السري الذي يُسْكِنُنَا فيه الشعر
الشعر هو هُوِّية الخيال، ولغة اللغات التي كلَّم بها الله العالم. فالشاعر ينظر مباشرةً؛ دون حاجة إلى أداة من خارج ذاته؛ وينفذ إلى جوهر جوهر الوجود.
فبالشعر نكون إنسانيين أولا نكون، فهو؛ في كيانه الأعمق الشفيف ؛ يقفز فوق نمطية الحياة بمنظور رؤيوي متسعٍ ، يحمل الكثير من المضامين المحفزة على المستقبل . فهو عَبرَ اٌمتداده التاريخي العريق يحمل في ثناياه جزئيات الحياة العميقة الغور .
ولذلك كانت أبعاد رؤية مبدعه متنوعة ومتعددة بتعدد ثقافته . وإذا الثقافة العليا هي السمة الأكثر بروزًا لتكوين رؤية شاملة عن الحياة والوجود ، وعن جوهر الجوهر فيهما . والشاعر الإنسان هو الذي يقدم رؤيته المختلفة والخارجة عن سياق الحياة النمطي ، بحيث تَكونُ هذه الرؤية معرفةً مفارقةً للمعارف المتداولة ، فاعلةً في الكوائن كما الضوء ، وهو الذي كذلك يكتب من خلال تجربته الذاتية عُمقًا إنسانيا لاحبًا . وشاعر دون رؤيةٍ بانية هو كائن منخرطُ في السديم .
فالالتصاق إذن بجزئيات الحياة الكونية هو أهم مقومات التجربة الشعرية ، لأنه يمزج استنساغات الشاعر باستنساغات الناس ، ومحلوماته بمحلوماتهم ، وتطلعاته بتطلعاتهم ، وموروثه بالموروث الإنساني الكوني ، لأجل تشييد محطة ينطلق منها للإصغاءِ لعصره وتياراته المتناغلة ، وفهمِ ما يتطلبهُ من رؤيةٍ ومنهج مختلف . ومن ثمة الانعطاف لإدخال اللامعقول في مفهومية عالم القصيدة ، وخلخلةِ البدَهيات المحنِّطة ، وكسحِ ألغامِ التوقعات المُلجمة ، ليتعرَّف الكائن على جوهره المنسي .
ولا يتأتى للكتابة الشعرية أن تنصت إلى العوالم داخلية كانت أو خارجية ما دامت لم تُنْصت إلى ذاتها المتفرقة بين الأشياء والمتقاذفة بين رياح الماضوية شرقيها وغربيها، ورياح النرجسية التي تقصي وتلغي كل ما عداها من أشكال تعبيرية أخرى لكي تكون لها الهيمنة ولو بالكلام. هذا من جهة ، ومن جهة ثانية فإنها لن تعري طبقات الذاكرة ولن تنخرط في حُلُمِ الدواخل وتنصت إلى انْصِبَابه الّأَسْيَانِ إلا إذا عثرت على البصمة المكونة لحقيقتها كبعد لا يستغني عنه الوجود، لا كتعبير أنيق عن حالة أو حالات.
وعندما يتم هذان الأمران نستطيع أن نضع القصيدة في موضعها الصحيح من وجودنا ، ومن حياتنا، ومن واقعنا ، ومن خصوصيتنا. وأن نتواضع – والتواضع خلقي شعري نبيل مفتقد في الراهن الشعري- ونقول لا يمكن للقصيدة أن تغير العالم، ومن يقول غير ذلك فهو نرجسي مريض حتى النخاع بنرجسيته. فتغيير العالم الى الأجمل والأنقى والأبهى تساهم فيه أطراف شتى، ليس من بينها الشعر، لماذا؟ لأن الشعر لا وظيفة له، ولا ينبغي أن يكون موظفا مأجورا تتحكم فيه المؤسسة، فتفقده هويته، وتمأسس كيانه إنه استفزاز دافع نحو الجمال وطموح لا يرضى بأي كمال فكلما شاهد عوالم تواطأ الكل على كما لها أتى هو ليقول : إنها ناقصة، فاُبْحَثُواْ عَمَّا يجعلها كاملة”.
وبهذا يتجدد الشعر ويجدد ويسيـِـر شامخا في مجرة الحداثة . و يكون قد استوعب الحياة، وأصبح تنفسُه في عصرنا ـ الذي أضحى سقفُ توتراته مرتفعا إلى ما لا نهاية له ـ أمرًا مُلحًّا ، وضرورة أونطولوجية .
