لا تتحرك الإرادة إلا من بعثة روحية و نهضة نفسية تشعل فتيل الإبداع في كل جوانب الحياة من شعر وموسيقى وتشكيل وأدب وعلوم وفلسفة …
إلا أن روح المجتمع الإنساني لا تنبض ولا تتدفق على أساس الفلسفة والعلوم، بل هي تتحرك بالشعور والوجدان والعواطف الصادقة؛ فحـب الله والأرض والطبيعة والجمال، والانحياز إلى الحق والعدل، والشعور بالألم عند الفقد والفرح، عند الولادة.. هذه كلها لا تحسها العلوم والفلسفة، بل نستشفها من الطبيعة والفنون الجميلة وأولها الشعر… ولو فقدت الإنسانية هذا الشعور لانعدم رونق الحياة وأصبحت قفارا بلا إحساس ولا متعة…
والشعر شكل من أشكال التعبير الأدبي الذي يحرك المشاعر والوجدان.. و يستخدم الجمالية والإيقاع في اللغة لإثارة المشاعر، من تحفيز التفكير… نكز الوعي… ونقل الأفكار والاحداث.
غالبًا ما يستخدم الشعر تقنيات مختلفة مثل القافية والوزن والاستعارة والرمزية والموسيقى الداخلية والخارجية وخلق صور حية بديعية وبلاغية وبيانية لإثارة المشاعر لدى القارئ أو السامع؛ لشد انتباهه واهتمامه لتسجيل الوقائع والاحداث، واستكشاف المواضيع، و تحدي الإدراكات. هكذا يصير للشعر تاثيرات عميقة، تتراوح بين إلهام العواطف وإثارة الخيال والتأمل والتفكير وملامسة الدواخل، إلى الحفاظ على اللغة و الثقافة والقيم والتقاليد..
فقد لعب الشعر دورًا هامًا في المجتمعات على مر العصور وما زال مستمرا في القيام بذلك من خلال نقل القيم الثقافية، والمعرفية، والأحداث التاريخية، والتعبير عن المواقف السياسية، والتجاذبات الحزبية…واشكال التمرد المجتمعية..كما الاحتفاء بالأبطال والزعماء، والمقاومين والشهداء، واستكشاف تجربة الإنسان عبر التاريخ، خصوصا في العصر الحديث الذي تطورت فيه التكنولوجيا وأصبحت وسائل التواصل في متناول الجميع؛ مما رفع الحدود وألغى المسافات الجغرافية وأتاح للإنسان التعبير عن مواقفه وآرائه من خلال الأجناس الأدبية وعلى رأسها القصائد الشعرية التي توثق التاريخ والتحولات المجتمعية والأحداث المتسارعة المتصارعة بالحرف والصوت والصورة…
قال الجاحظ: “الشعر شيء تجيـش بـه صدورنا فنقذفه على ألسنتنا..
وقال جرجـي زيـدان “الشعر من الفنون الجميلة يسميها العـرب الآداب الرفيعـة، وهـي الرسـم والموسيقى والشعر، ومرجعها إلى تصوير جمال الطبيعة، وكل منها يعبر بطريقته الخاصة عن تجربة نفسية، فالرسم يعبر بالألوان والظلال، والموسيقى تعبر بالإيقاع والأنغام.
وقال حسن جـاد حسن: والشعر يعبر بالألفاظ والكلمات ويصور الطبيعة بالخيال، فهو لغة النفس، أو هو صور ظاهرة لحقائق غير ظاهرة.
وأقول :الشعر هو الصوت الصداح للمعذبين في الأرض..
للفوضى العارمة التي يشهدها العالم العربي ذاتيا وموضوعيا.. هو أكثر أنواع الكتابات فوضوية، لكنه أيضا أكثرها عمقا و التحاما بشارع عربي مكلوم تتعايش فيه المتناقضات.. ترتب فيه المزاجيات، وتحلق فيه القيود بعيدا عن الأسوار والأقفال.. بعيدا عن القواعد والقوالب والقوانين الجاهزة التي عرفها ويعرفها الشارع العربي.. الشعر يعكس صدق المواطن العربي بكل ما يحمل من خيبات.. من أحلام مجهضة.. ومن أمان كلما نمت في أحشائنا قاموا بتلقيحنا بحقن تستدرج كل العلل نحو أجسادنا وعقولنا فيصيبها الهزال والسعال..
