في تشكيل البسيط إيقاعا وجوديا لا وزنا صوريا ، تشكلت سيمياء الكتابة الشعرية عند الشاعر “معين الكلدي” ماتحةً عالمها الزئبقي من قدرة المتكلم على رسم أيقونات الوجود في جبّةٍ ماكرة، تنسج صوفها من الاختلاف العامر، و تخترم فعل التصوف التقليدي الباني نسقه العرفاني على فكرة الحلول، إلى نسق عرفاني يشيد أبراجه السديمية على فكرة التعدد.
تقوم القصيدة على فكرة الأنا و الآخر، في عملية تفاعلية، تروم تأسيس الفرادة النوعية في اقتراف الجمال الشعري خارج البداهة.. و فيها يبدو الشاعر مسكونا بالرغبة في تكسير الشبه و الرتابة، و بناء نسق شعري صوفي يمجد التعدد المبأّر في الذات لا خارجها، بحيث تبدو الذات قطب دوران و هي تستقطب الوجود في أتونها الحارقة و الشافية في آن.
تتجلى هذه الذات غير ماسكة لأزمّة الوجود في أقانيمه المتغيرة، وهي تحاول القبض على المعنى ، لكنها تقنع بالعَرَض في انتظار استكمال دورة التجلي في اتجاه الجوهر… قال الشاعر في سياق الختم “أو أنتهي عرضا”.. من هنا نفهم موضوعية المتكلم و هو يرسم وجوده الصوفي في دوائر النقص لا ادّعاء الكمال، قال في سياق البدء “بعض التصوف” ولم يقل كل التصوف، على اعتبار تفسيرين: الأول أن بعضه الآخر دفين في متاهات الذات، لا يبين إلا لذي نظر، والثاني أن الذات لا تمتلك المعرفة وحدها وتحتاج إلى الآخر كي يستكملا معا دورة العرفان المبني على نسق التعدد والإيمان بالاختلاف.
لكن كيف يتجلي هذا التصوف؟ يحدثنا الشاعر عن إمكان القبض على بعضه في غفلة من الرقابة العقلية عندما يتمظهر الشعر ناياتٍ تستدعي فكرة التصوف.. عندها فقط يرضى التصوف، و ينبري مائلا جذلانا، قرير العين.. التصوف و الشعر توأمان يتساكنان في جدل سديمي، و الواحد منهما يتلبس الآخر في جلال نوعي..
لندرس بعض العلامات حتى نتمكن من تأويل سيمياء القصيدة في غير ليّ لأعناقها التعبيرية، ونستثمر مقولاتٍ لسنيةً وضعها الشاعر بمكر دقيق، ويتعلق الأمر بـ “الرئة – العقل – القلب – الأرجل – الصوت” و هي فيما يبدو مقولات نازلة من سيمياء الجسد الفيزيائي يوظفها الشاعر في انزياحات ذكية ، تروم العوم بها في تشكيل المجرد، و أعني التصوف، داخل نسق ذهني قريب من المتلقي وفي تعبير جمالي لا يبتذل الكلام، و يشيّئُ المعنى المتخيل تشييئا مبتسرا بليدا.. الشاعر يمسك بالعبارة و يروضها في اتجاه التمثيل لا المشابهة، وكأني بالشاعر يرغب في تطويع المدرك الجمالي للمتلقي حتى يتسنى له تمثل الدلالة قبل المعنى، والخطاب قبل التعبير، والبعد قبل الأشياء.. من هنا نفهم التصوف كوناً جليلاً قابلاً للتمثل العرفاني خارج التعالي الموسوم بالنخبوية والاحتكار.. ومن ثمّ فالتصوف في منظور الذات المتكلمة إمكانٌ وليس حالاتٍ بالغة التجريد والهروب.
هناك علامة سيميائية أخرى حارقة و بالغة المعنى وقوة المعنى ، قال الشاعر في سياق التحديد الهوياتي ” وحدي كثير أنا بالآهة ” الذات هنا زئبقية حتى الثمالة وهيولانية حتى الانتشاء ، لكن في توتر جليل … ذاك ان الشاعر وسم الذات بالتعدد ، وهو تعدد عامر بالألم ، وهذا الألم ليس نزوعا مازوشيا بقدر ما هو استلذاذ لقوة العشق وسلطانه عندما تتفتت الذات كثيرةً في غيرها وتصبح قادرة على معانقة هذا الغير في سيمياء الحياة ونعمها ومحنها.. يؤكد ذلك انزياح الجمر من حالة الاشتعال الحسي إلى حالة الاشتعال الوجودي في محاريب التصوف .
هذا بعض من الشاعر في قصيدته الجليلة و هذا بعض منّي في مقاربتي المترنحة بين صواب و خطل.. و للحديث بقية،،،
المتن الشعري
بعضُ التصوّف في رئتيَّ أعرفهُ
ما إن هَززتُ رؤسَ الشعر مال رضى
والعقلُ ميدانه والقلبُ أرجلهُ
والحبرُ صوتي الذي في سوحه انتفضا
وحدي وقارعةُ الأيام تُزهِدُني ..
بعالمٍ مَحّضَ التَقريعَ .. إنْ مَحضا
وحدي ..كثيرٌ أنا بالآهة انطلقتْ
لتجمعَ الألمَ المَنسي جَمرَ غضا
مُبعثرٌ بَينَ أنْ ألقى الذي أملتْ..
ملامحُ الشعرِ أو أنْ أنتهي غَرضا