فالشعر هو الزمن كله ، وكلما احترقت الأرض أو انخسفت تحت أقدامنا ، كان الأرضَ التي لا تتنكرُ لمشاعرنا وغاياتنا وأهدافنا, نَلِجُها فنَتَفَرْدَسُ، ونتذوقُ فَوَاكِهَ الديمومة.
بِاٌلشِّعْرِ نُولَدُ إِنْ جَزَّتْ مَشَاعِرِنَـــــــا أَيْدِي اٌلْأَسَى، وَاٌسْتَوَى فِي نَبْضِنَا اٌلرَّهَبُ
هُوَ اٌلضِّيَاءُ.. ضِيَاءُ اٌلرُّوحِ إِنْ أَفَلَتْ شَمْسُ اٌلْمَعَالِي، وَغَنَّى اٌلْمَيْنُ وَاٌلْوَصَـــبُ
كَفَّاهُ بَسْمَلَةُ ُ بِاٌلْحُبِّ مُـــــــــورِقَـــــةُ ُ وَمُقْلَتَاهُ سَمَاءُ ُ صَحْـــــوُهَا اٌلطَّــــــــرَبُ
مَارَازَها مُوجَعُ ُ إِلاَّ وَشَبَّ بِــــــــــهِ فَيْضُ ُ مِنَ اٌلسِّرِّ لَمْ تَحْلُمْ به اٌلْحِقَـــــــبُ
كَأَنَّهُ اٌلْوَجْدُ مَا يَنْفَكُّ يَكْتـُـــبُــــــــــُنَا بِحِبْرِ عَافِيَةٍ إِنْ عَضَّنَا اٌلْعَــطَــــبُ
وهو لا يُقيم في محطة زمنية مرتبطة بالأشخاص،وإنما له مساراته وعوالمه ،وتميزاته وإبدالاته،وقضاياه وآفاقه،وإشكالياته واستشكالاته.تحفر قنوات عميقة في خريطة الوعي الشعري،وتُؤسس لحساسيات جديدة لم تكن موجودة.وهو بهذا الصنيع يُنقذ الشعور المُمَأْسَس من التحجُّر،ويدفعه إلى الإصغاء إلى موسيقى الذات الكونية رغم تعدد أمواجها،وتياراتها،وشساعة أرخبيلاتها وجزرها،حتى لا ينعزل عن شعريات تلك الذات،فيضمر.
وإذا كان الربيع لا تصنعه سنونوة واحدة، فإن التجاوز في الشعر يمكن أن يصنعه فرد واحد داخل شعريات متعددة، كشعرية المشابهة وشعرية المجاورة وشعرية الرؤيا،وذلك حين يمنح للإنسان إقامةً حقيقية على الأرض:أرض الوطن،أرض الذاكرة،أرض القيم المشتركة العليا،أرض اللغة بما هي مَكْمَن وعيه،ومنطقة أحاسيسه وإنسانيته،وشرفته المطلة على رحابة الكون،وزمناً مُربكا لتعاقبية الأزمنة وسكونية الأمكنة السائرةِ صوب تذْوِيت العالم،ويداً تجتثًّ المدسوسً في الأشياء من الأسفل إلى الأعلى دون فَرَقٍ من الموت.
