في رأيي الشخصي المتواضع وتصوراتي الانطباعية العامة أن الشعر التعليمي هو نوع إبداعي من أصعب أنواع الشعر، بخلاف آراء معظم النقاد الذين يذهبون إلى أن النظم ليس شعرًا، وأن الخيال مكوّن أساسي للشعر؛ لأن رأيهم ينطلق من مفهوم الفصل بين النظم والشعر، وهو فصل منطقي من جهة، ولكن من جهة أخرى أرى أن النظم كما يقال عنه قد يكون أصعب من الشعر أحيانًا؛ لأنه يعتمد على مقاييس علمية لضبط الموضوع المنظوم، أما الشعر فيعتمد على معيار الخيال الذي فيه سعة، والموضوعات الشعرية بالبوطيقا المعهودة أسهل ما تكون، فهي غزل بأنف المحبوبة وعينيها وجيدها وركبتها، أو مديح للناقة وصاحبها، أو للسيارة وإطاراتها، أو هجاء وسب لأي وغد، وهكذا، أغراض بسيطة مقارنة بالشعر التعليمي، ونحن هنا لا نتحدث عن الشعر وفق معيار الجمال، ولكن من باب التقييم العام، فإنَّ كل شكل شعري هو من وجهٍ ما مُهِمٌّ. وعمومًا قد قيل في هذا السياق إنَّ الفكرة الشعرية تختلف عمَّا سواها في أنها تتطلب الاستغراق الذهني في حالة الشرود عن العوالم المحسوسة، والاستعداد النفسي للخروج عن السائد والمألوف.
وجوهر الفكرة الشعرية هو استدعاء أسلوب تعبيري غير اعتيادي عن المشاعر والأحاسيس، وعن قضايا الفرد والمجتمع.. أسلوب يستحبُّ أن يسري حسب فرضية الجنون المقنَّن، أو التمرُّد الواعي، أي كسر القالب الرسمي بطريقة متوافقة نفسيًّا مع أصعب أنماط العادات والتقاليد وأعقَد صياغات النظم والقوانين واللوائح والقواعد، والنقطة المهمة هنا عي كيف نستطيع كتابة شعر (نظم) تعليمي بأسلوب علمي مشوق يجاري الأساليب الأدبية ويوازيها ويستطيع أن يحضر بقوة وأن ينافس؟!
الفكرة الشعرية – حتى وإن استندت نظريًّا إلى النحو واللغة والعروض – إلا أنها يجب أن تنطلق إجرائيًّا وفعليًّا من وسط المعطى الاجتماعي، ومن قلب فانتازيا الوجود، وفق مسار العدول الإبداعي، وأن تتحرك في المساحات الصعبة غير المتاحة، وتوجد لنفسها مكانًا في المجازات الشاسعة والخيالات الواسعة، ولا تعتمد على عناصر محسوسة ومعروفة أو تكون مجرد (صوت).
وكمثال لذلك، فإن التصور العام للون البحر أنه أزرق، وقد يرد تصور أنه أبيض قياسًا على اللون العام للماء، ولكن لا يمكن أن تتصور – مثلاً – أن لون البحر أحمر، غير أنه في مجال المجاز الأدبي يمكن اعتبار لون البحر أحمر، ومن هنا سمعنا كلنا عن البحر الأحمر والبحر الأبيض والبحر الأسود، وهي مسميات مستعارة من استعمالات مجازية للناس عبر التاريخ البشري اطَّردَت واشتهرت وصارت دلالاتها المعنوية متماهية مع المسمى المتداول في الخارطة الجغرافية والذاكرة الجيوسياسية والقاموس اللغوي.
وهكذا الشعر، توازن بين الحقيقة والمجاز، بين ما هو مطلق وما هو نسبي، بين ما هو واقع وما هو افتراضي، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
وبالمحصلة الإجمالية نقول:
إن الشاعرية لا تكمن في مجرد نظم الشعر، كما أنها لا تعتمد فقط على عنصر الخيال.. الشاعرية هي أسلوبك الجميل وروحك الحلوة.. ومن الممكن أن تكون شاعرًا ولو لم تكتب في حياتك حتى قصيدة.. إذ إنك تستطيع أن تتكلم بشاعرية، أو تكتب مقالة بشاعرية، أو تنتقد بشاعرية..
ما كل نظمٍ يسمى شعرًا، ولا كل شاعرٍ هو شاعر بالضرورة..
الشعر هو تفننك – قدر الإمكان – في تحويل الكلام المباشر العادي إلى كلام ساحر غير عادي، إلى شيء جديد وغير عادي!