أثناء فترة انتشر بها وباء الكوليرا في مصر فقتل من أهلها من قتل، وشاع الخبر في الوطن العربي وحزن العرب على أهل مصر. و في مساء ليلة ممطرة تدخل فتاة على عائلتها الجالسين بغرفة الاستقبال بجانب المدفئة وبيدها ورقة، ترفع الفتاة ورقتها أمام الجميع قائلة” لدي قصيدة جديدة، هذه القصيدة مشكلة جديدة من مشاكل ديواني المنحوس (شظايا)” وبدأت تلقي قصيدتها قائلة:
الكوليرا
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ الكوليرا
حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداءْ
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
وحين تنتهي الفتاة من قصيدتها التي عبرت فيها عن حزنها تجاه أهل مصر، تجيبها أختها إحسان قائلة: “إن عشاق الشعر الأوروبي سيفهمونها ولا شك”.
أما أبوها “أبو نزار” فيقول: “ماهذا الشعر الجنوني، إنه هذيــان، أين الوزن، أين القافيــة، ما معنى: الموت الموت الموت” ؟!
أما أمها الشاعرة “أم نزار” فتقول: “لقد قرأت القصيدة اليوم إنها أشبه بالشعر المنثور مع أنها لا تخلو من وزن غريب “
فيقول أبوها “أبو نزار”: من سيقرأ هذا؟ّ! أنا والعراقيون الذين اعتادو رصانة المتنبي وجزالة البحتري؟إنك لن تستطيعي الخروج على الذوق العربي”.
أما كاتبة القصيدة، الشاعرة نازك الملائكة والتي ستصبح فيما بعد أول شاعرة تنظم الشعر العربي الحديث فتقول: “لقد قلت لكم إن الجمهور سيضحك مني ولكني مع ذلك واثقة أن هذه القصيدة ستكون بداية عصر جديد في الشعر العربي”.
ومن العراق موطن الأصالة والعراقة امتد هذا الشكل الجديد للشعر العربي ليغمر الوطن العربي كله، فما هذا الشعر الجديد وكيف نشأ ولماذا ظهر؟ هل سئم الشعراء العرب -الذين يُلقبون بين الأمم بأمراء الكلام- الشكل القديم للشعر والذي تكلم على صنفه فحول الشعراء العرب من شعراء الجاهلية وحتى شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد.. أم سئموا بحور الشعر الخليلي (نسبة للخليل بن أحمد واضع علم العروض التي تنظم موسيقى الكلام في الشعر العربي)؟
الشعر الحر أم الحديث
خلال محاضرة في جامعة وهران عام 1976 عن شعر لبيد بن ربيعة، وقف المستشرق الفرنسي أندري ميكائيل عند بيت من معلقة لبيد، وأطرق رأسه طويلا ثم رفعه فجأة قائلا: “أقسم أن هذا البيت من الشعر حديث جدا”.
حيث يذهب الناقد العراقي عبد الهادي محبوبة أن الشعر العربي لم يكن يوما شعرا ساكنا متحجرا؛ بل امتلك من المرونة ما سمح له أن يتطور باستمرار، حيث طرأ على الشعر العربي تجديدات في المضمون والشكل امتلأت بها سجلات تاريخه “فلم يمر على الشعر الجاهلي قرن واحد حتى دخلته أغراض جديدة بظهور الإسلام، ووجدنا الشعر السياسي مثلا عليه، ولم تمر مائة عام أخرى حتى بدأ عهد جديد دعاه النقاد بعصر الشعراء المحدثين قبال القدامى؛ لما دخل على الشعر من اتجاهات جديدة في الصياغة وأساليب التعبير على يد أبي نواس وأبي تمام، وبشار بن برد ومسلم بن الوليد، وابن المعتز وابن هرمة والشريف الرضي وسواهم”.
وفي الوقت نفسه كانت هناك محاولات تجديد في العروض “بدأ بها أبو العتاهية فنظم بأوزان لم تعرف قبله.. كما حاول هو وآخرون الخروج على قاعدة القافية الموحدة، بل أمعن بعضهم في التحرر من عمود الشعر فقال أبياتا من غير قافية.. بينما حدثت حركة في الشكل دفعت إليها الآفاق الحضارية الجديدة، قام بها شعراء الموشحات في الأندلس، وهي انطلاقة تطورية خرج بها أصحابها عن سنن الشعر القديم فنوعوا الأوزان والقوافي في القصيدة الواحدة وكان لها أثرها في كل حركة تجديد جاءت بعدها”.