فالتعدد هو سمة الكائن الشعري، وبخاصة في ظل ثقافة الاستهلاك المُنمِّطة؛ التي تُحوِجُنا إلى ترك المبادرات الروحية وتعطيل التفكير الجواني، والسلبية أمام اجترار القديم، أو الخضوع للوافد الملتبس. فهل أمام هذا نكون نحن؟ وتكون الذات في زمنها؟. إن الذي لا يتعدد لا يمكن أن يكون له وجودٌ، ولذلك فنحن لا ننحاز إلى الأشكال، وإنما إلى الزمن الذي في داخلنا، فهو الذي يبدع أشكالا جديدة لوجود جديد؛ إذ لا يمكن أن تكون للوجود دينامية إلا إذا كانت هناك أشكالٌ أخرى تُصاحبه، كشكل الصوفي، فهو ليس مقيما في السكون، وإنما في الاضطراب والحركة، والسرُّ في ذلك انجذابه إلى الحضرة العُليا. لا يتقيدُ بنعت ولا بوصف ولا بأي شيء، بل يتقيد بزمنه الداخلي. والزمن كما نعلم ليس أصلاً في الحقِّ. وإنما هو أصل في الكون، وزمن الإنسان هو ما في داخله، وحينما يتطابق زمنه مع الأشكال الموجودة في الوجود تكون هناك الجمالية. ومن ثمة فإن كل مبدع له الحق في أن يخترع الأشكال التي يُريدها، والتي تتطابق مع زمنه الداخلي، وبذلك يَفتح الذائقة على مباهج الجمال الكوني، ويُخلصها من سجن التنميط الذي وضعتها فيها المؤسساتُ والمُواضعاتُ الماضوية. فالمؤسسات بكل ضروبها وأشكالها لا تتخلى عن خنجرها المقنع، والمبدعُ لا يتخلى عن جناح الحرية. أليس غريبا أن كل الأوطان حتى المتطورة منها ملأى بالسجون والقمع والفظاعات؟ ولا يُخلخل هذا إلا الشاعر، فهو كالغيم محكوم بالتوالد، مادام الغيم قائما فالأسئلةُ قائمة كذلك، ومتجلية من سماء الطفولة، ومن المستحيل أن يكون هناك شاعر دون طفولة. فالإنسانية ليست رُقَعًا جغرافية وهُوِّيات مختلفة، بل ثقافة استبصارات عبر التاريخ، والشعرُ باعتباره متضمِّنا حقيقة الوجود في جَوْهَرِ جَوْهَرِهِ هو الذي يُشعرنا بهذه الاستبصارات لِتلافي تصادم الهويات، وَ لِتَقَبُّلِ الأشكال والتَّعَدُّدَات بعشق سام.
فإذا كان الشعر هو جوهر الجوهر الذي ببقائه يبقى الإنسان إنسانا حقيقيا بطموحاته، وانكساراته وانبساطه فإنه لا جدوى من التساؤل حول الشكل الذي يأتي عليه، فالأشكال تتبدل كما تبدِّل الأرض قشرتها ولكن الروح هي التي تبقى دائما متوهجة وأعني بها الشعرية كما فصلها جان كوهن في كتابه ” بنية اللغة الشعرية” وكما أشار إليها كثير من النقاد العرب في مقدمتهم الجرجاني في ” دلائل الإعجاز” و ” أسرار البلاغة” و ” حازم القرطاجني” في كتابه “منهاج البلغاء وسراج الأدباء”، و”كمال أبو ديب” في كتابه “في الشعرية” الذي يؤكد فيه على أن الشعرية تتحقق حينما يتحقق ما يسميه ب “الفجوة: مسافة التوتر”، وأدونيس في كتابيه “فاتحة لنهايات القرن” و”الشعرية العربية”.
صيانة مجهول القصيدة
بالقصيدة؛ وفي مجهولها الراعش بالمستحيل، يحسُّ الناس على الدوام بكونٍ ينشأ ولا ينتهي..كونٍ تجذبهم الأسرار التي يتكلمها، فيتسابقون نحوها…ولكنهم لا يصلون إليها لكونها ممعنةً في الهروب كما نقطةُ سر التكوين، ضوؤها متوجٌ برعشة الخلق، يُعيد تشكيل ذواتنا ووجوداتنا لتنطلق بحقيقة عالمِ حيوي، تَضُوع منه إرادة هذه الذوات والوجودات، وتتنافذ تنافذ الضوء مع الماء والعطر مع الصوت، وتسكن فيما نتوحَّدُ فيه من أسرار الوجود على الأرض.
إن هذا السري هو الذي تُسكننا فيه القصيدة، فتشَدُّ إلى اللانهائي سائرين على طريق المجاهدة والمكابدة لبلوغ صفاءِ اللمعة، والنزول ضيوفا دائمين فيه، حيث تكون الرؤية بحجم الماء واللغة بحجم الإبرة، مما يجعل التوتر المتولد عن هذا التباين صرخة راجة مندفعة، تحت ضغط قوة الرؤية؛ باتجاه الذات لحثها على السهر على اللغة في قصيها الأقصى، وإنقاذ الشعر من أجل إنقاذ اللغة. فالشعر مطلقا هو المتعدد الذي ينفرد بالإقامة في اللغة، وباستضافة لغة الآخر. إذ في أقصى اللغة شعريات تلتقي وتتحاور من خلال مؤشرات لا تنتهي، وبمجرد ما نزوغ عن الأقصى اللغوي بحجة الوصول إلى الجمهور العريض نكون قد قتلنا مجهول القصيدة، ودخلنا في عَقد المنفعة الماحي للغة وللشعر معا. والشعر لم يكن شعرًا إلا حينما ألغى العقود، وانفرد بالرحيل في الوعد، وفي المجهول، ونحو الأقصى المنصتةِ لغته إلى ما لا ينصت إليه في المنعرجات والهوامش والتخوم الكونية. يتجه نحو الحيوي الإنساني كأفق لمعنى جديد، ونحو المجهول كنغمة يتيمة، ضدًّا على خرائب المنفى، ومنطق الاستهلاك الماسخ.
