الشاعر التونسي ينزع في ديوانه للغوص في أعماق الكائنات الصوامت والبوح بخباياها.
الناظر في مدونة شمس الدين العوني الشعرية على كتابة تضرب في مهمة اللغة وتنفذ إلى عميق الدلالات تشكلها على أنحاء متفردة تمنح النص وجود الجدة والإطراف. ومن آياتها ديوانه البكر “أمجد الهذيان” الذي نزع فيه إلى التعبير عن هموم الذات وهواجس الأمة بلغة لا تسكن إلى المألوف وتأبى إيقاع التفعيلة وتخيل صور الأعهد للذائقة التقليدية بها وإن استرفد بعضا مما جادت به فرحة رواد الشعر العربي الحديث.
وقد مكن هذا الديوان البكر صوت الشاعر من البروز في زمن سادت فيه أصوات شعرية تونسية وعربية متميزة.
إن الشاعر ينتقض على مقومات البيان كما عهدناها في البلاغة التقليدية ليجعل الكلام الشعري قادرا على كسر أطواق السائد وارتياد فضاء الجنون الخلاق: فينحت للهذيان الذي ترفضه النظم السائدة والسنن المتكلسة سبيلا إلى بوتقة الأدب ويصبح الهذيان رديفا للقول الحكيم وهكذا يسهم الشعر في تغيير المفاهيم والشاعر في قلب المعادلات وإعادة بناء العالم.
أما ديوانه الأخير “حدائق الشمس” إنما نتبين منزعا مختلفا في خلق “كوسموغونيا” جديدة وإنشاء عوالم ممكنة متخيلة تتداخل فيها عناصر الطبيعة وتتصادى وتتقاطع.
يجمع في لغة استعارية بين الخصب والنور جمعا يدعوك إلى رؤية الكون بعين الرؤيا فترفع عنك غشاوة الألفة والمعتاد وتفتق من الطبيعة عناصر جديدة ذات أبعاد أسطورية للشمس في نظام الشاعر التخييلي حدائق تجعلها بمرتبة الفضاء الفردوسي الذي بنوره على الكوني.
ولا يخفى على من قراء دواوين العوني منجمة أو مجتمعة هذا الخيط الرهيف الذي لا ينجلي إلا بعد القراءة الفاحصة المتدبرة ومداره على إيحاء الشجر ومفرداته ومعانيه الثواني المعطوفة على القدسي الفردوسي والظلال الملاذ والخصب الولود والتجذر في الثرى رسوخا في التاريخ والبعث.
وهذه الدلالات مبثوثة في قصائده تشدها إلى قاع أسطوري وتضفي عليها جمالية لا تخلو من متعة وإلذاذٍ.
وهاهنا معقد الاشتغال على ديوانه المرتقب “من سيرة البستاني”، فكيفما كانت المداخل إليها طالعك “الشعر معجما وتصويرا وتدلالاً ورمزا يحتكم القصيدة نسيجها ومبناها مثلما قد يكون لبنة لا غير من لبنات النص تثريه وتفتحه على أفاق متشعبة. ومن الصنف الأقل يمكن أن نشير إلى قصيدة ومضة وسمها بعنوان “الشجرة”. عنوان صيغ على هيئة العبارة المعرفة بالاف واللام الاستعرافية الاطلاقية للدلالة على جوهر لا عرض جوهر الشعر منذ القدم.
إن العنوان على إنجازه يكثف الدلالة وينتج الايعاء الذي يرسم أفق التوقع ويستدعي ذائقة التقبل إلى الانتباه إلى الوشائح القائمة بين العنوان والمثنى.
وقد يذهب في الظن أن القصيدة من فئة القصائد الموجهة للأطفال ولكن إنعام البحث في طبقاتها يمنحك اليقين بأنها تجبر عن تراجيديا موغلة في القدم “مثل جدة قديمة” “الشجرة تحكي شجنها للأغصان”
“تقص نواحها الخافت على الأوراق
هي تفعل كل ذلك
بينما حطابون ينعمون بموسيقى الفؤوس”
واللافت أن الشاعر يخلع على الشجر بعض خواص الإنسان “تحكي” و”تقص” فيؤنسها ويمنحها القدرة على التعبير عن العواطف والأحاسيس في غنائية قوامها البوح بالمأساة.
وتشف عن هذا المعنى عبارات من قبيل “شجن” “نواح” “الحافت”. ولعل هذا الخفوت يعبر من عجز الشعر عن العبارة فتتعلق على ذاتها وتظيل ماساتها حبيسة الأغصان والأوراق لا تتجاوزها إلى غيرها إن هذا الصوت المكتوم ينطفه الشاعر في فضاء القصيدة فتعدو مجالا لمكاشفة محنة الكائنات الطبيعية في عالم يقهره الإنسان وتغزوه المنافع والمطامع فيصبح الشعر نبض الألوان.
وبالمقابل تتأسس غنائية البهجة احتفاءً بالموت والعدم والقتل يمارسه الحطابون”.
وهكذا تبنى جمالية القصيدة المماثلة أولى بين الشجرة والجدة عنوان عراقة وأصالة ورسوخ في تربة الذاكرة والتاريخ وعلى مقابلة ثانية بين قطبين متضادين الطبيعة والإنسان والحياة والموت والخصوبة والجذب والجمال والقبح.
