع، بينها وبين الوزير. ومما أضعف هذا الرابط أكثر: أن شخصية الوزير المخلوع التي تجمع الشخصيات وسيرهم حولها، هي بالأساس شخصية ثانوية.
ولعل أصدق وصف على هذا النص هو رواية بأربعة قصص منفصمة. تتفرد كل قصة ببطلها وحياته ووظيفته الخاصة، وتتوحد في اجتماع وتفرق أقدارها حول وزير مخلوع.
رابعاً- تيمة السرد بين الكلاسيكية والحداثة:
تؤكد القصص الأربعة المنفصلة للشخصيات الروائية، على موضوعين رئيسيين، أحدهما قديم كلاسيكي يتمثل في مآسي انتقال المواطن الريفي إلى المدينة، وتفجر الأسرة النووية (العائلة المتعددة الأسر التي يحكمها الأب او الجد الواحد). أو مشكلة التمدن الإنساني بالتفسخ القيمي.
أما الموضوع الثاني فهو حداثي بامتياز، يتأسس على طبقتين متآكلتين: طبقة أولى قاعدية هي فئة الشعب الهش الذي أنهكه التحول من الريف إلى المدينة، وأتعبته دوامة الانتقال بين الوظائف المؤقتة الهشة، مما رفعت من حساسية هذه الفئة الشعبية، ولا مبالاتها وخفتها، وأضعف مناعتها الثقافية والحضارية والهوياتية، فصار هذا المجتمع يتشكل من كائنات بوهمية، بأحاسيس زومبية. وردود أفعال تقبلية سلبية تجاه أي تهديد طارئ أو أمر فوقي، شخصيات غير مكترثة بما يقابلها، لا يخيفها شيء، وفي الوقت نفسه لا تقاوم شيئاً ولا تملك وسائل للمقاومة، ولا تهم بها، وهي فكرة وصورة حداثيتين، وتفكيكيتين، لعنف الحضارة التي أنتجت إنساناً زومبياً، عديم الخوف وعديم اللامبالاة والاكتراث في الوقت نفسه. تتمثل صلابته في هشاشته، ومقاومته في وعيه بعدم جدوى مقاومته، وانعدام مناعته. فتأقلم جسمه المريض الموبوء مع جميع الجراثيم والأمراض التي تجتاحه يومياً، كياناً وروحاً وأخلاقاً دون أن يعبأ بفكرة مقاومتها.
وقد أدى هذا الوضع -في الوقت ذاته- إلى حدوث مفارقة غريبة؛ إذ استحالت جائحة انعدام المقاومة إلى ضرب من المقاومة والمناعة المتشكلتان أصلاً من تآلف الذات مع الجراثيم والأوبئة، وصارت هشاشة الإنسان أمام عالمه ومجتمعه وسياسته معضلة حقيقية للسطلة، التي بدأت بدورها تتآكل لأن كل وسائل تسلطها لم تعد تلقى مقاومة ولا تمثل خطراً على أفراد مجتمع تأقلم وجوده مع كل الأوبئة التي هي محيطه، ومصدر حياته، ولم يعد يرعبه منها شيء..
وهكذا تنبني إشكالية الرواية من تفسخ كل الإشكاليات، وتولد قوة سردها من هشاشة عالمها، وشخصياتها، وتصوغ حبكة الرواية وعقدتها، من تفكك العالم الذي ترويه، وانحلال روابطه وخفة مفاهيمه.. وهذه بالأساس إحدى الإشكاليات التي انبنى عليها الفكر الروائي حسب جورج لوكاتش في كتابه نظرية الرواية: (توحد حبكة النص الروائي من صلب تفكك عوالمه).
وهو ما ينقذ روائية هذا النص وأصالة فكرته، رغم ذلك الانفصام شبه الكلي بين فصوله وقصص أبطالها، لولا تلك الروابط الفكرية الرفيعة التي قد يدرك القارئ منها بعضاً ويغيب عنه ويتلاشى الكثير. في هذا النص الفكري الذي يستوحي قوة بنائه السردي من هشاشة شخصياته وعوالمه. وهي مفارقة سردية تمسك كلاسيكية السرد بخيط متين واحد، وحداثته بخيوط رفيعة عديدة.