لكن الشاعرة نازك الملائكة توضح أن الشعر الحر حركة جديدة “جابهها الجمهور العربي أول مرة في هذا العصر.”نقول هذا ونحن على علم بما يذهب إليه بعض الباحثين الأفاضل من أنها تجد جذورها في الموشحات الأندلسية، وفي البند الذي أبدعه شعراء العراق في القرنين الماضيين أو قبلهما بزمن يسير.
حيث كانت بداية هذا الشكل الجديد من الشعر والذي أصبح يسمى “الشعر الحر” سنة 1947 في العراق، ومن العراق بل من بغداد نفسها؛ زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت -بسبب تطرف الذين استجابوا لها- أن تجرف أساليب الشعر العربي الأخرى جميعا.
فكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر هي قصيدة الشاعرة نازك الملائكة المعنونة بـ”الكوليرا” وكان مطلعها:
سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
وبعدما نُشرت هذه القصيدة في بيروت ووصلت نسخها إلى بغداد في أول ديسمبر/كانون الأول 1947، ظهر في النصف الثاني من الشهر نفسه ديوان الشاعر بدر شاكر السياب “أزهار ذابلة” وفيه قصيدة حرة الوزن له من بحر الرمل عنوانها “هل كان حبا” وقد علق عليها في الحاشية بأنها من “الشعر المختلف الأوزان والقوافي”، ويقول فيها:
هل يكون الحب أني
بت عبدا للتمني؟
أم هو الحب اطراح الأمنيات؟
والتقاء الثغر بالثغر ونسيان الحياة
كانثيال عاد يفنى في هدير
أو كظل في غدير
بيد أن ظهور هاتين القصيدتين لم يلفت نظر الجمهور حينئذ، وفي صيف سنة 1949 صدر ديوان الشاعرة نازك الملائكة “شظايا ورماد” وقد ضم مجموعة من القصائد الحرة، حيث بينت نازك الاختلاف بين هذا الشكل الجديد وبين أسلوب الشطرين القديم.
وما إن خرج ذلك الديوان حتى قامت له ضجة كبيرة في صحف العراق، وأثيرت حوله مناقشات حامية في الأوساط الأدبية في بغداد، حيث تحكي الشاعرة نازك الملائكة أن كثيرا من المعلقين كانوا “ساخطين وساخرين يتنبؤون للدعوة كلها بالفشل الأكيد، غير أن استجابة الجمهور الكبير كانت تحدث في صمت وخفاء خلال ذلك، فما كادت الأشهر العصيبة الأولى من ثورة الصحف والأوساط الأدبية تنصرم حتى بدأت قصائد حرة الوزن يكتبها شعراء يافعون في العراق ويبعثون بها إلى الصحف “وهكذا بدأت الدعوة تنمو وتتسع.
أما في مارس/آذار 1950 فصدر في بيروت أول ديوان لشاعر عراقي جديد هو عبد الوهاب البياتي وكان عنوانه “ملائكة وشياطين” وفيه قصائد حرة الوزن، تلا ذلك ديوان “المساء الأخير” لشاذل طاقة في صيف 1950 ثم صدر “أساطير” لبدر شاكر السياب في سبتمبر/أيلول 1950 وتتالت بعد ذلك الدواوين، وراح بعض الشعراء يهجرون أسلوب الشطرين هجرا قاطعا ليستعملوا الأسلوب الجديد واشتد الهجاء بين الفريقين وتبادلوا التهم.
ويذهب النقاد وأصحاب العمود الشعري ذي الشطرين أن التجديد في الشكل الشعري ليس أمرا مستحدثا في تاريخ الشعر العربي، حيث عرف الشعراء الموشح والمواليا والدوبيت والزجل، وقد عاش الموشح والزجل عصرهما الذهبي، “فظن الناس بعد أن استخلصوا بعض أطرهام الموسيقية أن المستقبل لهما.. ووقف بعض المتحنثين موقف الرفض، فقد أضرب عنها صفحا ابن بسام الشنتريني في كتابه الذخيرة، وكذلك قريعه الفتح ابن خاقان، مرتئين أنهما من هابط الكلام الذي لا يدون في الكتب ذوات القيمة، وظن الناس بعد شيوع هذين اللونين أن الزمن والمستقبل لهما، وكذبت الأيام هذا الظن”.
