أولا: ما الهايكو؟
لقد أفضت الوسائل الرقمية -التي أضحت جزءا من هُوية المبحرين- إلى انتشار ثقافة الضحالة والبساطة الظاهرة الميالة إلى إدراك الواقع على مستوى الحواس والابتهاج بالجمال الطبيعي. ولقد أدَّى اندماج بعض المواكب العربية في تلك الثقافة إلى الانفتاح على إحدى التجارب الشعرية التي تعد غُرَّة الشعر الياباني، وهي ومضة (الهايكو) وهو شعر عجيب الشأن، قصير العبارة يعوم في محيط من الطبيعة الساذجة التي تقطع صلتها بالمساحيق البلاغية المصطنعة، مطلقة العنان للإنسان بالرتع في الرياض الذفرة، التي تعيد له فطرته وتجعله يحس وينتشي ويشعر ويتألم ويرضى ويشتاق، كما تظهر شذرات الهايكو الذي يعد شكلا شعريا يابانيا قائما على عبارات بسيطة ترنو الآذان إلى سماعها، وتهتز القلوب إلى طربها، شعر مولع بوصف الطبيعة الحسية، وهو مقطوعة مكونة من سبعة عشر مقطعا، تتوزعها ثلاثة أسطر شعرية. “والشاعر في فن الهايكو يعالج تجربة قائمة على الموضوع الموسمي ذي العلاقة الوثيقة بمفردات الطبيعة المحيطة، وهذه التجربة تكون في الهايكو مقصودة لذاتها، ولا تملك قيمة خارج موضوعها. وتهتمّ هذه القصائد بما يسمى بالموضوعة الموسمية، وهذه الموضوعة تعني إلزام الشاعر بأن يُضمِّن قصيدته إحساسا بموسم من مواسم السنة”. ومن شرائط شعر الهايكو:
ثانيا: خصائص شعر الهايكو الياباني:
الاقتصاد في توظيف ألفاظ اللغة: إنها مقطوعة موجزة من كلمات قليلة، ترسل رسائل معبرة عبر الحذف الضمني. وتتضمن سبعة عشر مقطعا موزعة على ثلاثة أسطر، السطر الأول مكون من خمسة مقاطع، والسطر الثاني من سبعة مقاطع، والسطر الأخير من خمسة مقاطع؛ جملها قصيرة تحاكي عمر الأشياء سريعة الزوال مثل طَهْوِ بيضة على شاكلة قول الشاعر (ماساكي ) من اليابان:
لمحة الشمس
تُظهِر أخيرا
إجازة الفصل المطير
- البساطة الظاهرية الممزوجة بعمق باطني: إنه شعر لحظي يقوم على الوصف البسيط المعبر عن الجمال الطبيعي في مقطوعات “من السهل الوصول إلى دلالاتها، ولعل مرد ذلك يعود إلى بساطته الظاهرة، لكن عمقه الفلسفي والجمالي يدل على عكس ذلك،” كما يتضح من هذه الشذرة التي كتبها (يوسا بوسون):
أحرث الحقل
الغيمة الثابتة
تضمحلّ
ج. الاحتفال بعناصر الطبيعة وتوظيف الحواس: إنها قصائد الوصف الدقيق التي “ولدت من كلمة (فصل) فالهايكو يكرس لرفعة الطبيعة والحياة اليومية في الشعر بواسطة التعبير بالكلمات الموسمية، من وقت الاستيقاظ إلى النوم،” التي تعكس العلاقة بين الإنسان وباقي عناصر الطبيعة التي يراها أمامه، مع الإصرار على توظيف الحواس في أثناء التعامل مع تلك العناصر، لإظهار تقلبات صورها العظيمة التي تضع الإنسان تارة بين صراط الإعجاب والنشوة، وتارة أخرى تلهمه الشعور باليأس والحزن كما يؤكد (ماتسو باشو) في هذه الشذرة:
يذوي الربيع
تصرخ الطيور
أعين الأسماك مملوءة بالدموع