فالشعر لا يبحث مطلقاً عن لغز الوجود،وإنما هاجسه الأعلى هو تأسيس وجود للوجود، وبناء معرفة أسمى خاصة ومفارقة للمعرفة المتداولة. فالشاعر المعاصر هو بؤرة التلهُّبات، ومَصهرُ الثقافات، ما ينفك – وباستمرار- يتفاعل مع التيارات الشعرية الكبرى في خرائط الشعر، لتوسيع الإمكانات الروحية للغة وللإنسان باعتباره كائنا منفيا في جنون اللغة،ولاختراق كثافة العالم، وعتماته النابحةِ، وحدودِ قيمِه المعيارية.
وتحت ضغط هذا الهاجس تكون الكتابة الشعرية مَنْفَذَ خلاصه..خلاصٍ من الاحتراق بالاحتراق..احتراق بالتجربة، وفيها ومعها، والتجربة سِباحة ومغامرة في أدغال وأحراج وأنهارٍ مرئيةٍ،واصطدامٌ بالشبكات العنكبوتية وأودية السيليكون،وبعواصف اجتثات الثقافات الأصلية التي هي مشاتلُ طبيعيةٌ للذاكرة الشعرية.
فأُحادية المعنى،وتبَلًّد الروح،وانبتار الوجدان،وشبقية الاستنساخ،كلها تهدد القصيدة لا محالة،مثلها مثل منطق السوق،ومنطق المباهج التقنية المُسَطَّحة للخيال.وفي ظل هذا الطقس،وهذه الطقوس المُسَيِّجَة للذات والروح؛ألاَ يُمكن للشعرية الصوفية أن تقود ثورة روحية مُمْكنة في أرْخَبِيلاتِ النزوع الاستفرادي بالإنسان،وبطموحاته الرحبة الصافية؟
تخليق الوجود بالكتابة الصوفية:
لا نُصافي مجهول القصيدة، ونهدمُ منطق الاستهلاك إلا بالدخول في كونية التصوف ككتابة رمزية بامتياز، وككتابة مجاهدة وانفتالةٍ لتخليق الوجود مظهرا ومخبرًا، وبكل مكوناته، باعتبارها كتابةً لا تقوم على إقصاء الآخر وإلغائه أيًّا كان، أو إهمال قيمه أو تجاهل خصوصياته. فهي طريق الحداثة الحق في الهنا والآن، في الذات والزمان، بها وفيها ندرك أن اليقين الحقيقي يثوي خلف المدركات الظاهرة. إن الصوفية بعدٌ شعري حداثي رحيب يُخرج الذات من الراكض الراهن، ويحقق ذاتية المبدع، ويؤصِّلُ فرديته كإنسان فاعل متفرد في الوجود ومتفاعل معه.
فالذات النازفة تحت ضغط انعدام اليقين الروحي في عالم متلاطم زاخر بالنفعية المادية ق تفجرت، وتولد فيها الشعور بسلوك التصوف كمخرج طبيعي من الفوضى ومن ظلمة الكاوس choos بالمعنى الفلسفي. فالبديل المناقض للواقع لن يتحقق إلا في الذات الشاعرة وعالم التصوف، شريطة أن يكون هذا العالم عالم إبداع، وتصوفه تصوف قوة خلاقة، لا تصوف تخاذل وخنوع، وانكسار وهروب، واجترار وإحباط.
فبالرؤيا الصوفية يتقوى رفضُ الشاعر للظواهر الخارجية العيانية، وينفسح أمامه المجال لخلق عالم مُفارق يستند إلى داخليته وجوهره المُغاير للظاهر، فيتمثل الحقيقة في أجلى حالات الصفاء عن طريق الريا الكشفية.
وعليه؛ فإن نزوع الشعر إلى الكتابة بحبر التصوف المضيء هو نزوع إلى البحث في مجال روحاني لروحنة الذات القلقة، والتسامي بها عن طريق تلاشي الحواس الظاهرية للاستمداد من ينبوع الذات بوصفها مصدرًا لطاقة كامنة يتسرر في طبقاتها الإشعاع الروحي، وبحكم كون الشعر ينزع من الداخل إلى الخارج، ويهتضم الواقع ويتمثله عن طريق الرؤيا التي تحيل التناقض إلى انسجام و ألفة.