ونعود من حيث انطلقنا كما سيزيف في حمله للصخرة..
الشعر لا يدعو إلى ضبط النفس …ليس فيه خطوط حمراء تلجم القريحة.. يحتاج فقط إحساسا عميقا بذاتك وما حولك.. ورصيدا لغويا غنيا.. وأدوات تمكنك من التحليق بعيدا في سماء اللغة صورا واستعارات وانزياحات ترسم لوحات، تصير خطابا موجها إلى الإنسان حيثما كان، وهذا ما يمنحه رخصة العبور نحو القلوب والعقول؛ كلما تمعنا وتعمقنا فيه، صار فتيلا يشعل الوعي ويوقظ المشاعر من سباتها.. وبقدر ما يكون المخاض عسيرا ننجب صورا عذراء لم يستعملها أحد من قبل. وهذا يضيف للغة أيضا.. لأن ارتباطها بالواقع يجعلها متوهجة دائما.. قريبة من المتلقي دائما.
قد يقول سامع للشعر الحديث إنه فقد بريقه، وأقول: إن شعراء الحداثة كانوا ومازالوا مدفوعين بهاجس التخطي والتجاوز ، وضرورة التميز عن سابقيهم من الشعراء. هاجسهم كان إبداع حداثة في الحداثة، على وزن ثورة في الثورة. هؤلاء الشعراء كانوا يرون في قتل الأب، في الشعر، الرمزية والضرورية؛ لتأكيد الذات الناشئة والمتوثبة، فقد كانوا يرون في المتنبي وامرئ القيس وأبي تمام أسلافهم، وفي أحمد شوقي والجواهري أجدادهم .وصراع الأجيال وارد على جميع الأصعدة على امتداد تاريخ البشرية .
ومهما ابتعد الشعر الحديث أو القصيدة الحداثوية عن القواعد والقوالب الجامدة المعروفة ، فإنها تبقى على علاقة صميمة للغاية مع الشعر بمعناه التأملي والفلسفي والوجداني بعيدا عن التوظيف الضيق والدعائي..
في القصيدة المتجددة ..نجد هموم الذات الانفرادية المحضة في وحدتها وعبثها ..في جنونها وكآبتها.. ثم يتسع الشعر للإحاطة بموضوعات مهملة من وقائع الحياة اليومية، والتعبير عن الأفق المسدود، الذي انغلق أمام طموحات الناشئة.. قصائد حزينة وقصائد عابثة، قصائد لاهية ومتمردة، ومتفتحة على حركة الحياة من كل جوانبها، لا قصائد الموقف المسبق، والمعلن مثل شعارات التظاهرات وشعر الأعياد والمناسبات؛ لأن الواقع المعيش يفرض التحام الشاعر بالشارع.. بالقضايا التي تؤرق الشعوب، ولن يكون في مستوى التحديات التي يعرفها العالم إلا إذا تبنى هذه القضايا.. ضمنها كتاباته مع تسليط الضوء على العلل التي تنخر المجتمعات واقتراح بدائل تنير دروب المستقبل…
الشعر الحديث لا يقدم رؤية جاهزة مكتملة ونهائية، بل يعمل على التقاط العابر وكشف الغامض، يلاعب الأحداث والمشاعر ملاعبة تتخذ شكل الغرابة السريالية أو السخرية في نكز موجع للوعي والفكر والاحساس.. إنه الشاعر الهامشي.. المقهور الذي يرفض الاستسلام والانهزام لكن لا حول له غير الحرف، به يحاول استنهاض الهمم من أجل غد أفضل، إنه الشاعر المتمرد المناضل والمقاوم، لا الرؤيوي أو الرسولي !