لكن الشاعرة نازك الملائكة لها رأي آخر، حيث ترى أن المشهور والمحفوظ من الموشحات الأندلسية “يقوم على أساس المقطوعة، ويحافظ على طول ثابت للأشطر، وحتى إذا تساهل بعض التساهل في الطول، فإن ذلك يجري في حدود معينة تجعل الموشح أبعد ما يكون عن الشعر الحر، وإنما الشعر الحر شعر تفعيلة، بينما بقي الموشح شعرا شطريا”.
الشعر الحر.. حرية التفعيلة
حين وضع الخليل بن أحمد (المتوفى 75هـ) قواعد العروض العربي القديم، فإنه استقرأها من الشعر العربي المسموع، فحصر الأوزان المعروفة جميعا ووضع لها مقاييس عامة وشاملة سماها البحور، ثم تناول التغييرات التي تعتري تلك البحور، والتفريعات عنها، واستخلص لها كل القوانين التي تلبي حاجة الشعر والنقد في زمانه.
بيد أن ظهور هاتين القصيدتين لم يلفت نظر الجمهور حينئذ، وفي صيف سنة 1949 صدر ديوان الشاعرة نازك الملائكة “شظايا ورماد” وقد ضم مجموعة من القصائد الحرة، حيث بينت نازك الاختلاف بين هذا الشكل الجديد وبين أسلوب الشطرين القديم.
وما إن خرج ذلك الديوان حتى قامت له ضجة كبيرة في صحف العراق، وأثيرت حوله مناقشات حامية في الأوساط الأدبية في بغداد، حيث تحكي الشاعرة نازك الملائكة أن كثيرا من المعلقين كانوا “ساخطين وساخرين يتنبؤون للدعوة كلها بالفشل الأكيد، غير أن استجابة الجمهور الكبير كانت تحدث في صمت وخفاء خلال ذلك، فما كادت الأشهر العصيبة الأولى من ثورة الصحف والأوساط الأدبية تنصرم حتى بدأت قصائد حرة الوزن يكتبها شعراء يافعون في العراق ويبعثون بها إلى الصحف “وهكذا بدأت الدعوة تنمو وتتسع.
أما في مارس/آذار 1950 فصدر في بيروت أول ديوان لشاعر عراقي جديد هو عبد الوهاب البياتي وكان عنوانه “ملائكة وشياطين” وفيه قصائد حرة الوزن، تلا ذلك ديوان “المساء الأخير” لشاذل طاقة في صيف 1950 ثم صدر “أساطير” لبدر شاكر السياب في سبتمبر/أيلول 1950 وتتالت بعد ذلك الدواوين، وراح بعض الشعراء يهجرون أسلوب الشطرين هجرا قاطعا ليستعملوا الأسلوب الجديد واشتد الهجاء بين الفريقين وتبادلوا التهم.
ويذهب النقاد وأصحاب العمود الشعري ذي الشطرين أن التجديد في الشكل الشعري ليس أمرا مستحدثا في تاريخ الشعر العربي، حيث عرف الشعراء الموشح والمواليا والدوبيت والزجل، وقد عاش الموشح والزجل عصرهما الذهبي، “فظن الناس بعد أن استخلصوا بعض أطرهام الموسيقية أن المستقبل لهما.. ووقف بعض المتحنثين موقف الرفض، فقد أضرب عنها صفحا ابن بسام الشنتريني في كتابه الذخيرة، وكذلك قريعه الفتح ابن خاقان، مرتئين أنهما من هابط الكلام الذي لا يدون في الكتب ذوات القيمة، وظن الناس بعد شيوع هذين اللونين أن الزمن والمستقبل لهما، وكذبت الأيام هذا الظن”.
لكن الشاعرة نازك الملائكة لها رأي آخر، حيث ترى أن المشهور والمحفوظ من الموشحات الأندلسية “يقوم على أساس المقطوعة، ويحافظ على طول ثابت للأشطر، وحتى إذا تساهل بعض التساهل في الطول، فإن ذلك يجري في حدود معينة تجعل الموشح أبعد ما يكون عن الشعر الحر، وإنما الشعر الحر شعر تفعيلة، بينما بقي الموشح شعرا شطريا” (7).