د. التحكيك والتشذيب: تمر اللفظة في مقطوعة الهايكو عبر مصفاة فنية بالغة الدقة في التنقيح، الذي يجعلها تبلغ منزلة الصفاء الشعري المعبر عن الحالة الشعورية أجلى تعبير يولد لدى القارئ الابتسامة المبهجة أو السخرية المزعجة، سواء اقتصرت على نعت الوقائع اليومية المشهدية كما هي، أو اعتمدت ألفاظا خيالية في مبالغاتها التي تضاهي الطبيعة في جمالها وتنوعها على شاكلة (شيكي ما ساؤكا) في هذه الشذرة:
الغيث الفاتر
يداعب
الشوكة العارية
تلك هي خصائص شعر الهايكو الياباني الذي بلغ الغاية في البهاء الذي لا أمَدَ بعده، والذي يحتفي بقصر متن العبارة الصافية البسيطة المبتعدة عن الصور البلاغية في أثناء وصف المظاهر الطبيعية المشهدية سريعة الزوال، لكن مع الشعراء الجدد “في العصر الحديث أصبح الهايكو أكثر تحررا من القيود، وأقرب إلى الشعر العربي في بعده الجغرافي والثقافي؛ حاول شعراؤه الهروب إلى الحلم من واقع اغترابي زخم بالتناقضات والصراع بين التقاليد وبين الحداثة، غدت قصائد الهايكو تجسد الحقيقة… فوجدنا توظيفهم بكثرة للاستعارة والتجسيد. إنها محاولات لإزالة الصور النمطية التي كان مطلق مصدرها من الطبيعة ولا غير الطبيعة؛ قصائد الهايكو المعاصر أحدثت قطيعة مع الروح الرومانسية، مستندة بقوة إلى الأبعاد الرمزية أو السريالية أو التجريدية.” إذ تحرر الشعراء الجدد من صرامة المقاطع السبعة عشر، كما طوَوْا الكشح عن توظيف الكلمات التي تحيل على فصول السنة.
ثالثا: شعر الهايكو في الأدب العربي المعاصر
لقد تلقف لفيف من الشعراء العرب هذه التجربة الشعرية التي ساعدت الوسائل الرقمية على انتشارها في الآداب العالمية، فأبدعوا مقطوعات شعرية تحاكي (الهايكو) في صغر متنه وفي ارتمائه في أحضان الطبيعة، ناهيك عن حرصهم على مشهدية اللحظة وسرعة زوالها، بله الاتكاء على الألفاظ الحسية البسيطة المعبرة عن الموقف، من دون الحاجة إلى الصور البيانية التي ترقش الكلام وتطيله بلا طائل. إنها ومضات عربية بالغة الكثافة، وسجلات لغوية كسرت الحدود بين الشعر والنثر، وحلقت في أكوان واقعية ومتخيلة غير متوقعة مولدة للدهشة ومستحدثة لدلالات طريفة لا حدود لضفافها، لكنها في بعض الأحيان تشوبها هفوات لغوية تقلل من فنيتها فتجعلها في منزلة الأعراف بين الشعر والنثر التوقيعي. وعلى الرغم من حفاظ الشعراء العرب على الأسطر الثلاثة، إلا أنهم لم يلتزموا نظام المقاطع الصوتية، الذي استبدلوا به عدد الكلمات في كل سطر. ويلخص الكاتب (محمود عبد الرحيم الرجبي) شرائط مقطوعة الهايكو التي أجلِّي عنها في هذه الملتقطات:
- كلمات جميلة بعيدة عن المبالغة في وصف الحدث الطبيعي أو المنظر بعفوية، ومن دون تدبر أو تفكر، تماما كما يفعل الطفل، أو الشخص الذي يرى المنظر للمرة الأولى فيندهش لما يرى.
- يوظف الشاعر المفلق المشاعر والأحاسيس المتدفقة ليصبها في قالب فني مشهدي لا يتجاوز سبع عشرة كلمة، مع التقيد بخمس كلمات في السطر الأول، وسبع كلمات في السطر الثاني، وخمس كلمات في السطر الشعري الثالث.
- تنتقى الألفاظ بعفوية ترسم صورة مُحَسَّة مترابطة العناصر.
- الإيجاز اللفظي وشاعرية اللغة المثيرة للحيرة والتساؤل والاستغراب.