إن شمس الدين العوني لا يهتم كثيرا بتزويق العبارة وتجميل الخطاب بفنون البلاغة والبديع بل يهمه إيقاع الصور وموسيقى الأفكار. ولعله بذلك يدعو القارئ العربي اليوم إلى التعامل النقدي مع النص الشعري بذائقة مختلفة يعتفي بطرائق تشكيل المعنى والنفاذ إلى طبقاته العميقة دون الهوس بجمال العبارة واللعب اللغوي والتمني في التصوير حد التصنيع.
وقيمة هذا الأسلوب في الكتابة أنه يعبر عن مشاغل العصر والقضايا الحارقة الراهنة بلغة العصر باعتماد التكثيف والانحناء والترميز اعتمادا استهدى بفن الأقصوصة ولا تخلو القصيدة من سردية أسهمت في بناء شرعية النص وخلقت دلالات معاصرة مفادها الصراع بين الطبيعة والإنسان.
إن هذه القصيدة التي تحكي تراجيديا الشعر تحاورها في الديوان قصيدة بعنوان “قالت أمي (فاطمة)” تمثل منها الوجه الآخر إنها الملحمة ملحمة الإنسان في الوجود يقول: “كن لحنا أبديًا
مثل أمك وأبيك
لا تدع قلبك نهر حجر
جهز ضلالك للاخرين
وكمن حليف الشجرة”
ما به يتفرد هذا النص على إيجازه وقرب العبارة فيه ودلالة اللفظ على المعنى دون مواربة أو غموض اتخذاه شكل القصيدة الوصية هي بمثابة الشعار يرفعه صوت الشاعر صرخة مدوية للإنسانية جمعاء.
لا تعنى بالشجرة علامة على الطبيعة والبنة فقط بل رمزا لمعاني شتى متراكبة متضافرة ينشد بعضها اللا رقاب بعض. الخصوبة والحياة والولادة والرعاية والحماية والجمال والقداسة والألفة بين الالاّف.
ومتى يهمنا إلى الصنف الثاني من القصائد حيث الشجرة مكون من مكونات الكون الشعري وعنصر من عناصره العديدة انتبهنا إلى تواتر صورة شعرية يضفي بمقتضاها على الشجر مشاعر الألم والالتياع. يطالعنا قوله في “من يسأل؟”
من بوسعه أن يسأل عصفورا
عن أحواله
بستانيا عن أيامه
طفلا عن لعبه
ومن في وسعه أن يسأل
فأسا عن دموعها وعن
أشجان الشجرة”
يبدو الشاعر كلفا بصورة الشجر المتألم وكأن تعبر في تقديره عن مأساة العالم. وكأننا بالشاعر نزّاع إلى استكانه لكائنات الصوامت والبوح بخباياها. فيصبح الشعر صرخة الكائنات ولغة الشاعر موسيقاها التي على العالم أن يصغي إليها.
أو انظره في نص انتبني على افتراض ممتنع “مذا لو …” “أن تتخيل شجرة تحظر مسرحية وبأغصانها لوعة الفراق”
صورة شعرية طريفة غريبة تكاد تلامس العجيب وتزفك في عوالم الفانتستيكي وهذا نهج في نحت القول الشعري تعزز في الدواوين الأخيرة للشاعر حتى الفيناه يبحث عن الاتيان بصور غريبة تسم النص بالغموض وتلك من خصائص الحداثة الشعرية لا ريب.
والذي شدنا في قصيدة عنوانها مبتور “يعزف” الجمع بين الصمت والشجر على نحو لا يجعل القراءة ميسورة من الوهلة الأولى “هو يعزف أبجديات الصمت
يبحث لها عن وطن في جسده
ينحت لها جاهدا
شجرة يسميها احيانا الوقت”
في الظاهر يعسر أن نجد الروابط بين الصمت وشجرة الوقت ولكن رفع الحجب عن المداليل المعجمية إلى المعاني الرمزية الحافلة بالإيحاء قد يفضي بنا إلى أن عازف أبجديات الصمت بحاثة عن وطن لهذه اللغة الجديدة وعن عائلة لها واصل وتاريخ. فالصمت لا يعني عند الشاعر الاستكانة والخضوع والعجز عن الكلام والمواجهة بل هو ضرب من ضروب الإقامة في الكون ورؤيته إلى العالم.
ألم يقل في ديوانه “سيكون هناك سبب”
“الصمت نصف المعجزة” وفي مقام آخر يمجد الصمت
“لا أجد أرحب
من الصمت
في هذا … الضيق”
هذه إطلالة أولى ابينا فيها الصمت عن جمالية الخطاب الشعري الذي يكتبه شمس الدين العوني بلغة متفردة تنحو منحى قصيدة النشر. ولكنها لا تعلى تجاوز الكثير من مازقها ومشاقها.
يهتم بالإيقاع ولكنه يحفل أكثر بإيقاع الفكرة وموسيقى المعاني.
وميزة ما يكتب نفاذه إلى بناء تصاوير مخيلة تسبر أغوار الكائنات وتقيم بينها الكائنات وتقيم بينها علاقات لا يقدر على استبانتها واستشفافها الا الشعراء ديوان جدير بالقراءة والمحاورة والنقد.