الشعر الحر.. حرية التفعيلة
حين وضع الخليل بن أحمد (المتوفى 75هـ) قواعد العروض العربي القديم، فإنه استقرأها من الشعر العربي المسموع، فحصر الأوزان المعروفة جميعا ووضع لها مقاييس عامة وشاملة سماها البحور(7)، ثم تناول التغييرات التي تعتري تلك البحور، والتفريعات عنها، واستخلص لها كل القوانين التي تلبي حاجة الشعر والنقد في زمانه.
لكن بعد ظهور حركة الشعر الحر متوجة تاريخ التطور في موسيقى الشعر العربي، ارتأت الشاعرة نازك الملائكة أن تصنف أشكال الشعر العربي، لتوضح مكان الشعر الحر في مصفوفته، فقسمت نازك الشعر العربي إلى ثلاثة أقسام:
أولها: أسلوب البيت أو الشطرين، ومنه أكثر الشعر العربي، وهو شعر ذو شطرين متساويين في عدد تفعيلاتهما مثل:
كنتُ كالملاح في لجته … كسرت مجدافه الريح فتاها
فاعلاتن فاعلاتن فاعلن …فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن
ويحافظ الشاعر على نمط الأشطر عبر القصيدة كلها فتتبع صدور الأبيات قانونها.
ثانيا: أسلوب الشطر الواحد؛ وهو شعر يتألف كل شطر فيه من تفعيلات ثابتة العدد عبر القصيدة كلها ويكون له ضرب واحد لا يتغير؛ ومنه ما يسمى في الأدب العربي الأرجوزة، كما في أبيات امرئ القيس:
تطاول الليل علينا دمّون
دمّون إنّا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
وقد نوعوا القوافي في العصور التالية حين نظموا الأراجيز العلمية مثل الألفيات في النحو والتجويد وغيرهما.
ثالثا: أسلوب الشعر الحر؛ وهو شعر ذو شطر واحد ليس له طول ثابت وإنما يصح أن يتغير عدد التفعيلات من شطر إلى شطر.. ويكون هذا التغير وفق قانون عروضي متقن.
هكذا توضح نازك (7) أن أساس الوزن في الشعر الحر أنه يقوم على وحدة التفعيلة. والمعنى البسيط الواضح لهذا الأساس أن الحرية في تنويع عدد التفعيلات في الشطر أو تنويع طول الأشطر، يشترط بدءا أن تكون التفعيلات في الأشطر متشابهة تمام التشابه، فمثلا إذا اختار الشاعر البحر المتقارب يكون شكل الشطر على سبيل التجريب:
فعولن فعولن
فعولن فعولن فعولن فعولن
فعولن فعولن فعولن
هكذا تكون الحرية في الشعر الحر هي حرية فقط في اختيار عدد التفعيلات وطول الأشطر وليس حرية في تغير نوع التفعيلة داخل القصيدة الواحدة. وكذلك غيّر أسلوب الشعر الحر نظام الشعر العربي، فتغيرت النظرة إلى الوزن وموسيقى الشعر، فانتقل الأساس من الشطر إلى التفعيلة، ومن القافية الموحدة إلى القافية المتغيرة. فما الأسباب التي دفعت الشعراء الجدد لتفجير تلك الثورة داخل متون الشعر العربي العريق؟
ثورة اجتماعية.. بدءا من الشطر الشعري
في إحدى الجلسات الشعرية بالقاهرة، جلس العقاد يقرأ أبياتا شعرية للشاعر عبد المعطي حجازي حتى وصل إلى الشطر الذي يقول فيه حجازي:
“أقول فيك هجائي وهو أوله.. وأنت آخر مهجو وأنسبه.. تعيش في عصرنا ضيفا وتشتمنا..أنا بإيقاعنا نشدو ونطربه” فتوقف العقاد وقال ساخرا: “من الذي يعيش في عصر الأخر؟!” (8)
حين قال العقاد جملته تلك، فقد عبر عن حالة الانكماش والرفض التي قوبل بها أسلوب الشعر الحر، حيث اعتبروها حركة لهدم الشعر العربي، فكانت فكرة إقامة القصيدة العربية على “التفعيلة” بدلا من “الشطر” صادمة للجمهور العربي (9) وهو يحمل ثقافة غنية عريقة، بينما مع مرور السنوات انتشر أسلوب الشعر الحر وفشلت محاولات وأدها جميعا .