رابعا: نماذج تحليلية
الحق أن هذا الضرب من الشعر له مسلك دقيق، ولمحة كالخلس يجلبها الشاعر الحاذق العارف بأدوات الصياغة الفنية اعتمادا على المشهدية المدهشة التي تثير الحيرة والاستغراب، وتنبه إلى نُكت عجيبة لا يتفطَّن إليها إلا بمزاولة التأمل. إنها ومضات تبدو عندما يستكمل قائلوها ملكة الفصاحة، ويحصلون أساس الصناعة الفنية، مثل سبيكة ذهبية، كل جوهرة من جواهرها مضمومة إلى لِفقها في أبهى مظهر يخلب الألباب، ويثير الإعجاب والاستغراب مثل هذا المشهد الشعري المفروش تحت الشمس، فتتحرك الغيمة/ الروح لتحجب الشعر عن الشمس، إنها شذرة تنفتح على أكثر من دِلالة، ربما تأتي تلك الغيمة بوابل هتَّانٍ يمحو شعر الشاعر، وربما تزيد من طراوته وتحجبه عن اليبوسة كما يحجب الجسد الروح، وربما تجتمع الشمس والغيمة لِتهَبَا له الحياة والنمو المتجدد كما تهب الغيمة والشمس الحياة للأرض على شاكلة قول عبد الله أحمد الأسمري:
أفرش شعري
تحت الشمس
روحي غيمة
أو في شذرته التي يضمنها موقفا سياسيا من الموت الأسود الذي تحدثه الطائرات / الغراب المحلقة في سماء (حلب) الملقَّبة بالشهباء لبياض حجارتها على هذا المنوال البسيط الذي يجمع بين المتضادين: الغراب/ الشهباء، لبناء صورة بلاغية قائمة على الخرق الذي ينأى بالومضة عن المباشرة.
الموت والغراب
يحلقان فوقها
حلب الشهباء
لكن لا شيء أشنع من كَدَرٍ بعد صفْوٍ، ومن سقطات لغوية بعد حرص على تشييد بنيان الحفاظ على قواعد اللغة، التي يُفترض في الشعراء أن يكونوا منارات يُهتدى بهَدْيهم في التمسك بقواعد اللغة، ولاسيما أن أغلب الذين كتبوا ومضات الهايكو لا يلتزمون بالبحور الخليلية كما لا يلتزمون بانتظام التفعيلات العروضية التي تفرض على الشاعر الخروج عن القواعد لدواعي المحافظة على الوزن والإيقاع، على شاكلة هذه الومضة الجميلة في متنها الرائعة في دلالاتها، التي تتبدى نزهة للبصائر والأبصار، لكنها سقطتْ في عدم مراعاة قاعدة الاسم المنقوص المنوَّن، حيث يجب حذف (ياء) اللفظة الأخيرة من شذرة الشاعر (عبد الله الاسمري) على هذا الشكل: (قاسٍ) وهو حذف يضيف للسطر الشعري نغمية لافتة لا تبقى للسطر الشعري مع بقاء (ياء) المنقوص، بل إن فصاحة الومضة وبراعة إيقاعها، كانت ستبلغ منتهاها لو استعمل الشاعر صيغة منتهى الجموع لجمع كلمة (زهر) فتصبح ( الأزاهير) التي تكثِّر من الأزاهير المتبادلة، وتوفر للسطر الشعري نغمية عالية متلائمة مع نغمية (الابتسامات)، بدل استعمال جمع الكثرة (الزهور) في هذه الشذرة التي يقول فيها:
باسم الثورة
تبادلوا الزهور والابتسامات
عزاء قاسي
على حذو الشذرة الآنفة، لابد لقارئ ديوان عبد الله الأسمري من أن يركب ألواح القواعد المنجية من الغرق في بعض الغمرات من الديوان، الذي لا أنكر أن الشاعر قد أفلح كثيرا في استقطار جمال شعر الهايكو، وأن حقل كلماته وعباراته الشعرية أكثر خصوبة من صحراء بعض الومضات القاحلة في الديوان، لكن الحق الذي لا مرية فيه أن لائحة غنائم الديوان لا تكتمل من دون الالتزام بالإبداع ضمن قواعد اللغة، لأن تلك القواعد لا تعد فقط من أدوات التعبير عن المعنى، بل هي المسؤولة عن إنتاج المعنى، وهي المحدد لكيفية التعبير السليم عن المراد. تأمل معي هذه الشذرة التي ذكرتني بحادثة (أبي سالح) التي قالها الأعرابي ل (أبي صالح) فخجل من نفسه عندما قال إن العرب تستبدل (بالصَّاد) (سِينًا) على هذه الشاكلة، حيث أضحى الشتاء القارس، قارصا مثل ذويبة مؤلمة أو مثل لبن يلذع اللسان. يقول (عبد الله الأسمري):