ان اختلاف الشعراء المجددين عن الشعراء القدامى، هو اختلاف في الحساسية ،في النبرة الشعرية، أكثر منه في الموقف، وفي التقاط الحسي البصري، للموضوع أكثر منه في الموضوع نفسه. والحقائق الجارحة التي تصفعنا يوميا، حيثما ولينا وجوهنا، تقف لنا بالمرصاد، مهما تنوعت طرق الهروب. نجدها في الصحف والمجلات والإذاعات، وفي الممارسات المختلفة.. تدل على أننا أمة يباح دمها في كل مكان. كما أنها أصبحت عالة على الوضع الدولي برمته إذا ما ظلت على حالها، علما أنه ليس ثمة مشروع عربي يطيح بهذه الكيانات المهلهلة المستسلمة؛ ليعيد سبكها في حركة نضالية، بحجم الأمة العربية الكبيرة، وأيضا بحجم مشكلاتها المتفاقمة، في الداخل والخارج.. هناك أزمة :الحروب.. الجوع.. الفقر والأمية والجهل وأزمات تنموية، وصلت إلى طريق مسدود في كل الأقطار العربية على اختلاف أنظمتها.. وما حدث ويحدث في غزة العزة خير مثال وانصع دليل على ما وصلت إليه الأمة العربية من ضعف وقلة حيلة.. ما يستدعي منا جميعا تجييش مشاعرنا وأحاسيسنا ووعينا بما يحدث؛ لكتابة شعر يطلق اللغة قنابل توقظ الناشئة من سباتها العميق.. تحررها من خوفها المزمن، و تشفيها من موتها السريري..
ولأن الشعر يحتاج جوّا من الحرية والانطلاق؛ فليس أقل من يوم عالمي أو عربي للشعر ، يفك قيود المأسور من الغضب، ويوفر للمبدع التلقائية، والمبادرة والقدرة على ابتكار حلول جديدة، بأساليب جديدة، تتجاوب مع احتياجات المجتمع العربي، تتجاوز روح العصر من أجل تكاثف يصوب سير المجتمع، نحو الأهداف المتوخاة من نضاله. ما دام الشعر أسلوبا نضاليا.. سلاحا سلميا من أجل خلق وحدة تحفظ التوازن بين المحلي والإقليمي والدولي.
كثير من النقاد ينتقدون الطرق التي أضحى الشعر يدرس بها في المدارس والجامعات، والتي أفقدت الأدب روحه، وأفرغت النصوص من محتواها؛ حتى ليكاد يكون أمرا تقنيا صعبا ومملا، يدفع التلاميذ والطلبة إلى رفضه والابتعاد عنه، وفي ذلك قتل للملكات الفطرية في الانسان…و التي نحن في حاجة ماسة لصقلها وتنميتها …
يقول نزار قباني: “الشعر موقف أخلاقي لا تَصَنُّع فيه و لا تكلّف، هو طهارة من الداخل و طهارة من الخارج”، بهذا المعنى يصير الشعر منبعا للخير كله و الفضيلة كلها..
إن هذا الشعر الذي يلتزم بشروط الصدق والطهارة لا يمكن أن ينتج إلا “القصائد العظيمة التي لا تهرب ولا تلتجئ.. وإنما تسافر كالبرق من بلد إلى بلد، لتشعل حرائق الحرية في كل مكان”.
الشعر حركة توحيدية، لا حركة انفصالية … همزة وَصْل، لا همزَة قطع. هو فنّ الاختلاط بالآخرين، لا فنّ العزلة.. فنّ الملامسة و الحنان، لا فنّ إلقاء القبض على الآخرين”، و إكراههم على الاستماع إلى شعر لا يعكس همومهم و لا يساير حياتهم…هكذا يرى نزار قباني: “الشعر الموجود في عيون الناس، و في أصواتهم، و في عَرَقهم، و دموعهم، و ضحكاتهم، ووظيفة الشاعر أن يرسم المشهد الشعبي الكبير في قصيدة تعكس المجتمع بكل أطيافه، أفقيا وعموديا..
من خلال كل ما سبق نخلص مع نزار إلى القول: إن “الشعر هو الإنسان”. هذا الإنسان الذي ينشد نسيم الحرية و يرفض القيود بجميع أشكالها و صورها المتعددة والمتنوعة .
ويقول درويش: ونحن، شعب الشعر كما ندّعي، نشاهد سقوط أحد قلاعنا الأخيرة، دون أن نبدي رغبة في المقاومة، كما يقول: الشعر هو الذي يعيد الحياة إلى اللغة، عندما تُستهلك وتصبح مجرد لغة يومية، مبتذلة ودارجة. الشعر هو الذي يحيي اللغة، وهو الذي يطورها وهو الذي يعرف الإنسان بوجوده من خلالها. واللغة هي أصل الشعر، لكن الشعر هو أيضاً يشكل أصلاً آخر للغة، أصلاً للسلالة اللغوية، وأعتقد أن لغتي الشعرية ليست لغة ثرية، بل أعتقد أن لغتي الشعرية الى حد ما هي لغة متقشفة..
