في العقد الأول من القرن العشرين تلقت هارييت مونرو رسالة رفض نشر قصيدة لها من مجلة أدبية أمريكية تدعى «هامبتون». كانت تلك التجربة البائسة في ذهنها، على الأغلب، حين قرّرت أن تتحوّل، وهي في عمر 51 عاما، من ناقدة وشاعرة مغمورة تجاهد لكسب عيشها بالكتابة بالقطعة (فريلانسر)، إلى مؤسسة لمجلة أدبية متخصصة بنشر الشعر.
ظهرت المجلة التي سمتها مونرو Poetry (شعر)، في لحظة تاريخية مهمة، فيما كانت «العناصر اليائسة التي ستغير الشعر الأمريكي تتجمع»، وكان من حسن طالع مونرو أنها نجحت في نشر قصائد مهمة خلال وقت قصير، بحيث أصبحت المجلة، كما يقول شاعر وأستاذ للغة الإنكليزية يدعى أرشيبالد أرنولد، «مرادفا للتاريخ الشعري لأمريكا». ليس غريبا، مع ذلك، أن العلاقة الشائكة بين محرري المجلات الأدبية، والكتاب، التي عانت مونرو من أحد مظاهرها، تبدّت بأكثر أشكالها عنفا في العلاقات التي نشأت بين محرري «شعر» والمراسلين والكتاب المساهمين فيها. لقد تواصلت مونرو، محررة المجلة، على حد تعبير ستيفن والاس، مع «أكثر الأنانيين شراسة: الشعراء». لم يتعلّق الأمر بمواقف هؤلاء الشعراء من مونرو، ومن جاء بعد وفاتها من محررين، بل كذلك بمواقفهم العدوانية والمسيئة لأقرانهم من الشعراء، وإظهارهم أشكال الازدراء لأساليب بعضهم بعضا وكتاباتهم، وبعض الفضائح المالية والعائلية المشينة. وقد شمل ذلك بعض أهم الأسماء الأدبية في المجال الأدبي المكتوب بالإنكليزية. من جهة أخرى، فقد نشأت علاقات صداقة وكتابة طويلة الأمد، امتدّت أحيانا لعقود، مع الكتاب، بمن فيهم بعض العدوانيين، وقد ساهمت مونرو، شخصيا، في مساعدة كثيرين، أدبيا وماليا.
عنف باوند و«بيع الشعراء لأرواحهم»
جمع كتاب «عزيزي المحرر: تاريخ مجلة شعر عبر الرسائل – الخمسون سنة الأولى 1912-1962» لجوزيف باريسي وستيفن يونغ، مراسلات الشعراء والكتاب والنقاد والمراسلين مع مونرو ومن جاء بعدها من رؤساء تحرير. أحد أبرز هؤلاء كان الشاعر الأمريكي الشهير عزرا باوند، الذي عمل مراسلا للمجلة لعقود، وأثّر بشخصيته وآرائه الحادة على تكوينها وسمعتها وطبع جزءا كبيرا من تاريخها. نسب باوند لنفسه الكثير من الفضائل في الوقت الذي حطّ كثيرا من شأن مونرو، وفي فترات الخلاف معها لم يتوقف عن كيل الشتائم لها، واصفا إياها بـ»الخادمة القديمة» و»البغلة العجوز السخيفة» و»الغبية»، وقد نال عنفه كثيرا من أصدقائه، مثل ت. إس. إليوت، الذي نصحها «ألا تأخذ أسلوبه العنيف بجدية كبيرة»، وأنه «هو نفسه معتاد على ذلك».
على الرغم من قدرتها الكبيرة على موازنة كل هذه الشؤون، التي تعززت عبر سنوات العمل مع الشخصيات الصعبة للمساهمين في المجلة، جنحت مونرو أيضا، أحيانا، إلى التعبير بعنف عن بعض آرائها، فكتبت مرة افتتاحية تتحدث عن «بيع الشعراء لأرواحهم» ذاكرةً بعض الشعراء التقليديين كأمثلة، واستدعى هذا التوجه شعراء عديدين لنقد خط المجلة الحداثيّ الطابع. أحدهم مثلا، جون نايهارد، قال إن مونرو حوّلت المجلة إلى «كائن غريب»، فيما قام شاعر، يدعى لويس انتيرماير، بكتابة قصيدة تسخر من تأثير باوند ينتهي كل مقطع فيها بجملة: نجنا من باوند (في استدعاء لجملة «نجّنا من الشرير» الإنجيلية)!
يشير الكتاب إلى مرحلة هاجر فيها العديد من أكثر الشعراء والكتاب موهبة، ويعرض الكتاب رسالة من باريس، كتبها الروائي أرنست همنغواي، مع بعض النميمة على كتاب آخرين مثل جيرترود شتاين، وجيمس جويس، وقد زارت مونرو بعدها باريس للقاء جيل الكتاب الحداثيين، آنذاك، مثل تريستان تزارا، عرّاب «الدادائية»، لكنها، بعد الحرب العالمية الأولى، ركزت على الشعر الأمريكي المحلّي منتقدة «الاستعمار الثقافي الأوروبي»!