الشتاء قارص
في محطات القطارات
مشرد يرتجف
وفي ومضة أخرى، يبدو أن الشاعر لم يتمكن من التفريق بين فعل(حَطَم) ومطاوعه (تحطَّمَ) مستعملا لفظة (المحطوم) بدل لفظتي:(الحَطُوم) من الفعل (حَطَمَ) أو (المحَطَّم) من الفعل (تحَطَّم)، قائلا:
تشبث ضوء الشمس
بالعمود المحطوم
رياح تجوس
القواعد هي المهاد التي تضمن للـمِفَنَّ الفلَج من الوقوع في دركات الشين كما وقعت فيه هذه الومضة من الديوان الذي احتفل بكثير من المظاهر الجمالية التي تخلب الألباب، لكن المتعة التي تقدمها شذرات الديوان تنطفئ أنوارها عندما تزلق بالشاعر اللسان فيزل في غلطات لا مسَوِّغ لها مثل هذه العثرة الفاحشة التي لم تدرك الموقع الإعرابي لكلمة ( ممتلئ) التي جاءت في السياق حالا منصوبة(ممتلئًا) كما في قوله:
الليل يمشي
ممتلئ بالفجيعة
يتلمس النور الذي هرب
بعد هذا التطواف الماتع في الديوان، أؤكد أن ومضات الأسمري مبهرة بمعانيها الفريدة رغم بساطة كلماتها، إنها تلميحات منفتحة على دلالات تحيل على أشياء مُحَسَّة، فيها كثير من العمق والتأمل في عناصر الطبيعة. ومضات لم تفارق معمارية شعر الهايكو الياباني كما أنتجه الشعراء المؤسسون للتجربة، لكن الشاعر ـــ في بعض الأحيان ــــ يبدو مثل حميل جَعْفَرٍ يأتي بكل شيء من دون تنقير واعتيام وانتجاث يجعله يفوز في ما يبدعه بالجواهر والدُّرَر، بدل الاكتفاء بتحصيل الحَجَر.
وإذا انتقلنا إلى شاعر آخر أبدى عناية خاصة بكتابة شعر الهايكو، فإننا ننتقل إلى ربوة لم تدركها أمواه الآخرين، ربوة بلا كبوة، وقدرة على حياكة الومضات بلا عثرة ولا هفوة، شَعرَ فما عَثرَ، فكانت شذراته مثل الَّلهَب إذا اسْتَعرَ،كما توضح هذه الومضات الشعرية للشاعر (فادي فرح عوض) الصَّنَع الماهر بصناعته الفنية الذي يُرينا المألوف في الصور غير المألوفة المدهشة التي لا تطؤها الأقدام من ديوان (شقائق النعمان أم فراشات)، الذي أذاعه على (اليوتيوب) بالصوت والصورة. ولقد تأملت مطاوي تلك الومضات فألفيتها من السهل الممتنع؛ فيها نُكَتٌ لطيفة مثل الشمس قريب ضوؤها، بعيد مرامها، بداياتها مشرقة، ونهاياتها مكتملة في البهاء والروعة المخرسة القائمة على تخيل الضوء المنكسر على المرآة الذي تحوله تجربة الشاعر إلى عالم غريب مدهش قائم على توضيح العلاقة بين السقوط الذي يفضي بالضوء إلى الانكسار، لكن المرآة تنجو؛ وهي صورة شعرية حسِّية نواتها انكسار الضوء الذي يغير دلالة الانكسار الحقيقية الذي ينجم عنه رنين ووسوسة، لتوليد مغزى آخر يستفاد من السياق هو الانعطاف على شاكلة قوله:
يسقط ضوء على الــمِرآة
هو ينكسر
هي لم تصب بأذى.
