يجدرُ بالصانعِ أن يكون أكثر الناس تحريًا لدقةِ صناعته، وأحرصَهم على تجويده وتمييزه عن عمل غيره، بل وأن يجتهد في جعل كل عملٍ من أعماله قيمةً منفردةً بذاتها، مختلفةً عن بقية أعماله، وهذا ما ميّز الكثير من الأعمال الفنية خاصةً حين نتجه إلى الفنون الإنسانية الخالدة، رسماً ونحتاً وتصويراً… إلخ.
أظن أنَّ الشاعر الفنان أحق بأن يلتفت إلى تمييز أعماله الشعرية عن غيره، خاصةً وأنه يصدر في فنه عن العقل والعاطفة، ويحاول أن يصوغ بهما إبداعه، بحيث تأخذ كل قصيدةٍ فكرتها ولغتها وعالمها الذي يختلف عن باقي قصائد الشاعر، منطلقاً من أنَّ كل قصيدة هي مشروعٌ إبداعيٌ جديد، له شخصيته الخاصة، ومنطلقاته وحدوده الفكرية والتأملية والوجودية واللحظية، التي لا يشاركه فيها عملٌ شعريٌ آخرُ؛ بمعنىً آخر تصبح قصائد الشاعر في مجموعها حديقةً مترعةً بالجمال، ولكنه ذلك الجمال المتفرد، فلا نكاد نجدُ بين زهور تلك الحديقة لوناً أو شكلاً أو رائحةً متكررة.
يحدث أن تقرأ مجموعةً شعرية عالية القيمة فنيًا، تضم بين دفتيها عشراتِ القصائد، ستخامرك اللذةُ، وتأسرك العبارةُ، ويسحرك الإيقاعُ، وتسافر بك الصورُ والخيالاتُ، وأنت تنتقل من قصيدةٍ إلى أخرى، مكتشفًا عوالم الشعر والشاعر، مخترقًا حُجبه وسماواته، ولكنَّك ما إن تخرج من آخر قصيدةٍ في المجموعةِ الشعرية وتغلق بابها، حتى تشعر وكأنك قد قرأت قصيدةً واحدة وحسب في كل هذه المجموعة الشعرية التي تضم عشرات القصائد، نعم هي قصيدةٌ واحدةٌ، وربما تسلم قصيدةٌ أو اثنتان من هذا الوصف، ولكنَّ المجموعة في جل قصائدها لا تعدو كونها مفردةً واحدة، تتكرر بأصواتٍ وأشكالٍ وموسيقا مختلفة.
ستجد أنَّ الأغراض قد تكررت في ذات المجموعة، وأنَّ بعض المفردات ودلالاتها قد تناسلت بشكل واضح في جل قصائدها، كما أنَّ الصور والأخيلة تكاد تنبع من ذات المنبع لتصب في ذات المصب، ولكنَّ العمل الاحتيالي الذي قد ينجي هذه القصائد مؤقتًا من الانكشاف الفاضح، هو هذا الانتقالُ الذكي من موسيقا إلى أخرى، ومن قافيةٍ إلى قافية، وربما من شكلٍ إلى شكل آخر؛ قد تنجح هذه المراوغة عندما نقرأ قصائد الشاعر والشاعرة بشكل متفرقٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، والصحف والدوريات، أو عندما نصغي إليها في الأماسي العابرة، ولكنَّ المشهد يكون واضحًا بشكل لا لبس فيه عندما تُجمع تلك القصائد في مجموعةٍ شعريةٍ واحدة، أو أعمالٍ شعريةٍ كاملة.
إشكالية التكرار الفني، بأن يكرر المبدعُ ذاتَه في الكثير من أعماله الإبداعية، واضحةٌ ولا تخطئها عينُ القارئ، -ولا تكاد النجاةُ منها تُكتب لمبدع- وهي حاضرة في الكثير من الفنون، خاصة الشعر، وربما يُعزى هذا التكرار إلى الكسل الذهني، وافتقار المبدع للأفق القرائي المختلف الذي يمكن أن يقتبس منه الكثير من الأفكار والأغراض المستحدثة والتصورات والمفردات المبتكرة، كذلك انعدام أو خفوت الصدق الفني؛ وربما ارتاحَ بعض المبدعين إلى نوعية الجمهور الذي يحيط بهم، فينزلون لتلبية طلبات هذا الجمهور الذي يُلحُ دائمًا على أشكال وأغراض وأفكار وربما قصيدة محددة، فلا يجد المبدعُ الجماهيري بدًا من الإصغاءِ إلى جهوره والرضوخ لطلباته، تقديراً لجمهوره، وبغية الخلودِ في الهالة الجماهيرية الواسعة، حتى وإن أدى به ذلك إلى التكرار الممل المخل، والذي لن يضيف أبداً أيَّ قيمةٍ إبداعيةٍ إلى مشواره الفني.
يحدثُ أن يكتشف المبدعُ والشاعرُ خاصةً هذا الخلل في تجربته، ويقوم بإعادة تقييم أعماله وتجاربه السابقة، ليقف منها على الأفكار والأغراض والمعاني والصور المكررة، والظروف التي أدَّت إلى تكرارها، ليبدأ من حيث توقف من زمنٍ طويل، ويبتكر قصيدته المختلفة، حين يثق بأنَّ هناك ما يستحق الكتابة، وحين يشعر بأنَّه قد يضيف بالكتابةِ جديدًا ولو على المستوى الذاتي.
المؤسف حقًا هو أنَّ البعض قد تجاوز مرحلة المحاسبة الذاتية، فلم يعد بإمكانه أن يأتيَ بأحسن مما كان، قد يتجلى هذا بعد قراءة بعض الأعمال الشعرية الكاملة لشعراء كبار معاصرين، ارتضوا بقصدٍ أو دون قصد أن يحصروا تجاربهم الشعرية بما فيها من إبداعٍ فني ودرجةٍ عالية من التجويد البلاغي والأسلوبي، في تكرارٍ لأغراض ومعاني وصور ومجازات ومفردات، لا تُخطئها ذائقة القارئ الناقدِ الحصيف، الذي سيخرج بعد قراءة جُل تلك الأعمال الشعرية بنتيجةٍ واحدة، وهي أنَّ الشاعر قد كتب قصيدةً واحدة طوال مشواره الإبداعي، ولكنه –ولسببٍ لا يعلمه القارئ- كرر تلك القصيدة عشرات وربما مئات وآلاف المرات.
هل يمكن تفسير هذه الحالة بعجز الشاعر عن توسيع مدى تجربته الشعرية، أم أنها خطة مقصودة، يرسمها الشاعر لمشروعه، ويرتضيها لنفسه، لأسباب هو أعلم بها، أم أنَّ هناك دائماً في الشعر حالاتٍ لا تُعلّل ومن الأفضل تقبُّلها على ما هي عليه؟