حيث يذهب كثير من النقاد (9) أن ظهور الشعر الحديث أو شعر التفعيلة وانتشاره في كل ربوع العالم العربي؛ يرجع لعدة أسباب منها:
أولا: النزوع إلى الواقع: حيث تتيح الأوزان الحرة للفرد العربي المعاصر أن يهرب من الأجواء الرومانتيكية إلى عالم الواقع الحقيقي، وقد تلفت الشاعر إلى أسلوب الشطرين فوجده يتعارض مع هذه الرغبة عنده لأنه “من جهة مقيد بطول محدود للشطر وبقافية موحدة لا يصح الخروج عنها ولأنه من جهة أخرى حافل بالغنائية والتزويق والجمالية العالية”(9)
فتسارع العالم الحديث لا يبقي للشاعر رفاهية وضع القيود الشعرية الخاصة بوحدة القافية، “فلجأ إلى خلق أسلوب أكثر حرية وأقل هيبة وجلالا”. أما الغنائية فهي تنشأ عن الموسيقية العالية في الأوزان القديمة “فهي تعطي تلك الأوزان جوا من العاطفة المصطنعة والخيال، فالشعر الحر يعبر عن حياة ليس الجمال الحسي غايتها العليا”
ثانيا الحنين إلى الاستقلال: مع بداية العصر الصناعي وعالم الفردانية، أراد الشاعر العربي أن يثبت فردانيته بخلق سبيل شعري معاصر يصب فيه شخصيته الحديثة التي تتميز عن شخصية الشاعر القديم، “أنه يرغب في أن يستقل ويبدع لنفسه شيئا يستوحيه من حاجات العصر، يريد أن يكف على أن يكون تابعا لامرئ القيس والمتنبي والمعري”، وهي أيضا ثورة الإنسان العربي على وضعه الاجتماعي والسياسي القائم حيث يقول أمل دنقل: “كنت قد اكتشفت من زمن أن علاقتي بالشعر تحددت فيما يسمى بالشعر الحديث، واستطاعت القاهرة أن تضيف إلى ذهني أن الحداثة ليست شكلا فقط، وإنما تمتد للمضمون، كما أنها حداثة في الرؤيا، لا أزعم أنني اكتشفت نفسي في هذه المرحلة، وإنما اكتشفت بالثورة على عمود الشعر وعلى الشكل التقليدي طريق الثورة على العالم والواقع والمسلمات، هذه الأمور كانت تشغل وتملأ حياة شاب مصري قادم من الصعيد لا يملك إلا كتبه وأحلامه في أن يصبح شاعرا في يوم من الأيام”.
ثالثا: إيثار المضمون؛ حيث جاء الشعر الحر كرد فعل على الإيغال في تزويق الشكل ومراعاة جماليته، فأراد أن يعيد تحكيم المضمون في الشكل ومحاولة التخلص من القشور الخارجية، وفي الوقت نفسه تناول موضوعات حديثة ومعاصرة لم يتناولها الشعر من قبل تعبر عن واقع جديد تماما يواجهه الإنسان العربي.
لكن الأمر قد زاد عن حده فبعد فترة وجيزة من ظهور هذا الشكل الجديد من الشعر، ظهرت أشعار لشعراء جدد خالية من الموسيقى لا يلتزمون فيها بوحدة التفعيلة، حتى أن الشاعرة نازك الملائكة نفسها قالت أن نهاية الشعر الحر ستكون “نهاية مبتذلة”.
غواية الحرية
كان ظهور الشعر الحر في الساحة العربية حدثا قد أدخل جموعا من الشعراء الجدد ساحة الشعر، حتى أن الشاعرة نازك الملائك صاحبة أول قصيدة بهذا الشكل كتبت في سنة 1954 في مجلة الأديب قائلة “إن حركة الشعر الحر ستتقدم في السنين القادمة حتى تبلغ نهايتها المبتذلة، فهي اليوم في اتساع سريع وصاعق، ولا أحد مسؤول عن أن شعراء قليلي المواهب، ضحلي الثقافة سيكتبون شعرا غثا بهذه الأوزان الحرة”
حيث تذهب نازك أن المزايا المضللة في الشعر الحر، وغواية الحرية قد أضلت كثيرا ممن تجرأوا على كتابة الشعر، “فما يبدو للشعراء لأول وهلة من مزايا في الأوزان الحرة ينقلب حين نفحصه إلى مزالق خطرة، وهذه المزالق قادرة على أن تخلق من إمكانيات الابتذال والرخاوة في الشعر الحر ما هو خليق بأن يسبب للشاعر قلقا محقا على شعره”
وهذه المزايا المضللة حسب نازك هي:
أولا: الحرية البراقة التي تمنحها الأوزان الحرة للشاعر. فعلى عكس ما يظنه البعض أن الشعر الحر يقدم مجالا أوسع في العروض وأنواع التفعيلات، فإنه يقتصر على ثمانية بحور شعرية فقط من بحور الشعر العربي الستة عشر (11)، فيما يرتكز أغلب الشعر الحر على ستة بحور فقط من ثمانية، مما يدفع الشاعر إلى التنويع المستمر في عدد التفعيلة الواحدة خلال القصيدة كي لا تصبح مملة.