هذا هدى وبيان عميت عن الكثير أسراره العجيبة، فجاء الشاعر ( فادي فرح عوض) لِيُنبِّه بفطنته ما غُبِّيَ عن الآخرين، وليرفع الحجب بيننا وبين كنه الصورة على شاكلة هذه الشذرة التي بقيت حقيقتها هامدة قد استولى عليها الخفاء حتى استنهضها الشاعر بدقة تأمله ورهافة إحساسه الذي كشف الغطاء عن حقائق مدهشة، وأسرار غريبة تهز النفس وتحرك كلماتها المرهفة الشفافة المشاعر على شاكلة هذه الومضة التي تسمع لها رنينا مثل رنين الموسيقى الهادئة، ورفيفًا مثل رفيف الزهر، وقَسيبًا مثل قسيب الماء تحت أوراق الخريف؛ ومضة تبعث في النفس البهجة، وتصل بالقارئ إلى ذروة الانفعال بهذا السحر الحلال المرشوش بِمُستخْلَص أزاهير البهاء:
قطرة مطر
الرياح تحاول رفعها
بلا أجنحة
إنها شذرة عجيبة فائضة بنسائم الشعر معنًى ومبْنًى، لم تكره اللفظ الأبيَّ، ولم تدفع الكلم الأتيَّ رهْوًا سَهْوًا. شذرة أزالت الحُجُبَ عن صورة بسيطة مألوفة لقطرة ماء حاولت الريح العبث بها كأنها فراشة بلا أجنحة، لكن قريحة الشاعر أظهرتها صورة عجيبة غريبة في أبهى وأدق تعبير وأتم وأكمل معنى، فكانت رؤيته هدْيًا كشف الغطاء عن المألوف الغريب الذي إذا انتبه إليه ذو الُّلبِّ صاح في استغراب: يا ليت لي مثل ما أوتي هذا الشاعر المفلق من مثل هذه المصوغات المتلألئة التي تخلب الأبصار والبصائر، وتصنع للقراء الغبطة التي تنتشلهم من الدَّنَس والرداءة التي تهب عليهم ريحها العاصف من كل جانب.
ولكي أختصر وأقتصر أنتقل إلى الشاعر (سامح درويش) الذي يعد في المغرب فارس شعر الهايكو، بَاشَره بِجدٍّ وكَدٍّ حتى تدانتْ له عجائبه وخباياه. ولقد تواردت كثير من شواهد شذراته التي نظمها، أنه قد جرى فيها مجرى مألوف شعراء الهايكو اليابانيين على شاكلة هذه الومضة التي أحسن فيها الرصف وأتقن المؤاخاة بين ألفاظها مصورا الفراشة وهي ترفرف حوله وتقترب منه أكثر فأكثر، مظهرا مداهنته ولِينَه لها في عبارة بائجة: (أكتم ناري) جعلت ناره مطفأة وضوءه خافتا، بدل أن يثبت أنه بلا مِنَشَّة تطرد الفراشة، في مثل هذا السَّوق الذي خلق عالما تطبعه الدهشة لتوصيل خبرة فريدة أدركها الشاعر:
هذِهِ الفراشة
ترفرف حولي أكثر فأكثر
ظنَنْتُني أكتم ناري !
ولأجل استئناف خيط التحليل في ومضات الشاعر (سامح درويش)، أتوقف عند هذه الشذرة التي سَفَر هلالها فقالت في ست كلمات ما يستحق أن يكتب في صفحة أو أكثر، منشئا معنى عجيبا بديعا من قفزة سمكة الشابل الفضية التي تبدَّت في حركة تقوُّسها ليلا كأنها تلاعب نور القمر، ولو قال نور الهلال لكان أجود مرآة وأدق وصفا، حيث يشبه تقوس حركة السمكة في أثناء قفزها من الماء.
قفْزةٌ فضِّية،
سمكة الشَّابلْ
تلاعبُ القمَرْ
ومن بدائع ومضاته المتكئة على ألفاظ تنصب الحبائل بمفارقتها لدلالاتها الأصلية، لكنها لا تحوج القارئ للعثور على مغزاها إلى الحَفْرِ بالمَناقيش لإظهار خبيئها؛ لأنها شذرة وإن كانت ألفاظها غير سافرة المعنى، إلا أنها لا تخفي مكنونها، ولا تستر رونقها، ولا يفر عن القارئ اختلاس أسرارها، لأن الشيء إذا أضمر ثم وُضِّح، يكون أجود من أن يذكر بداءةً.
الهلال الذي
يتلامع في غابة الخيزران
مجرد منجل.