اذا كان درويش يقول عن لغته “متقشفة”؛ فماذا عن لغة المدرسين في مدارسنا وجامعاتنا الذين أفقدوا الشعر إحساسه وماهيته بطرق التدريس الجافة التي لا تشد الناشئة لقراءة الشعر وفهمه وتدبره، ولو اجتهدوا قليلا في ذلك لوجدوا في الشعر ما يوقد فتيل الوعي فيهم، و ما يهز أوتار أعصابهم، ويوسع دائرة عقولهم واهتماماتهم، ويطالعون من التاريخ ما يفسح آفاق تفكيرهم؛ فالشعر يكتب التاريخ الخلفي للشعوب، وما يحاك في الكواليس وتحت الطاولات، وفي الدروب المظلمة للأوطان.
ولأن العالم يعرف تعطشا كبيرا لبعض الاحتياجات الجمالية -في ظل الحروب والصراعات والاوبئة- فان الشعر قادر على تلبيتها إذا اعتُرِف بدوره الاجتماعي والسياسي والثقافي في مجال التواصل بين البشر؛ حيث يشكل أداة لإيقاظ الوعي والتعبير عنه، لذلك أعلنت اليونسكو في مؤتمرها العام من الدورة الثلاثين التي عقدت بباريس في عام 1999، إعلان يوم 21 آذار/مارس يوما عالميا للشعر، وذلك بعد توصلها بمذكرة مطلبية من فعاليات مدنية عربية وأجنبية بشان ذلك.
كما أُعلِن في العالم العربي عن يوم الشعراء العرب والذي يوافق 25/ 10 -أكتوبر- من كل سنة، وتعتبر القدس واسطة القلادة التي تستدعي منا جميعا شحذ الفكر والوعي والإحساس؛ باعتبارها قضيتنا جميعا من البحر الى البحر، بل هي قضية الإنسانية جمعاء.. لأنها قضية وقوف الحق بوجه الباطل.. النور في وجه الظلام.. الإنسانية في وجه الوحشية.. والتسامح في وجه القهر والغطرسة..
ان الاحتفال بيوم الشعراء العرب هو تأكيد على الحاجة الماسة إلى الشعر حاضراً ومستقبلاً، بل تأكيد على أن هذه الحاجة تتعاظم لما يشهده العالم في كل حين من كوارث وحروب ونفث نار الحقد والكراهية والتعصب.. والشعر إنصات لصوت الإنسان الذي كلما علا صوته وصدح بالحرف؛ صـــدحت معه مشاعر المحبة والسلام.. إنه الصوت الداعي باستمرار إلى إنسانية الإنسان. رأبا للصدع الإنساني.. ردما للهوات بين المجتمعات، لما نشهده من دعوات للتفريق بين الإنسان وأخيه الإنسان، عبر وضع المتاريس وصنع حدود العار الواقعية والافتراضية على امتداد جغرافية العالم. وهو ما دأب عليه الأسلاف من الشعراء منذ هوميروس وطرفة بن العبد وغارسيا لوركا وبابلوا نيرودا، والسلالة لم تنقطع ولن تنقطع… هؤلاء الذين انتصروا لصوت الإنسان، لحريته وكرامتِه، نشْدَاناً للسلم والسلام. فالشعر يجعلنا مقتنعين بأن الحياة ممكنة بين الناس، وأن الأصل هو السلام.
إن الاحتفال بيوم الشعراء العرب تذكير للإنسان بالغاية من كينونته. وتدبر وجوده، فالشعر تأمل في سيرورة الكائن وهو أيضا مساءلة لماهية هذا الأخير. وتوصيف للعلائق التي شيدتها الذات مع نفسها ومع الذوات الأخرى.
نحن في حاجة إلى الشعر ما دمنا في حاجة إلى الإفصاح والتعبير، و الشعر خلاص اللغة من عقالها اليومي، وقيود الممنوع والانضباط للقوانين الجائرة ما دام في العالم قمع لإنسانية الإنسان…
لكن يوماً واحداً للاحتفال لا يكفي أمام خراب العالم؛ ولهذا فنحن مدعوون لنجعل من هذا اليومِ لحظةَ تذكيرٍ في كل ساعةٍ وحينٍ، بضرورة الإنصات إلى صوت الشاعر الذي يسكن كل إنسان.. هو يوم أيضاً لنتذكر الشعراء الذين شكلوا مخيال الإنسان وهذبوا وجدانه وأضاءوا كهوفه، ولجموا قليلاً وحشيته.