على الجانب الآخر تعطي حرية التفعيلة والانفكاك من قيود الشطرين، حرية للشاعر أن تتدفق أفكاره وتعبر عن نفسها، إلا أنها تجعل من الشطر الشعري طويل جدا، فعلى سبيل المثال في قصيدة حفار القبور لبدر شاكر السياب يقول:
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحنات إلى السماء
تومي إلى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعالى ثم فاض على مراقيه الفساح
فهذه الأشطر كلها عبارة واحدة وليس فيها وقفة من أي نوع. وبسبب فرط تدفق الأفكار والكلمات خلال الشعر الحر تبدو كأنها لا تريد أن تتوقف مما يحيلنا للعيب الثاني.
ثانيا: الخواتم الضعيفة للقصائد الحرة: تلجأ القصيدة الحرة إلى اختتام القصيدة ببداية مطلعها، حيث وفرت الحرية فراغا كان يحكمه نظام الشطرين بشكل صارم، فعندما غاب نظام الشطرين، احتار الشعراء الجدد كيف يختتمون قصائد طويلة ومواضيع شائكة، وقضايا راهنة لا تنتهي .
ومن الأساليب التي لجأ إليها الشعراء في اختتام القصائد الحرة أسلوب لجأ إليه بدر شاكر السياب (11) في قصيدته “حفار القبور” حين قال في آخر تلك القصيدة الطويلة:
وتظل أنوار المدينة وهي تلمع من بعيد
ويظل حفار القبور
ينأى عن القبر الجديد
معتثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور
حيث عمد الشعراء إلى أسلوب استمرار، كأنهم يقولون “ويستمر الأمر كما هو عليه”. وكي ينظم هؤلاء الشعراء الجدد قضاياهم في شكل موسيقي، فإنهم يضطرون أحيانا لكتابة كلام مفكك دون أن ينتبهوا، وهذه هي” الغواية الحقيقة للشعر الحديث”.
ثالثا: موسيقية الأوزان الحرة: حيث يفوت الشاعر أن هذه الموسيقى “ليست موسيقى شعره وإنما هي موسيقى ظاهرية في الوزن نفسه. يزيد تأثيرها أن الأوزان الحرة جديدة في الأدب العربي، وعلى هذه الصورة تنقلب موسيقية الأوزان الحرة وبالا على الشاعر، بدلا من أن يستخدمها ويوظفها في رفع مستوى القصيدة”.
وبدخول الشعراء الجدد قليلي الخبرة والثقافة، نتج عن ذلك شعر مبتذل ورخو، حيث أثبتت حرية الشعر، أن العربي غير قادر على تحمل مسؤولية الحرية كما صرحت بذلك نازك الملائكة ساخطة على الشعراء الجدد.
هكذا تحققت نبوءة نازك الملائكة بأن “الشعر الحر سيصل لنقطة الجزر في السنين القادمة” وهي النبوءة نفسها التي قدمها الشاعر أمل دنقل حين قال “إذا أردت أن أحدثك عن المستقبل القادم فأنا أعتقد أنه سيكون فترة ضياع.. بمعنى أنه مستقبل أمة فقدت حلمها، بغزو ثقافي وفكري وتبنّ للمنجزات المدنية الغربية.(12) وأصبحنا نرى اليوم شعرا “ليس شعرا ولا فنا في أغلبه، يستوي في ذلك القصيدة والزجل المتخذ اسم الشعر، والقصة العامية، وأصحابها عالة على الشعر وعلى الفن الصحيح”.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”