هذه المداراة في الإفصاح عن المراد، وهذه الكثافة المشهدية، وهذه العبارات التي تأوي إلى اللفظ السهل الذي يجتني ثمرات البهاء، تنقلنا من الآجن المطروق إلى عبارات تُعرِّض وتومئ، تثبت ولاشك “أنه متى أُريد الدِّلالة على معنى، فتُرِك أن يُصرَّح به ويُذكر باللفظ الذي هو له في اللغة، وعُمِدَ إلى معنًى آخر فأشير به إليه، وجُعِل دليلا عليه، كان للكلام بذلك حُسْنٌ ومزيَّة، لا يكونان إذا لم يُصنعْ ذلك، وذُكِرَ بِلفظه صريحًا.”لأن المزية والحسن في الكتابة الفنية تقوم على احتمال العبارة لوجه آخر غير الذي دلَّ عليه ظاهر الكلام على شاكلة الشذرة الآنفة، المبنية على تغيير أفق انتظار القارئ، إذ بدل أن يهب نور الهلال للغابة الحياة، يتحول تلألؤ أنواره إلى تظاهر باللمعان يصدر عن المنجل الذي يحطم الغابة ويكتم أنفاسها ويقتل نضارتها.
خامسا: تأزير
إذا قصدت أن أجعل لهذا الموضوع نتيجة تُتوِّج هذا البحث، فإنني أؤكد بما لا يدع رسيسا من الريب، أن شعراء الهايكو الخناذيذ قد نظموا في قليل اللفظ الَّلمَّاح عِقْد الَّلآلئ عندما أدخلوا العبارة الشعرية إلى مناطق تخلَّقت فيها خَلْقًا عجيبا ينتفض عن مدلولها وما تعنيه في الظاهر، بحثا عن الصفاء المطلق الذي يطير بطائرة الحلم الذي يبلغ بالإنسان ما لا يبلغه في أثناء اليقظة، مؤسِّسين لأنفسهم وجودا مغايرا واسع الرؤى، قد أينعت فيه أماليد البراعة والبلاغة، وأزهرت فيه غصون البيان التي تختال الزاهرية في طرائق الرصف العجيب والتنضيض الغريب، والتفنن في المعاني والألفاظ الـمُجْتنَّة من الرياض الذَّفِرَة التي تبسَّمت فيها الصور الشعرية البديعة كما تتبسم ثغور الأقحوان. شذرات رقَّت لطائفها، ودقَّت تعابيرها، فَتَفتَّحت أكمام أسماع القراء لاصطياد سانحها وبارحها. شعر يعبِّر بكلمات قليلة عن معان ذات تلميحات ليست لها ضفاف في النظرة إلى الوجود الطبيعي، وفي استكناه فلسفة الحياة والموت. شعر سعى شعراؤه المفلقون إلى توصيل الخبرة الفريدة المدركة بالتأمل لخلق حالات افتتان وإعجاب تولد الرضا والإشباع والدهشة.
تلك نغْبَة طائر، وقطرة من مطرة شعر الهايكو في الأدب العربي المعاصر، انتقرْتُ منه نُبَذًا لتكون دليلا على احتفال الشعراء الــمبرِّزين بهذا النوع الشعري الذي اسْتَوْلدْناهُ من أصلاب تجارب الشعر الياباني في ظل السماوات المفتوحة. ولقد صادف هذا النوع الشعري هوى رِبْضَةٍ من الشعراء العرب المعاصرين، فطاروا به بطائرة فنية تبدَّت في بعض النماذج الجيدة مثل ريش أجنحة الطواويس في البهاء والخلابة وقصر المتن على طريقة وَضْعِ الزُّفَرِ في الزِّفْرِ، أما في النماذج التي لم يستكمل أصحابها طرائق القول الشعري الماتع، لِضعف ملكاتهم وقصور آلاتهم، فقد تجلت ومضاتهم وشذراتهم تافهة الصور، سقيمة الأداء، ضائعة المعنى مثل شجر السَّرْو ليس لها ظِل ولا أثمار، لأن غاية الغايات التي ينشدها أصحابها هي الاحتفال بِنَمط الحياة الأدبية الأجنبية، وما تدعو إليه تلك التطريسات الــمُلَهْوجة من أقوال تبذُر بذور نَبْتَة شيطانية لَيْطانيَّةٍ تتعلق بكل ما يُقرِّبهم إلى المحتد الأجنبي.
ال____________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________________