من الإنكليزية للعربية: تناسخات!
فتحت مجلة «شعر» الأمريكية، منذ صدورها، عام 1912، الباب لقصيدة النثر، ما جعل الشعر التقليدي الموزون والمقفى (ومعه السيولة العاطفية) يتراجع لصالح ما يسمى، بالإنكليزية، الشعر الحرّ، ويخيّل لقارئ الكتاب، حين يستذكر تاريخ كتاب أمريكا المهاجرين لأوروبا، والصراعات التي جرت بين الشعرين التقليدي والحديث، أنه يعيش ما يسمى بالمصطلح الفرنسي déjà vu (الشعور بأنك ترى شيئا حصل معك سابقا). سنجد تشابهات من كثير من الوقائع والأحداث (والشخصيات) في تاريخ الشعر العربي، وستذكرنا صراعات التقليديين والمجددين على المجلة بالصراعات التي حصلت عربيا بعد خمسين عاما تقريبا من حصولها في أمريكا، بين المتعصبين للشعر العمودي، ومجددي شعر التفعيلة، والثائرين في قصيدة النثر. مفيد هنا ذكر خطة العمل المالية التي كتبها أحد رجال الأعمال لمونرو، وتتلخّص بجمع مئة اشتراك لخمس سنوات، وبالاعتماد على رعاة ضامنين لملاءة المجلة المالية، وهو ما نجحت مونرو في فعله لكن ليس من دون جهد هائل. يشرح الكتاب تفاصيل لقاءات مونرو الكثيرة بأصحاب شركات ومتمولين ورجال أعمال ومؤسسات راعية للفن وجامعات ومكتبات، ويقدّم شاعر زار المجلة في سنواتها الأولى، صورة تشرح صعوبة تدبّر المجلة لأوضاعها، حيث يلتقي مونرو ليجد المصحح، وهو شاعر أيضا، يضع قدميه على مكتبها من دون أن يردّ تحية الضيف، معلّقا على المشهد بأنه لم يكن يتصوّر درجة الروح «الجهادية» (استخدم تعبير الصليبية) التي تتمتع بها المحررة، كما يبين الكتاب كيف كانت مساعدة رئيسة التحرير تفتح بيتها لاستقبال بعض الزوار، في تعبير عن الإخلاص للمجلة، وتوفيرا للنفقات!
الحياة الخاصة للأدب
عانت المجلة طويلا لتأمين استمرارية ميزانيتها المالية، لدفع مرتبات مراسليها، وكذلك لمتابعة مبدئها في دفع مكافآت مالية للشعراء، الذين كان كثير منهم يعتمد عليها للعيش، ويُلحفون في الطلب عليها. يقول «عزيزي المحرر» إن الشعراء كتبوا قصائد لا تحصى عن الأعطاب النفسية، والانتهاكات الجنسية، لكنهم نادرا ما ذكروا إشكالاتهم المالية في أشعارهم، مع أن جزءا كبيرا من رسائلهم كان عن متاعبهم المالية بشكل يظهر أنها كانت سبب الإحباط الأكبر لديهم. رغم المتاعب المالية، وفي أسوأ ظروفها، لم تتوقف المجلة عن إرسال المكافآت للشعراء المساهمين، واستطاعت المطبوعة الشجاعة أن تكون الناجية الوحيدة عام 1929 من موجة إغلاق طالت باقي المجلات، لقد تم إنقاذ «شعر» بسبب تأثيرها الأدبي المتراكم، وجهود مونرو الذكية، كما عبر قيام جرائد كبيرة بالدعوة لدعمها، وبعد وفاة مونرو، رفض العاملون في المجلة، وأصحاب الاشتراكات، والشعراء أنفسهم، أن تنتهي، واستمرت جهودهم للإبقاء عليها. يلخص تعليق كتبه الروائي والشاعر البريطاني د. هـ. لورانس (صاحب «عشيق الليدي تشاترلي” و”نساء عاشقات” وغيرها)، الرأي في مونرو حيث يقول: «حين أشاهد كل هذا التفهم والمعاناة والذكاء النقيّ الضروري لاستقبال الشعر، عندها أعرف أن مجرد نشر كل هذا، وخصوصا في مجلة، هو أمر أقرب للاستحالة».
يقدّم «عزيزي المحرر» فرصة شائقة لقراءة كيفية تشكّل التاريخ الأدبيّ، وطرق تفاعل علاقات الأدب بالنخب والمؤسسات والمجتمع، وتعرض مراسلات المجلة القصص والأحداث التي لا تشكل حياة المجلة فحسب، بل تشق، في الوقت نفسه، طريقا للأدب وحياته الخاصة.