ومن أهم ما تفيد به الصوفية الشعر هو أنها تخرجه من لغة العبارة التي لا تنتج شعرا موصولا بأحاسيس الكون ، لأنها لغة عقل مقيد ومحدود ، وتدخله في لغة الإشارة التي تنتج شعرا بكل جزئيات الكون لكونها أصيلة وبليغة.
فالشاعر والصوفي بامتطاء الخيال والكلمة يحاولان الخروج من القيود والنعوت، والوصول إلى الذات للتطابق معها. وكيف يصلان؟ بالإشارة التي هي لغة الله في العالم، فالذي يفهم بالإشارة هو أقوى فكرا وروحًا من الذي لا يفهم إلا بالعبارة. ولذلك نُلْفِي الشعراء والصوفية يَبْقَونَ في الإشارة، لإدراكهم أن الله خاطبَ العالمَ بكامله بكل أنواع الإشارات، ومن ثم كان تشبُّثُهم بها، فبعضهم يقف عندها، وبعضُهم يتجاوزها إلى حيث لاَ حرفَ ولا محروفَ و لا صَوْتَ. فالرؤيا هي أرض الشاعر وأرض الصوفي التي ينسجان بها وفيها لغتهما الإشارية والرمزية والمفارقة للغة الخطابات الأخرى. وهذه اللغة تفيض من النقطة باعتبارها وجودًا ومعرفةً وأزلاَ، لأن كل خطِّ منطلقٌ منها وذاهبٌ إليها. إشعاعها يُفجِّرُ حُدُوسك فتكتبُ وتنكتب، ولا كتابة دون حدوس، ولا حدوسَ دون محبة، محبة العالم كما أبدعه الخالق، وكما ارتضاه. فمن سار على هذا النهج فهو صوفي، ومن كره العالم أو بعض مكوناته فليس صوفيا ولو تزَيَّا بزي الصوفية وانتحل لغتهم، وذلك لأن عندليب الصوفية يُغردُ كأنه أُورْكِسْتْرَا كاملة مليئة بالرموز والإشارات التي تُعلِّمُ المثابةَ والتضحية، ولغة العمق العاطل.
وهذه اللغة تتفَجَّرُ من صدق الذات مع نفسها، ومع زمنها الخاص، فهي ثمرةُ معرفة حدسية مباشرة، وبغير وسائط، وإدراكٌ ذاتي لا يُمكن تعميمهُ، ولا نقلُهُ من إنسان إلى آخر إلا بمعاناة التجربة نفسها، لأنه قائم على الذوق الشهودي.
إن أفق الشعر الآن- ومعه أفق السرد- مفتوح على المعرفة الصوفية باعتبارها معرفة المدهش الممتد في البعيد الأبعد من الروح،تتجدد كل لحظة وفق إيقاع الزمن الداخلي للإنسان،وتَمْثُلُ في جوانيته لاإراديا بحكم تناظره للعالم.فالعالم كتاب كبير،والإنسان مختصَرُه المضاهي له في المعنى،فكل منهما نسخة من الآخر،ومُناظرٌ له.والشعر حين يدخل العالم بقدم صوفية لا يدخله بوصفه عالما واحدا،بل بوصفه عوالم غير مكتشفة جماليا،كالعالم الأعلى (=عالم البقاء)،وعالم الاستحالة (=عالم الفناء)،وعالم التعمير (=عالم البقاء والفناء)،وعالم النِّسَب.فكل عالم من هذه العوالم له نظائر في الإنسان،عجز العلم المادي عن ولوجها و استقرائها،وولجها العِلم الَّلدُنِّي.فهي أراضٍ بِكرٌ تُقَدمها الصوفية للشعر ليبني فيها ومنها لغته وصوره ورؤاه،ويقاربها بنظائرها في الكائن البشري مقاربةَ وحدةٍ وتعدد في إطار جمالي غير مسبوق.
وإدراكا لكل هذا، لم يَفتَإِ الشعر المعاصر ينخرط؛وبقوة؛في دينامية لم يعرفها من قبل،ويتجلى ذلك في لغته التي نسمع فيها نبض الكون ممتزجا بنبض الذات،وفي الإبدالات المجترَحة من قِبَل الذاكرة والخيال العالي فيه.فهو شعر يُفكر بالصور أكثر مما يفكر بالكلمات المتداولة في الشعريات السابقة.إذ اللغة فيه تعود إلى النبع البدائي ،حيث تقول وجودَها الذي انبثق منه الوجود.